من عشر سنوات خلت, طلعت علينا بالمغرب, بأعقاب وفاة الملك الحسن الثاني, مقولة "جديدة", مقولة العهد الجديد, لم يسأم أركان الدولة والإعلام وجزء من النخبة من تلويكها, وإعادة تلويكها, حتى شارفت على التحول إلى أطروحة قائمة (أو هكذا خيل لمروجيها), لها فرضياتها وأدواتها في التحليل, ونسقية داخلية تضمن لها الشيوع بالمكان, ثم الامتداد والاستمرار بالزمن. "" هي عبارة أتت بسياق إحدى خطب الملك الجديد, وهو ببداية عهده, فإذا بها تتلقف بسرعة, لتؤثث على خلفية من استحضارها خطابات هنا وهناك, وتتحول بقوة مذهلة إلى مادة غزيرة بالصحافة والإدارة والندوات, كما بأروقة الجامعات والمدارس العليا وما سواها. لم يكن القصد من استنبات العبارة ودفعها بمجال التداول, من قبيل الإخراج الاعتباطي أو العفوي الصرف, بل تم الزج بها بالمجال العام لثلاثة اعتبارات كبرى, لا تزال في بعض منها, بأزمة من استنفاذ وظيفتها الأساس: الأول, ويتمثل في النية المروجة على إعمال جرعة من القطيعة, وإن على مستوى الشكل والمظهر, ليس مع المنظومة القائمة والثابتة والقارة, بل مع سلوكات (سلوكات "العهد القديم") أفرزت وضعا على الأرض محبطا بكل المقاييس, قاتلا للأمل, ضاما من بين ثناياه لكل سبل الانفجار والانتفاض, على واقع بات الناس أجمعين بإزائه, ولكأن لا إمكانية للخلاص منه إلا حركية في المجتمع, لم ينفرط المتقادم من بين ظهرانيها, ولم يتسن للجديد المتجدد أن يولد أو يتمظهر. ولهذا السبب, لم تكن العبارة ببداياتها الأولى, حمالة مشروع واضح, أو رافعة للواء حل سحري, عملي وآني, بقدر ما كانت وعاء يتغيأ إعادة إحياء للأمل, وتنفيس نفسي ومعنوي عن واقع, سمته الكبرى التردي وتملك اليأس بالجماهير. أما الاعتبار الثاني, الذي كون الخيط الناظم للعبارة, فكانت خلفيته الأساس إشاعة نمط في العمل عن قرب, أي تقريب السلطة, بالمركز كما بالجهات, من قضايا الناس اليومية, مع التجاوز بامتداد لذلك, على العديد من الشكليات التي أعاقت ولأكثر من أربعين سنة, طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم, من أدنى المستويات في الإدارة, إلى أعلى مستويات اتخاذ القرار بهرم الدولة. الغاية هنا إنما كانت, وفق ما راج أو تم الترويج له, خلق مصالحة حقيقية بين أجهزة الدولة بمختلف مراتبها, وبين مواطنين لطالما تذمروا وتظلموا وبلغهم الضيم (بالإدارة والقضاء تحديدا), جراء سلوكيات لربما لم تكن لترق لملك شاب, متحمس, مليء بالعنفوان والحركة, وعازم على تحقيق إذا لم يكن الأسمى من الأهداف, فعلى الأقل الحد الأدنى مما تمكنه الإمكانات, ويستوجبه تراكم المشاكل لحد التخمة, وبكل الميادين. الاعتبار الثالث: طي صفحة الماضي, وتصفية ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان, التي وشمت فترة طويلة من حكم الحسن الثاني, والتأشير الرسمي بذلك, على النية في "فتح صفحة بيضاء", تحترم بظلها ذات الحقوق, وتخضع في صيانتها وضمانتها, لمنطوق وروح اللوائح والتشريعات القائمة. لم تكن الغاية بهذه الجزئية, تصفية ماضي سنوات الرصاص, بغرض التصفية لذاتها, بل لإبراء ذمة الملك الجديد, مما كان جاريا, وإبراز النية في جبر الضرر, والعمل على ألا يتكرر ذلك مرة أخرى, بالقادم من أيام. إن العملية هنا إنما كان المقصود منها تثبيت "شرعية جديدة" قوامها القطع مع الماضي, واستلهام عبره, للتحصن بالوارد المقبل, من سلوكات الدولة بإزاء مواطنين لها, دفعتهم السياقات التاريخية لرفع السلاح بوجه الدولة, أو لمحاولة قلب نظام الحكم القائمة عليه, أو من باب تصفية حسابات, بقيت مترسبة من مرحلة المفاوضات مع فرنسا, لإنهاء الحماية عن المغرب, أواخر خمسينات القرن الماضي. هي كلها اعتبارات نزعم أنها أثثت لخطاب الملك محمد السادس, فامتطى