«ليست ٱلمُواطَنةُ ماهيّةً مُعطاةً بصفة نهائيّة، بحيث ينبغي تثبيتُها وتوريثُها. إذْ سواء أتعلّق الأمر بالتّصور المُكوَّن عنها أمْ بالقواعد القانونيّة و، عموما، بمجموع المؤسسات والمُمارَسات الاجتماعيّة التي تُنَظِّمها، فهي لا تنفكّ تتطوّر. إنّها بناءٌ تاريخيّ. فتعريفات المُواطَنة لا تَتواطأ، بل هي نتاجُ صراعاتٍ وٱتِّفاقاتٍ بين تصوُّرات متنوعة وفئات ٱجتماعيّة مُتعارضة بحسب علاقات القوّة التي تقوم بينها. لقد تطوّر تعريفُها عبر الزمن ولا يزال آخذًا في التّطوُّر. وتتنوّع أشكالُها بين بلد وآخر. ورغم هذا، هناك سِمَةٌ مُشتركة في المُواطَنة الْمُعاصرة تتمثّل في ٱفتراض كونها ذات بُعد كُليّ/كونيّ.» (دومنيك شناﭙر) «[...] المواطنة عبارة عن جملة من القيم السياسية الوضعية التي تهدف، أصلا، إلى تقوية الشعور بالانتماء للمجتمع أو للدولة، وهو أمر محمود في ذاته، ولكنه يبقى سلوكا دنيويا خالصا، بينما المخالقة هي عبارة عن جملة من القيم الكلية التي فطر الله الإنسان عليها؛ وقد تتفرع عليها قيم أخرى وتقوم مقام الميزان الذي توزن به القيم الوضعية؛ وبهذا، فالإنسان أحوج إلى المخالقة منه إلى المواطنة، بل متى حصَّل المخالقة، استغنى عن تحصيل المواطنة، نظرا لأن كل مخالقة تلزم منها مواطنة خاصة تكون غايةً في النفع، لأنها تتأسس على صبغة ثابتة، لا على وضعية متغيرة، كما تكون غايةً في الاتساع، لأنها تنفتح على الآفاق الممتدة للعالم، ولا تنغلق داخل الحدود الضيقة للوطن.» (طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص. 167-168) "ٱلْمُواطَنة"، ٱبتداءً، لها دَلالةٌ قانونيّة يَتحدّد مُحتواها في أنّ "ٱلمُواطن" شخصٌ ذُو حقوق مدنيّة وسياسيّة بمُوجبها يَتمتّع بحُريّات فرديّة (حريّة الاعتقاد والتّعبير، حريّة التّنقُّل، الحق في الزواج، الحق في أن يُعَدّ بريئا إذَا ٱعتقلته الشرطة وقُدِّم إلى الْمُحاكَمة، الحق في أن يكون له مُحامٍ يُدافع عنه، الحق في أن يُحاكَم بقانون يَتساوى أمامه الجميع) وبحُقوق سياسيّة (حق الْمُشارَكة في الحياة السياسيّة وحقّ التّرشُّح لكل الْمَناصب والوظائف العامّة)، ممّا يَفرض عليه - في الْمُقابل- واجبات تُلزمه بأن يَحترم القوانين وبأن يُساهم في النّفقات العموميّة تَبعا لمَوارده وبأن يُدافع عن المجتمع الذي هو عُضو فيه إذَا تعرّض