الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده المصطفى الأمينْ بلسان عربيّ فصيح مبينْ ليجعله بشرى وتذكرة للعالمين إلى يوم الدّين. "" وصلى الله على تلك الشجرة التي نبتت في حرم وبسقت في كرم، صلى الله على الزهرة الندية التي أخذت أنامل الربيع تمسحها لتفوح في الكون شذى وعبيرا وأريجا فوّاحا. صلى الله عليك يا حبيب الله يا محمّد فأنت الكوكب في بهائك ومعذرة يا رسول الله إن كبا فيك تبياني وتقديري فمهما قلت أنت تعلو على التبيان والتقدير. ولو أوتيت سحر البيان الذي تخرّ له العمالقة ومنحت ريشة من الجنة وأعطيت قدرة التصوير على التعبير ما استطعت أن أوفّيك حقّك ! فلا تقولوا يا أيها القراء الفضلاء كيف كان ذلك كذلك بل قولوا كذلك وجب أن يكون ذلك ولقد كان حقّا كذلك حقّ وصدق يتقاطران سلسلا من سلسل من قلب أسيف. هو الذي، في الأرض أحمد وفي السماء محمّد، عند الإله مقرّب محبوب. وما كل ما خطّ القلم إلا عجالة في حقّه صلى الله عليه وسلم، اعتبروها غيضا من فيض أو جزء من كل أو قطرة من بحر وحتى لا نطيل إطالة ممل ولا نختصر اختصار مخل، ألتمس من سيادتكم أن تستقلوا طرّا بساطا من صنع سحر الإيمان لنحطّ به سوية على روضة من رياض القرآن. والموضوع المخصص لدرسنا تتمركز عناصره في ما يلي: ما أهمية الشعر ومكانته عند العرب ؟ ما موقف الإسلام من الشعر ؟ وأخيرا، ما ضوابط وشروط الاستدلال بالشعر لشرح آي القرآن ؟ والآن وقد مركزنا عناصر هذا الموضوع، سنعنصر بتوفيق من الله ورعايته مراكزه : وقبل ذلك، أرى لزاما على نفسي أن أعرّف لحضرتكم الشعر لغة واصطلاحا: الشعر لغة معناه العلم. نقول: ليت شعري مما صنع فلان أي ليت علمي حاضر أو محيط بما صنع وفي التنزيل : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. أي وما يدريكم. وقد غلب الشعر على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية. أما اصطلاحا، فالشعر هو الكلام الموزون المقفى على سبيل القصد. ولعلّ سائلا يسألني فيقولَ ( هكذا بالنصب لأن فاء السببية إذا دخلت على الفعل المضارع تنصبه ! ) : كيف تحدّثنا عن موقف الإسلام من الشعر، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة الشعراء : والشعراء يتبعهم الغاوون . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا. وغيرها كثير ! اعلم وفقني الله وإياك أن معظم الآيات التي توحي بذم الشعر هي آيات مكية. وقد كان هدف آيات الشعر في القرآن المكي هو التفريق بين القرآن الكريم والشعر في أذهان أهل الجاهلية الذين وصفوا نبينا بقولهم : أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون. فقول الله تعالى مثلا: والشعراء يتبعهم الغاوون. هذا ليس انتقادا ولا انتقاصا للشعر لأن الهجوم لم يكن على جنس القريض بل على جنس الشعراء. لأن الشعر فنّ كلامي محايد، حسنه حسن وقبيحه قبيح. ولكن الذي ينقله إلى فن يخدم الخير أو الشر هو جنس الشعراء. وقد ذكر العلامة الحافظ ابن كثير في تفسيره أن ابن عباس قال : كان رجلان على عهد رسول الله، أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وإنهما تهاجيا، فكان مع كل واحد منهما غوّاة من قومه، وهم السفهاء فقال تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون ؛ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ( أي في كلّ لغو يخوضون) ؛ وأنهم يقولون ما لا يفعلون. وبذكري لهذه الآية الكريمة، تحضرني قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والنعمان بن عدي بن نضلة وهو رجل صالح ولكن فلتت منه أبيات يقول فيها : فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدّم وفي الصباح، بلغت الأبيات عمر فقال : والله لقد ساءني. عليك الحدّ والحدّ ثمانون جلدة. فأجابه النعمان : والله يا أمير المؤمنين ما شربتها وأسأل الله أن يقتلني شهيدا، ولكن الله يقول : والشعراء يتبعهم الغاوون؛ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون؛ وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال