جمال محمد تقي الرؤساء لا يتبعهم الغاوون ولا في كل واد يهيمون ، لكنهم يقولون ما لا يفعلون ، وعلى الناس يمثلون ويتجملون ، وفي اوج صدقهم يكذبون ، ملامح طواويسهم تثير الحزن ، وساعة العرض فرجة ، فعندما يتواجهون يتبارون بما يقولون ، فيتفاوتون ويتقاذفون ويتناقرون ، بعضهم لايسمع بعضا ، وبعضا يقلد بعضا وهم في كليتهم مضحكون ! يتعاقب رؤساء دول العالم الذين يحضرون افتتاح الدورات السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة على الكلام من على منصة اعلى منبر دولي الاممالمتحدة وبحسب الحروف الابجدية لاسماء الدول تاكيدا على تكافوء الاعضاء ، ومن كلماتهم تلك يستطيع اي مراقب فرز المشتركات والمنفرات في العلاقات الدولية ودوافعها ! يحرص اغلب الرؤساء في هذه الاحتفالية على استغلال المناسبة للترويج لسياساتهم ولتبادل وجهات النظر المباشرة بين ممثلي مختلف الانظمة السياسية في العالم ، وايضا لعقد الصفقات مع المثليين سياسيا ، وبعضهم يبرمج رحلته الى المقر الاممي لتكون متوافقة مع تخطيطه المسبق للحجيج الى حيث البيت الابيض وسيده ان كان ديمقراطيا كاوباما او جمهوريا كسلفه جورج بوش الابن ، هكذا هي العادة عندما تكون الامور منسابة ، اما اذا كانت الظروف استثنائية كالتي نعيش مظاهرها اليوم والمتمثلة بامواج ازمة اقتصادية عالمية كاسحة ، وتفرد امريكي بقيادة العالم ، اقتصاديا ، وسياسيا ، وعسكريا ، ثم تورطات امريكية في حروب غير عادلة مازالت حرائقها تشتعل في افغانستان والعراق ، وتحت ذرائع كاذبة ، قزمت واساءت لمكانة امريكا وهيبتها وسمعتها بين اغلب دول وشعوب العالم وكلفتها ماديا ومعنويا بما يصعب عليها تحمله ، هذه الاستثنائية التي جعلت من انتخاب اول رئيس ذا بشرة سوداء امرا ممكنا ، وجعلت من الناخب الامريكي يتشبث به لعله يحمل راية الامل للخروج من الدوامة الكئيبة التي تخبط بها بوش خلال 8 اعوام افتتحها بما اسماه بالحرب على الارهاب وانهاها بازمة اقتصادية طاحنة وفشل سياسي ودبلوماسي صارخ كان قاب قوسين او ادنى من فشل عسكري قابل للتحول الى هزيمة كاملة ، فكانت المراهنة الانتخابية على شعارات اوباما واسلوبه في تناول المشكلات الداخلية المتعارضة مع اسلوب ادارة الازمات عند سلفه ثم تاكيده وقتها على النفس الاصلاحي الداعي للتغيير والتجديد لقيم الحلم الامريكي الليبرالي المتفرد بتنوعه الابداعي في خلق فرص جديدة لتجاوز الازمات المستعصية والاستثمار بلا حدود في كل مجال من المجالات ، هذه الاستثنائية جعلت من وصول اوباما كرئيس جديد لامريكا مدعاة للتفاؤل عالميا ، على قاعدة ان الخلف المتذمر من سلفه السيء سيكون افضل منه حتما ، خاصة وان التشائم كان سيدا للموقف ، لقد تنفس الصعداء الكثير من رؤساء العالم من شرقه الى غربه بعد ان ذاقوا ما ذاقوا من تبعات سياسة ادارة بوش المتغطرسة ومن يقف ورائها من المحافظون الجدد ثم تفردها في القضايا الدولية ومحاولاتها اقحام اكبر عدد من دول العالم بحروبها الاستباقية وضرباتها الوقائية ، وعليه فان الدورة الحالية ال 64 للجمعية العامة للامم المتحدة كاول دورة يحضرها اوباما ، واول دورة يقبل عليها المتلهفون لسماع ومعرفة الجديد المختلف للرئيس الامريكي الجديد وايضا للتداول معه فيما يمكن ان يتغير بشانهم ، هي دورة متميزة بظروفها وبالغموض الذي يلف سقف المتغيرات في السياسة الامريكية التي تخص