للتّهديد. ويَترتّب على هذا التّحديد أنّ "ٱلمُواطن" ليس فردا مُتعيِّنًا، بل هو مفهوم مُجرَّد وعامّ يَتّسم بطابع كُليّ يَجعلُه يَنطبق على كل إنسان بِغضّ النظر عن أيّ مُحدِّدات ظَرفيّة وخاصة. وبالتالي، فإنّ "ٱلْمُواطَنة" هي "ٱلإنسانيّة" نفسُها منظورا إليها في خُصوصيّتها الكُليّة التي تُعتبَر مَصدرَ "ٱمتيازاتٍ" و"واجباتٍ" يَحِقّ لجميع أفراد «ٱلنّوع ٱلبَشريّ» أن يَتمتّعوا بها على سواء. فٱشتراكُ النّاس بالتّساوِي في «مُقوِّمات ٱلإنسانيّة» هو أساس "ٱلْمُواطنة" في شُمولها لمجموع أعضاء ٱلْمُجتمع بصفتهم ذواتٍ قانونيّة وأخلاقيّة. لكنّ كونَ النّاس مُضطرِّين للوُجود ضمن حيِّز أرضيّ مُحدَّد ومُحدِّد (هو "ٱلبلد" أو "ٱلوطن" بصفته يُشكِّل الإطار حيث يقوم النِّظام الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يَسمح بتحقُّقهم كمُواطنين) أمرٌ يَجعل "ٱلْمُواطَنة" تَتعيَّن كنوع من «ٱلتّأرُّض/ٱلتّوطُّن» (تحيُّز مَكانيّ وزمانيّ في حُدود أرض/وطن ما) الذي من شأنه أن يَحُدّ من عُموميّتها وكَونيّتها بفعل خُضوعه لشُروط التّغيُّر والتّفاوُت الْمُلازِمة لواقع البُلدان والأوطان في تعدُّدها وٱختلافها. فهل "ٱلْمُواطَنة" وَضْعٌ قانونيّ ومَدنيّ تابِعٌ للمُشارَكة في سُكْنى الوطن كخُصوصيّة أمْ أنّها سَيْرورة إنسانيّة وكونيّة تُؤسَّس ٱجتماعيّا وسياسيّا بالشكل الذي يُمكِّن من تحقيق ما هو نَوعيّ وكُليّ ومُتعالٍ في ٱلْوُجود وٱلفعل الإنسانيَّيْن؟ إنّنا نجد أنّ "ٱلإنسان"، بما هو بَشرٌ ذُو جسم، يَتقوَّم ك«كائن أرضيّ». إذْ فضلا عن كون «ٱلأرض» تُمثِّل مُستقرَّ حياته ومَوْطنَ مَعاشه، فهو من طينها خُلِق وإليها يعود بعد الموت، ومنها يُبعَث يوم القيامة. غير أنّ «تَأْريض» الإنسان (بِنِسْبَته إلى الأرض) لا يُعبِّر عن كل ما هو جوهريّ فيه، لأنّ "ٱلإنسان" ليس مجرد «جسد بَشريّ»، وإنّما هو أيضا وبالأساس «رُوحٌ» («نَفْخة رُوحيّة»). فخَلْقُه بُدِئ من طين («وبَدَأ خَلْقَ الإنسان من طين.» [السجدة: 7])، لكنّ تسويتَه لَمْ تَنْتهِ إلا بعد أن نُفخ فيه من «رُوح ٱللّه» («ثُمّ سَوّاه ونَفَخَ فيه من رُوحه.» [السجدة: 9] ؛ «[...] فإذا سَوَّيْتُه ونَفختُ فيه من رُوحي، فَقَعُوا له ساجدين!» [الحِجْر: 29 وصَ: 72]). فالإنسان، إذًا، لا يَتحقّق كمجرد «كائن مُتأرِّض» لتعلُّق خَلْقه ومَعاشه