منذ أن أعلن الملك محمد السادس عن "مشروعه" في إصلاح الدستور، والكتابات ثم الآراء والمواقف، تنساب بجهة التهليل للمبادرة والتطبيل لها، بالإعلام المرئي كما بالمسموع كما بالصحف والمجلات، كما من بين ظهراني العامة من الناس. والواقع أن تأملا سريعا لما قيل ويقال، كتب ولا يزال يكتب هنا أو هناك، إنما يؤشر إلى درجة في الاهتمام بالمشروع عالية، تعطي الانطباع بأن كل من له مشكلة عالقة، أو قضية مستعصية، أو مطلب متعذر، قد أضحى قاب قوسين أو أدنى من حلها، بمجرد ما تعتمد الوثيقة وتدخل مجال التنفيذ. يبدو الأمر هنا، كما لو أن وثيقة الدستور المنتظرة ليست إطارا عاما لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو شكلا من أشكال تحديد الأدوار بين المؤسسات وبينها وبين المجتمع، بل بنكا من الحلول العملية، الشاملة منها الفئوية، سيجد كل متضرر ضالته فيها بمجرد النفاذ إليها، أو رفع تظلمه من خلالها إلى القائمين على الشأن العام. ولهذا السبب، رأينا أن الرائج إنما أضحى المطالبة بوثيقة مفصلة، لترجمة مطالب عامة "كدسترة الأمازيغية مثلا" أو فئوية "كالتنصيص على تجريم نهب المال العام" أو تقنية كالمطالبة بدسترة الحريات الأكاديمية أو ما سوى ذلك، عوض أن تكون منصبة للتنصيص على تحديد وتدقيق طبيعة العلاقات المفروض أن تسود الفضاء العام والخاص، مع ترك أدوات وسبل التصريف للقوانين والتشريعات المنبثقة عنها. إن حجم هذه المطالب وتنوعها وتباين طبيعتها، لا يدل فقط على الخصاص الديموقراطي الذي يشكو منه المغرب ولما يناهز خمسة عقود من الزمن، بل وأيضا على الآمال المعلقة على الوثيقة إياها، باعتبارها المدخل الأساس لحل قضايا المغرب الراهنة، ورسم معالم مستقبله في القادم من سنين. وعليه، فالوثيقة المنتظرة لا يجب أن تترجم كل هذه المطالب بالتأشير الصريح، بل المفروض أن تعبر عن روحها، وتخلق المسالك لتصريفها، وتجتهد في إيجاد مداخل الحلول الممكنة. إنها إطار مرجعي يحدد السياق، يرسم الإطار، يفسح في المجال لتنظيم جديد بين الدولة والشعب، ولا يروم تدوين المطالب أو تحديد جداول تنفيذها. إننا نقول ذلك ونحن مدركون بأننا لسنا أهل اختصاص، ولا ندعي الإلمام بطرق وآليات صياغة الوثائق الدستورية. ومع ذلك، فإننا نزعم بأن الرهان لا يجب أن ينصب على الوثيقة في حد ذاتها، أيا يكن سمو ودقة المواد المتضمنة من بين أضلعها. إن الرهان، لا بل والمحك الأساس في العملية، هو القدرة على تنزيلها بأرض الواقع، وتصريفها بيسر وانسيابية من لدن العناصر الوسيطة، الكفيلة بترويجها في الشكل كما في المضمون. ويبدو لنا، بحال الوثيقة الدستورية المنتظرة بالمغرب، أن الأجهزة الوسيطة، من أحزاب ونقابات ومنظمات مدنية ونخب، لن تكون بمستواها " الوثيقة أقصد"، ولن تستطيع بنياتها أن تحول بنود الوثيقة إياها إلى نصوص تنظيمية قوية، ثم إلى ثقافة معتمدة، ثم إلى سلوك من بين ظهراني