عمر: أما بهذه فقد أسقطت الحدّ عنك. وقد قال أبو الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري : لما نزلت < والشعراء يتبعهم الغاوون > جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله وهم يبكون. فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء، فتلا النبي < إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات > وقال أنتم. وتلا قوله تعالى < وذكروا الله كثيرا > وقال أنتم. وتلا < وانتصروا بعد ما ظلموا > وقال أنتم. إذ هذه الآيات الكريمات تتحدث عن فئة معينة من الشعراء كالذين نالوا رسول الله بالهجاء. وقد كان رسول الله يقول لشاعره حسّان: اهجهم يا حسان وروح القدس معك. فيرميهم حسان بشآبيب من الأبيات الرّنانة الطّنانة كقوله : عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء فالشعر المذموم هو الشعر الذي فيه ذمّ لرسول الله وتعارض مع كتابه. لكن الشعر الذي فيه ترويح للنفس وإيقاض للهمم فلا بأس أن ينشد ويستشهد به؛ فإنه يدعو الكريم إلى الكرم ويحجز البخيل عن البخل ويدعو الزّينب إلى الشجاعة. يقول معاوية رضي الله عنه وأرضاه: والله لقد كدت أفرّ يوم صفّين ما حبستني إلا بعض الأبيات. فبعدما انهزم معاوية رضي الله عنه وأرضاه رغما عن كيد الكائدين ولمز الحاقدين وطعن الجاهلين في أول اليوم فرّ، فلما أصبح وحيدا على ظهر الفلاة، تذكر أبياتا لابن الإطنابة الحجازي يقول فيها :أبت لي عزتي وأبى حيائي وأخدي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي قال معاوية رضي الله عنه وأرضاه: فتذكرت هذه الأبيات، فرجعت إلى المعركة وتمّ ما تم. والمقصود هنا، أن الشعر له تأثير عجيب ففيه الأمثال والحكم والمواعظ. وقد ثبت وصحّ عن نبيّنا أنه قال: إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة. أما الحديث الذي تجدونه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا. فقد وضعه البخاري في باب ما يكره من الشعر ثم أضاف : إذا كان الشعر الغالب على الإنسان حتى يشغله عن القرآن والذكر والعلم. فإذا كان الشعر غالبا على الإنسان في كل أوقاته فهذا سيشغله عن القرآن لكن لا بأس أن يكون كالتوابل على الطعام. ويقول القرطبي في تفسيره في الجزء الثالث عشر ص 151 معلقا عن هذا الحديث : إن الذي غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه، دون علم سواه ممن يخوض في الباطل ويسلك مسالك كالغيبة وقبيح القول فمن كان الغالب عليه هذا الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة. ويقول الحافظ في الفتح الجزء العاشر ص 550 : مناسبة هذه المبالغة في ذمّ الشعر أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والإشتغال به فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن، فمن أخد من ذلك ما أُمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك. لا سيما وأن الشعر قد عني به من الصحابة الغر الميامين رضوان الله عليهم أجمعين واستشهدوا به على غريب القرآن ومفرداته فقد أورد الزمخشري رواية عن الخليفة الراشد عمر، حيث سأل وهو على المنبر عن قوله تعالى : أو يأخدهم على تخوّف. فقام إليه شيخ من هذيل، فقال : هذه لغتنا، التخوف معناه التنقص. فقال عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال نعم وإليك قولهم : تخوّف الرحل منها تامكا قردا كما تخوّف عود النبعة السّفن فقال عمر: يا أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ. فقالوا: ما ديواننا ؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. وكان حبر الأمة ابن عباس يستشهد بالشعر على غريب القرآن وكانت له مجالس يفيد إليه الناس من كل حدب وصوب. وقد سأله نافع في مجلسه عن قوله تعالى : عن اليمين وعن الشمال عزين. قال ابن عباس: عزين هي حلق الرفاق. قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص يقول: فجاءوا يُهْرَعون إليه حتى يكونوا حول مِنْبره عزينا فقال نافع: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: < وابتغوا إليه الوسيلة. قال: الوسيلة هي الحاجة. فقال نافع: أوتعرف العرب ذلك ؟ قال ابن عباس : نعم أما سمعت عنترة العبسي وهو يقول : إنَّ الرجالَ لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحَّلي وتَخَضَّبي ويمضي نافع يسأل وابن عباس يفسّر ويستشهد على تفسيره ببيت من الشعر في مئتين وخمسين موضعاً من القرآن. فقد كان لحَبْر الأمة ابن عباس رضي الله عنه اليد الطولى في ميدان الاستشهاد بالشعر على غريب القرآن وكان يقول : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وقد تابع هذا المنحى علماء اللغة والتفسير حتى تجاوزت الشواهد الشعرية في كل من تفسير "البحر المحيط" و"جامع القرطبي" و"الدر المصون" أكثر من خمسة آلاف بيت. ففي قوله تعالى: < كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ > يستشهد أبو حيان في "البحر المحيط" بقول الشاعر : حتى عَفاها صيّب ودقه داني النواحي مسبل هاطل وفي قوله تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، يستدل القرطبي بقول الشاعر : شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه وأذكر أني قرأت في كتاب شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها للعلامة أحمد بن الأمين الشنقيطي أنه استدل بقول امرؤ القيس : أفاطِم مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي وأنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ وإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ ففسّر قوله تعالى: < وثيابك فطهّر > بأن الثياب هنا معناها القلب. والشاهد قول امرؤ القيس السابق : ( فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ). وبعدما بيّنا مكانة الشعر لكونه أهم المصادر التي أمدّت للغة بأفصح التراكيب وأبلغها، بقي سؤال أخير يطرح نفسه بنفسه : هل الإستدلال بالشعر يتم بشكل اعتباطي في تفسير بعض آي القرآن، أم أن اللغويين والنحاة وضعوا لهذا الغرض شروطا وضوابط معينة ؟ يقول في هذا الصدد الدكتور المساعد بمعهد اللغة العربية بجامعة أم القرى الأستاذ محمد بن سعيد : لقد وضع اللغويون والنحاة معايير وضوابط فيما نقلوه عن العرب للإستدلال بالشعر. أولها : شرط المكان وهو الفيصل الذي تم بمقتضاه تحديد مواطن الفصاحة في وسط الجزيرة العربية دون بقية أطرافها التي كانت على صلة بالأمم الأخرى وفي بواديها دون الحواضر. ثانيها : شرط الزمان والذي تم بمقتضاه تحديد عصور الفصاحة عند منتصف القرن الثاني الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة الأدبية في المدن ونهاية القرن الرابع الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة المنقولة عن الأعراب. يبقى شرط الفصاحة الذي يتم بمقتضاه الحكم على فصاحة اللفظ ونسبته إلى عربيّ قحّ سواء بالمشافهة أو الرواية الصحيحة وذلك العربي القحّ هو من انطبق عليه شرطي الزمان والمكان الذين سبق وأن أشرت إليهما. وعلى ضوء هذه المعايير عدّ كل من خالف ذلك مولّدا، فقسم الشعراء إلى طبقات والقبائل إلى درجات أعلاها قبيلة قريش. يقول ابن فارس : أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم أن قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاها لغة وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فلا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة. ويقول الفارابي وهو يرتب درجة الفصاحة : والذين نقلت عنهم اللغة أخد عنهم اللسان العربي من بين قبائل العرب : قيس وتميم وأسد. فإن هؤلاء هم الذين أخد عنهم أكثر وعليهم اتّكل في الغريب. ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخد عن غيرهم كلخم وجذام لقربهم لقربهم من أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسّان لقربهم من أهل الشّام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب ولا النمر لقربهم من اليونان ولا من أهل اليمن أصلا لمخالطتهم الهند والحبشة.