بالأرض أو بصفته «كائنًا مُؤرِّضًا» لا يَفتأُ يُعلِّق وُجودَه وفعلَه بها، بل هو أيضا «مخلوقٌ سَماويٌّ ومُتسامٍ» بفعل تطلُّع رُوحه إلى "ٱلسّماء" طلبًا للانفكاك عمّا يَشدُّه إلى "ٱلأرض" وبحثًا عمّا يرفعه إلى مَعارِج "ٱلكمال". وفي الوقت الذي يُصرُّ «أهلُ ﭐلغِرَّة باللّه» على جعل "ﭐلإنسان" مجرد «دَابّة زاحفة» على الأرض إلى الحدّ الذي تجدهم يرون في الاستناد إلى «رسالة ﭐلسّماء» نوعا من الضلال والتَّضْليل، فإنّ «أهل ﭐلعِزَّة باللّه» لا يَتصورُون وُجودَ الإنسان إلا في ﭐتِّصاله الدّائم بالسّماء كأنّه «مَلاكٌ طائر» يَسْبَح في أعاليها، بل إنّه ليُحلِّق دَوْمًا في أرجائها بغير جناحين من حيث إنّ قُدرتَه على "ٱلتّفكُّر" تأمُّلا وتخيُّلا لا تَنِي تجعلُه يَنفكُّ عن حُدود تأرُّضه ليَنفتح على آفاق تَساميه تعبُّدًا وتخلُّقًا. ومن ثَمّ، فإنّ تأكيدَ أنّ "ﭐلإنسان" يَتحدَّد في وُجوده بهذا العالَم على أساس «ﭐلِاشتراك/ﭐلْمُشارَكة في ﭐلأرض كوطن له» يُغْفِل أنّ "ﭐلأرض"، بالنِّسبة إلى "ﭐلإنسان"، ليست «كُلّ ﭐلعالَم» وإنّما هي جُزء منه، وجُزء أصغر بكثير من أقرب الأجزاء ﭐلْمُماثِلة له في نظام المجموعة الشمسيّة وحدها. فالإنسان «مَوْجُودٌ-في-ﭐلعالَم/ﭐلكَوْن» وليس فقط في «كوكب ﭐلأرض» الذي لا وُجود له ولا ﭐستمرار إلا في إطار ذلك "ٱلعالَم" الفسيح الذي يُحيط به مُتجاوِزًا إيّاه والذي يَحكُمه كشرط موضوعيّ له. ولهذا ف"ﭐلْمُواطَنة"، قبل أن تكون «مُشارَكة في ٱلوطن»، هي بالأحرى «مُشارَكة في ﭐلْوُجود»، أيْ أنّها بالتّحديد "مُواجَدة" في إطار «ﭐلوَضْع ﭐلبَشريّ» بكل ما يَحكُمه من شُروط ويُميِّزه من مُقتضيَات ضمن ذلك "ﭐلعالَم" الذي لا يَنحصر في هذه "ﭐلأرض". حَقًّا، إنّ "ﭐلأرض" مُتعالِيَةٌ على "ﭐلإنسان" لكونها سابقةً لتعيُّنه الوُجوديّ. لكنّ كونَ «ماهيّة ﭐلإنسان» (أيْ حقيقته ﭐلْمُتصوَّرة عِلْمًا) سابقةً لتحقُّقه الأرضيّ يجعل "ﭐلإنسان" في جوهره مُتعاليًا على "ﭐلأرض"، ليس فقط لكون "ﭐلحياة" في مَبْدئها طارئةً على "ٱلأرض" من خارجها، بل أيضا من حيث إنّ "ٱلإنسان" يَحمل في وُجوده رُوحًا تتجاوز حُدودَ "ٱلأرض" وتبقى حتّى بعد فَناء جسمه كبَشر مُتأرِّض. فبالإنسان، إذًا، كانت "ﭐلأرض" أرضا وليس العكس، مِمّا يَجعل حَصْرَ "ﭐلْمُواطَنة" كما لو كانت مجرد «مُشارَكة في ﭐلْوُجود