العالم اجمع ! خطاب اوباما كان من خطاباته الطويلة 40 دقيقة وقال في مستهله لقد عدنا الى الاندماج في عمل المنظمة وسددنا فواتيرنا يقصد الاشتركات المالية السنوية المتراكمة على بلاده لحساب المنظمة الدولية والتي لم تسدد كاسلوب ضاغط على هيكل المنظمة الاداري والمالي من اجل ترويضها تماما وبكل فروعها المتخصصة لما يخدم التوجهات الامريكية ! عبارات اوباما وتركيبتها اللينة تاخذك فورا للمقارنة الخطابية مع سلفه بطبيعة الحال ، ولكنك تصدم بعد التمعن بالمضامين والمتون وما بين الاسطر بان الجوهر واحد فهو لا يختلف قيد انملة عن جوهر سلفه رغم اختلاف الالوان والالفاظ والامزجة والظروف والاولويات ! فهو يعلن عن ايقاف مشروع الدرع الصاروخي في اوروبا الشرقية مقابل مجاراة روسيا لسياسة التشدد ازاء ايران ، واذا تمعنا بموضوعة الدرع الصاروخي فاننا سنجد ان لامريكا بدائل اخرى تعوض هذا التراجع ومن غير تكاليف اضافية ، فقواعد حلف الناتو يمكنها ان تحتوي على تكنلوجيا الصواريخ المضادة ناهيك عن القواعد البحرية والاسرائيلية ! نراه متطابقا حد اللعنة في المواقف الثابتة والمتحركة ازاء اسرائيل ، ضمان امن اسرائيل ، عدم الضغط عليها حتى لو لم تستجب لما تريده الادارة منها ، منع اي مس للحصانة الاسرائيلية في الاممالمتحدة وتحديدا مجلس الامن الذي تخرق اسرائيل قراراته يوميا ، في الاستيطان المتواصل كمثال صارخ ، ناهيك عن الاحتلال والحصار والابادة ، واستخدام الاسلحة المحرمة ، ورفض اخضاع ترسانتها النووية للرقابة الدولية ، الفيتو الامريكي تحت تصرف اسرائيل ومتى شاءت هي ! في الموضوع الافغاني يتجاوز اوباما الحدود التي وصلها بوش ، فهو يوسعها لتشمل الباكستان برمتها والحرب في عهده شاملة على الطالبانين الافغاني والباكستاني ، والكونغرس من جانبه وبالتناغم مع هذا التوجه سيصرح بمساعدة سنوية تقدر بمليار ونصف للحكومة الباكستانية التي تحاول تنفيذ ما هو مطلوب منها امريكيا ! اما العراق الذي كانت الحرب عليه هي واحدة من اهم الاسباب المباشرة لفوز اوباما بالانتخابات فسيتم الخروج منه كميا والبقاء فيه نوعيا ، وبحسب الاتفاقية الامنية التي مررها بوش اي الخروج من الباب والدخول من الشباك وحتى التوقيتات مرتبطة تزامنيا مع تطورات الحالة الايرانية ، فاوباما سيجرد ايران من ورقتها بالضغط على قواته في العراق ويعكس الاية بحيث يستخدم ويستثمر التواجد الامريكي النوعي فيه للضغط على ايران ! موقفه من الملف النووي الايراني هو ذاته الموقف الاسرائيلي ، والطرفان يتبادلان الادوار في التعامل معه ! اوباما يخالف بوش في اسلوب تحقيق الاهداف الامريكية ذاتها ، فاذا كان بوش يركز على اما او ، فان اوباما يشدد على او حاذفا اما ، بوش = اما معنا او علينا ، اوباما = معنا او معنا ! اي انه سينفذ ما يريده من خلال الاخرين ومعهم ، وبصيغ تبدو شرعية وجماعية ، فلا داعي للتفرد ما دامت الامكانية متحققة في جعل الكل يسير بالاتجاه غير المتعارض مع الرغبات الامريكية ، وهذا ما لا يتحقق الا عبر سياسة خذ هنا واعطيني هناك ، والتدرج والنفس الطويل ! قضية خفض الترسانة النووية ومنع الانتشار النووي حتى الوصول لعالم خال من السلاح النووي ، ستكون رافعة للنيل من ايران وكوريا دون اسرئيل ، والاطار جسد بقرار جماعي صدر من مجلس الامن الذي حضره اوباما نفسه والذي كان هو صاحب المقترح لاصدار هذا