مختلف الفرقاء: - فالأحزاب، ذات اليمين كما ذات الشمال، شاخت وهرمت وتكلس بنيانها، وباتت في حل من القواعد التي لا قيمة سياسية لها من دونها. إن عطب هذه الأحزاب لا يجد تفسيره في غياب الديموقراطية بداخلها، وسيادة مبدأ الزعامة إلى الأبد، بل ويجده أيضا في قابليتها على الانبطاح أمام ما يصدر عن المؤسسة الملكية، وما يأتي من البطانة الدائرة بفلك ذات المؤسسة. بالتالي، فإن "مشروع" أو "مشاريع" ذات الأحزاب لا تستطيع أن ترى النور، إن هي لم تتماه مع مشروع المؤسسة إياها، أو تتساوق مع مبادرتها بالزمن والمكان. إن أحزابا من هذا القبيل لا تستطيع أن تحكم أو تقرر أو تتحمل المسؤولية أمام الشعب. إن أقصى ما تمكنه إنما انتظار ما يصدر عن القصر، بغرض البناء عليه، والادعاء بأنها لا تزال حية، وإن من خلال هذا التجمع "الجماهيري" البسيط أو ذاك. لسنا هنا بصدد المعاينة المجردة لواقع حزبي ترهل وانهار، بل بصدد القول بأن الدستور المنتظر سيكون حتما بحاجة إلى أحزاب جديدة ونخب شابة، في حل تام مما سبق بجوهره كما بالمظهر. - ثم إن النقابات، كما المنظمات المهنية، كما التجمعات ذات الخاصية الفئوية، انسلخت عن المستويات التي خلقت من أجلها، فباتت متقوقعة حول نفسها، لا ارتباط لديها بالذين تمثلهم، لا بل وأصبحت متواطئة مع السلطة بهذا الشكل أو ذاك، لضمان هذا التوازن الهش أو ذاك. إنها بنيات منفصمة عن الواقع، لا بل ولا تتعاطى معه بالمرة، اللهم إلا بالمناسبات الموسمية، أو عندما يشار إليها من عل، أو حينما تأمر "القيادات التاريخية" بذلك. إن نقابات وتنظيمات من هذا القبيل لا تستطيع أن تدعي الاستقلالية، أو تتبجح بامتلاكها لناصية القرار، إنها بهامش ما تنشده قواعدها، وبالتالي غير قادرة على التجاوب معها. - أما منظمات ما يطلق عليه المجتمع المدني، فتدور في معظمها بفلك السلطة، تقتات من فتات هذه الأخيرة، ولا تمثل لديها يذكر بما هو الفعل المدني، أو العمل التطوعي، أو التضامن الاقتصادي والاجتماعي أو ما سوى ذلك. قد لا يكون العيب في هذه البنى، أو في وظيفتها، أو في الغايات المسطرة بوثائقها المرجعية، ولكن عيبها الأكبر أنها غالبا ما تنهار أمام إغراءات السلطة ودهاليز المعونات ودواليب الاسترزاق، فتصبح بالتالي مظهرا من مظاهر تأثيث المجال، لكن دونما قدرة على الفعل أو التأثير. إن هذه البنى المؤسساتية "أحزابا ونقابات ومجتمع مدني" هي التي من المفروض أن تقوم على تمثل مضمون الدستور المنتظر، وتصريفه بأرض الواقع. أما وأنها مترهلة وعاجزة ومستلبة الإرادة، فإنها ستبقى حتما تحت رحمة من ستؤول إليه سلطة الأمر والنهي، أي المؤسسة الملكية بالبداية وبالمحصلة النهائية. أما نحن، فسنكون حتما بإزاء نفس التنظيمات، وبصدد نفس الوجوه ونفس "الزعامات"، وسيكون الدستور، حتى وإن كان متقدم المضمون، واضح المعالم، مجرد نص سياسي لا يعتد به كثيرا أمام الممارسة بأرض الواقع.