ضمن ﭐلوطن ﭐلأرضيّ» ﭐختزالا لوُجود "ٱلإنسان" النوعيّ في هذا "ٱلعالَم" ك«وُجود-من أجل-ﭐلتّعالِي». ولعلّ إدراكَ أنّ «ٱلِاشترك في ٱلأرض» هو نفسه لا يَتحقّق بالنِّسبة إلى كل سُكّان العالَم إلا بشكل مُتفاوِت لَأَمرٌ كفيلٌ بتأكيد خاصيّة «ﭐلتّعالِي ﭐلكَوْنيّ» الْمُميِّزة لحقيقة "ٱلْمُواطَنة". فالنّاس فوق الأرض لا يَتساوَوْن إلا في ﭐلِانتماء إليها بشكل عامٍّ. وإلا، فإنّهم في الواقع يَختلفون بين مُتوطِّن مُستقرّ ومُهاجر رحّال، وبين من ليس له من "ﭐلأرض" إلا صحراؤها أو جبالها أو ثُلوجها أو غابُها أو بحارها، وبين من حَظِيَ منها بنصيب وافر ومتنوع وبين من لا يَملك منها إلا حيث يَسعى بقدميه إلى أن يُقْبَر في إحدى جهاتها كيفما ﭐتّفق! بل إنّ الاشتراك في الوُجود ضمن أرض/وطن لا يَجعل "ﭐلإنسان"، في معظم الأحيان، إلا مُساكِنًا لأُناس على مَضض لشدّةِ أسباب التّنازُع والتّنافُر بينهم وبينه كما هو حال فئات «ٱلْمُستضعَفِين» (من "ٱلْمَحرومين" و"ٱلْمَنبوذين" و"ٱلْمُهمَّشين" في مُختلِف جهات الأرض) في علاقتهم بأصناف «ٱلْمُستكبِرين» (من "ٱلْمُسيطِرين" و"ٱلْمُستبدِّين" و"ٱلمُستغِلِّين"). من ٱلبيِّن، إذًا، أنّ «ﭐلْمُشارَكة في ﭐلأرض/ﭐلوطن» لا تَستنفد معنى "ﭐلْمُواطَنة" كوُجود أخلاقيّ وكونيّ للإنسان يَكفُل له ٱلتّمتُّع بكل الحُقوق المُقوِّمة للكرامة والحُريّة وﭐلتّحقق، من ثَمّ، بكل الواجبات الْمُحدِّدة للفضيلة والصلاح أخلاقيّا ومدنيّا. إنّها، بالأحرى، مُشارَكةٌ لا تُحقِّق إنسانيّةَ الإنسان - بما هو كائن مُتعالٍ في جوهره ومُتسامٍ بعمله- إلا من النّاحية ٱلصُّوريّة/ٱلشّكليّة. ومن أجل ذلك، فإنّ حَصر "ٱلْمُواطَنة" كتَأرُّض في إطار «ٱلوَضْع ٱلبشريّ» يَؤُول إلى تَطْبيع الوُجود الإنسانيّ ك«إخلاد إلى ٱلأرض» أو «ٱتِّضاع في حُدود مُمكنات ٱلتَّدْهير/ٱلتَّدْنيَة»، بحيث لا يَعُود "ٱلتّعالِي" مُمكنًا إلا بما هو «رغبةٌ في ٱلتّألُّه»، رغبة تَتّخذ صورةَ "إحداث" بلا قيد ولا شرط، أيْ "إبداع" لا يقوم بما هو فعل إنسانيّ إلا بصفته جُحودًا يُعاش كصراع من أجل «ٱنتزاع ٱلِاعتراف» تَملُّكًا وتَسيُّدًا في مُحيط من الأنداد ٱلْمُنافِسين، بل الأعداء ﭐلْمُنازِعين. وبِمَا أنّ تصوُّر "ٱلْمُواطَنة" ك«مُشارَكة في ٱلأرض/ٱلوطن» لا يَملِك إلا أنْ "يُوضِّع" وُجودَ الإنسان وعملَه بالنِّسبة