القرار ! قضايا التغير المناخي ومعالجة الفقر في البلدان النامية وغيرها من المشاكل الدولية ، ستكون لسياسة اوباما حضور مساير للتطلعات العامة التي تجسدها الدول السبعة المانحة وفيها نوع من المسايرة البرغماتية ! الرئيس العراقي جلال الطالباني جاء مخاطبا الجمعية العامة بتفاؤل يحسده عليه حتى الرئيس الفلندي ، وبعد ديباجته التجميلية للاوضاع الشاذة في العراق ، راح الطالباني موجها متن خطابه لمجلس الامن وعندها صار التشاؤم مرسوما على محياه بحيث جعل مندوب الصومال يتشائم اكثر لدرجة انه قد نسي مشاكل بلاده عندما استمع الى مطالبات الطالباني التي لا تستجاب الا بطريقة مستوحاة من لعبة الحية والدرج ، ومنها مثلا مطالبته بتمرير قرار خاص بتشكيل محكمة دولية لملاحقة المسؤولين عن تفجيرات الاربعاء الدامي ، وايضا بقرار اخر لاخراج العراق من وصاية البند السابع لان العراق بحسب الطالباني قد نفذ كل التزاماته التي حددتها قرارات مجلس الامن ! اما الرئيس الليبي معمر القذافي فقد صال وجال وكأن اليوم يومه في اطول خطاب عرفته الجمعية العامة في تاريخها ساعة واربعين دقيقة ، شرشح فيه ميثاق الاممالمتحدة ، والتجاوزات الصارخة للدول المتنفذة في مجلس الامن ، تحدث وباسهاب عن احتلال العراق كونه وصمة عار في جبين الاممالمتحدة ، معلنا عن فشل مجلس الامن في مهامه ، مطالبا الجمعية العامة لالغاء صلاحياته ونقلها للجمعية العامة ، تحدث عن اعدام صدام حسين كجريمة اضافية من جرائم من احتلوا العراق وذكر بابو غريب ، وجرائم اسرائيل في غزة ، ثم طالب دول العالم بالوقوف صفا واحدا لايجاد حلول عادلة لمشاكل العالم ومنها مشاكل الفقر والمرض والتصحر ، وبهذا الصدد اقترح ان تكون الادوية خارج نطاق حسابات السوق التجارية وعلى الاممالمتحدة ايجاد الصيغ المناسبة لجعلها متوفرة لغير القادرين على دفع اثمانها ! توالت كلمات الرؤساء وكل يغني على ليلاه ، فهذا احمدي نجاد يكرر ما تريده بلاده ، ودافع عن مواقف ايران في الدفاع عن حقها بامتلاك تقنيات الطاقة النووية للاغراض السلمية ، وشجب المحاولات الغربية في التدخل بالشؤون الداخلية ، ثم ادان التواجد الامريكي في الشرق الاوسط والدعم اللا محدود لاسرائيل وسياستها العدوانية على الشعب الفلسطيني ! نتنياهو وبخ من بقي في القاعة مستمعا لكلمة احمدي نجاد ، ودافع عن سياسة حكومته الساعية للسلام على الطريقة الاسرائيلية التي تتطلب اعترافا بالدولة اليهودية ، مقابل دولة فلسطينية منزوعة السلاح ، واصفا المقاومة الفلسطينية بالخطر الحقيقي الذي يهدد كل المساعي الحقيقية نحو السلام المنشود ، متجاهلا كون دولته تمارس احتلالا استيطانيا متواصلا وبهذا هي من يضرب بعرض الحائط ليس فقط جهود السلام وانما قرارات الاممالمتحدة بما فيها قرارات مجلس الامن ذات الصلة ! اما كلمة محمود عباس فانها ركزت على سياسة الاستيطان كونها المعرقل الاساسي لعملية السلام وطالب المجتمع الدولي بالضغط على اسرائيل للتوقف وتفكيك المستوطنات المقامة على الارض الفلسطينة ، علما ان اللقاء الثلاثي بينه واوباما ونتينياهو كان لا يبشر بالخير كالعادة ، ولا يلوح بالافق غير تواصل لعملية الاجترار السابقة والتي لا تخدم الا السياسة الاسرائيلية التي تعمل على فرض الامر الواقع على بقايا الفلسطينيين ! تتعاقب كلمات الرؤساء وفي كل واحدة منها نكهة تميز صاحبها وهمومه وتطلعاته !