إلى شُروطِ تأرُّضه دُنيويًّا وفي حُدود تحيُّزه ٱجتماعيّا وتاريخيًّا، فإنّ «ٱلأرض/ٱلوطن» تصير "مِحْور" كل سعي للإنسان الذي يكون عليه، بالتّالي، أن يَتّخذ وطنَه على شاكلة ذلك «ٱلْوَثن» الذي يُرجَى خيرُه فيَلْزمُ العُكوف على حُبّه (خصوصا أنّ تنشئةَ المرء، على الأقل في العصر الحديث، ما فَتِئت تُتصوَّر وتُنفَّذ ك«تربية وطنيّة» تعمل على إنتاج «ٱلْمُواطن ٱلصّالِح» الذي يُقيَّمُ وُجودُه وفعلُه بقدر ما يُخْلِص في مَحبّة وطنه ويَتفانى في خدمته). وليس يَخفى أنّ «تَوْثينَ ٱلوطن» يَستنزل "ٱلْمُواطَنة" إلى دَرك "ٱلْمُواثَنة" فيجعل النّاس لا يشتركون في مُستقرّهم على الأرض إلا بما هو «وَثن-أُمّ» يُعبَد بصفته «مصدر ٱلأرزاق وٱلحُظوظ» و«مُنتهى ٱلأحلام وٱلآمال» في هذا العالَم. ومن هُنا، فإنّه لا مَناص من إقامة "ٱلْمُواطنة" كسيرورة ل"ٱلتَّرْشيد" مُؤسَّسة إنسانيّا وأخلاقيّا ومُؤطَّرة قانونيّا ومُؤسَّسيّا بحيث تعمل على ترسيخ وتفعيل عمل "ٱلتّعارُف" ٱعترافًا مُتبادَلا ومُعامَلةً بالمعروف. ذلك بأنّ سيرورةَ "ٱلتَّرْشيد" هي التي من شأنها أن تجعل وُجودَ الإنسان وفعلَه يُعاشان في إطار "ٱلْمُخالَقة" إحسانًا في العمل ومُعامَلةً بِالْحُسنى. فالإنسان لا يُشارك نُظراءَه في سُكنى الأرض مُكابَدةً إلا لأنّ خالقَه أراد ٱمتحانَ سعيه في هذا العالَم ﭐبتلاءً، مِمّا يَقتضي أن تُؤتَى "ٱلْمُكابَدة" باعتبارها "مُجاهَدةً"، أيْ «مُغالَبةً في بذل ٱلْجُهد ٱلْعُمرانيّ» على النّحو الذي يُوجب أن يَتحدَّد "ٱلعملُ" بصفته "مُعامَلةً" (أيْ «مُشارَكة في ٱلعمل») مشروطة موضوعيّا وأخلاقيّا في إطار "مَدنيّ" و"كُليّ" يَتّخذ صُورةَ «ٱلدّولة ٱلرّاشدة» ويَشتغل على النّحو الذي يُمكِّن من «ٱلتَّأْنيس/ٱلتّأنُّس» تَعالِيًا تشارُكيًّا وتَعارُفيًّا وليس تنزُّلا تَدابُريًّا وتناكُريًّا. إنّ كونَ "ٱلْمُواطَنة" يُنظَر إليها، في آن واحد، كمبدإ للمشروعيّة السياسيّة وكمصدر للتّرابُط الاجتماعيّ يَجعلُها أوثق صلةً بالْمُمارَسة الأخلاقيّة ليس فقط لأنّ العمل الإنسانيّ يُؤتَى بكيفيّة تسمح بالتَّمْييز فيه بين الحَسن والقبيح أو بين الخير والشر، وإنّما لأنّه عَملٌ قاصدٌ تُحدِّدُه غاياتٌ وعَملٌ مشروطٌ تَحكُمه أسباب ودوافع. ولهذا، فإنّ "ٱلْمُواطَنة" تَتحدّد - بالأحرى- بما هي «"مُواطَئةٌ/مُوافَقةٌ" في مَكارِم ٱلأخلاق»، أيْ مُشارَكة في مجموعة من القيم والمبادئ التي تَكفُل النُّهوض بمُقتضيات "ٱلحقيقة" و"ٱلفضيلة". وبالتالي، فلا عجب أنْ تَصير "ٱلْمُواطَنةُ" عينَ "ٱلْمُخالَقة" في قيامها على «ٱلعمل بالأخلاق» وبحُكم الوُجود والفعل في إطار عالَم مُشترَك، أيْ أنّها مُمارَسة يُفترَض فيها أنْ تُؤتَى إحسانًا في العمل ومُعامَلةً بالْحُسنى. وهكذا، فإنّ «ٱلْمُواطَنة/ٱلْمُخالَقة» تُمكِّننا من تجاوُز المفهوم النمطيّ ل"ٱلْمُواطن" الذي نجد أنّ كونه يُحدّد ك«شخص ذي حُقوق وواجبات باعتباره مُشارِكا مُساويًا لأمثاله من سُكّان "ٱلْمَدينة/ٱلوطن"» يجعله ذلك «ٱلْمُنافِس/ٱلْمُنازِع» في كل ما يُعدّ حقًّا وٱمتيازًا. ولذا، لا يكاد "ٱلْمُواطن" يَتجلّى، في الواقع الفعليّ، إلا بصفته "ٱلآخَر" الذي يَملِك ما لا أملك أو الذي يجب ألّا يَمْلِك ما يَخُصّني على الرغم من أنّ التّصوُّر المجرد يفرض أن يكون كل مُواطن مُساوِيًا لأمثاله في الحُقوق والواجبات. ذلك بأنّ الحياة الاجتماعيّة للنّاس لا تنفكُّ عن التّفاوُت والتّغايُر من حيث إنّ «ٱلحقّ/ٱلواجب» ليس تنزيلا آليًّا لمِثال مُجرّد، وإنّما هو تعامُل تدبيريّ وتفاوُضيّ مع واقع مُعقّد ومُستعصٍ يَتجلّى كلانهائيّة من الفُرُوق والنّواقص. ومن ثَمّ، يُمكن الانتقال إلى مفهوم مُنفتح يقوم على أنّ "ٱلْمُواطن" صيرورةٌ قانونيّة وأخلاقيّة مُلازِمة لسيرورة "ٱلتَّرْشيد" في ٱقتضائها لإقامة "ٱلْمَعقوليّة" و"ٱلْمَسؤوليّة" في صُورةِ واقع موضوعيّ ومُؤسَّسيّ يَسمح ب«خوض ٱلْمُغالَبة في ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ على نحو أخلاقيّ»، أيْ ك"مُخالَقة". فليس "ٱلْمُواطن" صُورةً مُثلى وشَكْليّة تجعل "ٱلإنسانيّة" مِلْكا مُشاعًا بلا قيد ولا شرط، بل هو صُورةٌ حيّة ومُشخّصة في سياقٍ تفاعُليّ وتداوُليّ يَربط "ٱلتّأنُّس" بالْمُعامَلة مُجاهَدةً ومُخالَقةً. ولأنّ "ٱلإنسان" في تأرُّضه الضروريّ يَشترك مع الآخرين في "ٱلوطن" كمُستقرّ له على الأرض، فإنّ مُواطَنته ليست مجرد مُشارَكة في شيء موجود مُسبقًا ونهائيًّا، وإنّما هي "مُبادَلة" لمَكاسب العمل التي تُميِّز الإنسان في فعله المُتأرِّض بما هو عاملٌ مُتوِّطنٌ تخلُّقًا وتأنُّسًا. ف«ٱلتّأرُّض/ٱلتّوطُّن» ليس وُقوفا عند حُدود التّحيُّز الأرضيّ وشُرُوط الوضع البشريّ بهذا العالَم في المدى الذي لا يكون الوُجود والفعل البشريّان مُمكنَيْن إلا ٱتِّضاعا أو إخلادًا إلى الأرض، وإنّما هو ٱنخراطٌ في سيرورةٍ للمُشارَكة العَمليّة تجعل سعيَ الإنسان يُعاش مُكابَدةً ومُعامَلةً بالشكل الذي يَفرض ألّا تقوم "ٱلْمُواطَنة"، بما هي إمكانٌ إنسانيّ كُليّ، إلا ك«مُواطَئة/مُوافَقة على ٱلعمل بمَكارم ٱلأخلاق»، أيْ ك"مُخالَقة" تُخاض إنسانيّا وعمليّا على مُقتضى الإحسان في ﭐلعمل وﭐلْمُعامَلة بالْحُسنى. وهكذا، فإنّ «إنسانَ ﭐلْمُخالَقة» كائنٌ قَدماه على الأرض وعيناه مَشدُودتان نحو السّماء لأنّه يحمل في قلبه الإيمان بأنّه لمْ يُخلَقْ ليُبْلِيَ وُجودَه بالإخلاد إلى الأرض في تأرُّضه الضروريّ، وإنّما جُعل في كَبَد لكي يُعانيَ كونَه مُبْتلًى في حياته الدُّنيويّة من أجل حياةٍ أُخْرويّة يَسعَدُ فيها ٱلْمُحسنون أبدًا ويَشقى فيها ٱلْمُسيئون إلّا ما شاء ٱللّه. ولذا، فإنّ تَدْهيرَ أو تَدْنِيَةَ «ٱلْمُشترَك ٱلبَشريّ» كما لو كان مجرد "مُواطَنة" مُحدَّدة حصرا ك«مُشاركة في ٱلِانتماء إلى هذا ٱلعالَم ٱلأرضيّ وٱلدُّنيويّ» يَقُود إلى تصوُّر "ٱلْمُواطَنة" في تعارُضها مع «ٱلِاشتراك في ٱلدِّين» بصفته يَتحدّد كمُجرّد «مُشارَكة في ﭐلإيمان بمُعتقدَاتٍ مُعيّنة تترتّب عليها ٱلتزامات خاصّة»، أيْ كمجرد «مُوالاة بين ﭐلْمُؤمنين في ٱنتمائهم ٱلْمُشترَك إلى دينٍ أو مذهب مُعيَّن». لكنّ "ٱلدِّين"، في تجلِّيه الْمُكتمل ك«إسلام/إحسان»، لا يَكتفي فقط بترسيخ "ﭐلتّعالِي" في ﭐتِّجاه السُمُوّ على كل الْمُحدِّدات القوميّة أو الاجتماعيّة أو الْمَذهبيّة، بل يَقُوم على أنّ الأفضليّة إنّما تكون ب«ﭐلعمل ﭐلصالِح» الذي هو، بالأساس، «مُعامَلةٌ بالتي هي أحسن» (أيْ، بالتّحديد، "مُخالَقةٌ") ؛ مِمّا يَقتضي أنْ يُنْظَر إلى "ٱلْمُواطَنة" ليس بحصرها في الواجب الشكليّ ل"ٱلتّعايُش" و"ٱلتّساكُن"، بل بصفتها مُشارَكةً فعليّةً في نوع من العمل الأخلاقيّ والمَدنيّ الذي يَتجاوَز بها حُدود "ٱلتّسامُح" (بما هو «ٱعتراف مُتبادَل») ويَفتحها على آفاق "ٱلتّعارُف" في صيرورته «ٱلعملَ ٱعترافًا بالْمُساواة في ﭐلكرامة ﭐلآدميّة» و«ٱلْمُعامَلةَ بالْمَعروف وٱلْحُسنى»، وهو ما يجعلها «مُعامَلةً/مُخالَقةً» فيما وراء كل النّوازع والأغراض المُحدَّدة أرضيّا والمُحدِّدة دُنيويّا. [email protected]