ناصيتها بالتدرج تجاوزا على واقع محتقن, وفسحا في المجال لأمل شعب بلغه الظلم من كل المشارب, وطاولته "الحكرة" من كل صوب وحدب, سنده في ذلك نظافة سجله, وبراءته من دماء تلطخت بها أيادي العهد القديم, بالجملة والتفصيل. سيكون من الظلم حقا, ومن الجحود الصرف أيضا, القول/الفصل بأن العشرية الأولى من حكم محمد السادس للمغرب, لم تفرز شيئا ذا قيمة تذكر. فالرجل, على العكس مما قيل أو قد يقال, فتح آمالا واسعة, وباشر إصلاحات هامة (بدواليب الدولة, كما بعلاقة موظفيها مع المواطن), وأشرف بنفسه, وتابع أكثر من مشروع ومبادرة, وضمد العديد من الجراح الغائرة, ولم يضع بينه وبين المواطنين كبير عقبات, واستطاع زرع بعض من الطمأنينة في نفوس مواليه كما معارضيه على السواء, ونجح في ضبط توازنات دونها ودون الضبط الفوضى والخراب المؤكدين. إلا أن الحوصلة تبدو, وعلى الرغم مما قد يكون للوهلة الأولى ضمن سجل المنجزات الكبرى, تبدو متواضعة للغاية, إذا لم تكن في بعض جوانبها انتكاسا عما كان قائما من ذي قبل, أعني ببدايات "العهد الجديد" الأولى, حينما رفع شعار "المشروع المجتمعي الديموقراطي والحداثي": °°- فالملف الحقوقي لم يحسم (ناهيك عن المعالجة في العمق), بجانب ماضي الانتهاكات إلا بجهة تعويض الضحايا, وجبر خاطر الأحياء منهم, في حين لم يذهب لحد مساءلة الثاوين خلف ذات الانتهاكات, مباشرة أو بصورة غير مباشرة, وجزء كبير منهم لا يزال حيا يرزق, بل وبعضهم لا يزال يتبوأ مناصب تقريرية جد نافذة...ولم يذهب لدرجة تقديم اعتذار من لدن الدولة لهؤلاء, بل ولا يزال يتحايل على هذا الجانب, ولكأن ذات الدولة مخلوق هلامي, متعال, سيتم الانتقاص من قدره ورمزيته, إن هو تنازل أو اعترف, ثم اعتذر. لم يقتصر الأمر عند هذه النقطة, بل تجاوزها ليعاود النسج على منوال سلوكات في القمع والاعتقال والتعذيب (خلناها ضمن الماضي), كما الحال بمعتقل تمارة بضواحي العاصمة الرباط, أو بإزاء بعض المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب, أو بالجنح والجرائم العادية, كما الشأن بأحداث سيدي إفني, بداية شهر يونيو من هذا العام, العام 2008. بالملف الحقوقي إذن, لم ينجح "العهد الجديد" في القطع النهائي والجوهري مع ممارسات الماضي, بل ثمة بالسنين الأخيرة, انتكاسات خطيرة طاولت الأفراد والجماعات, على خلفية من آرائهم, أو بمسوغ المس بالمقدسات, كما الحال مع الصحافة, أو بدفوعات غير مبررة بالمرة, كما الحال مع المنع التقني الذي طاول قناة الجزيرة, وحال دونها ودون استمرار بثها لنشرة المغرب العربي من الرباط. + بالجانب السياسي, لا يبدو لنا أن ثمة انفراجا ما يذكر, بل تزاوج وصول "العهد الجديد" مع تمييع غير مسبوق للعمل السياسي, وتهجين فظيع للعمل الحزبي, وإهانة مقصودة للعمل الحكومي, لم نر مثيلا لها حتى في أحلك فترات حكم الحسن الثاني. لا يروم التلميح, بامتداد لذلك, إلى استهجان المواطنين للأداء السياسي والحزبي, لدرجة المقاطعة الشبه مطلقة بانتخابات العام 2007, ولا إلى إعادة مركزة كل السلط بين يدي الملك, دونما إعارة أدنى اعتبار لما هي الحكومة أو البرلمان, ولا إلى تراجع بل واختفاء مطلب الإصلاح الدستوري, بل ذهبت الأمور لحد تماهي الأحزاب, كل الأحزاب, مع ما يقوله رئيس الدولة, أو يقرره, أو يلمح إليه, أو يشرف عليه من بعيد أو قريب. فبتنا حقا وحقيقة بإزاء فكر واحد, لا يقبل المزايدة أو التشكيك, ولا يستحب الرأي المخالف, فما بالك بالمضاد أو المناهض. بهذه النقطة, لطالما قلنا وكررنا القول, بأن الجمعية التي يثوي خلفها علي الهمة ورهط من رفاقه مثلا, إنما تدخل بسياق ذوات التهجين والتمييع...إنها تجربة تعيدنا أربعين سنة للوراء, عندما ألمح لرضا كديرة ثم لأحمد عصمان بخلق أحزاب سياسية مصطنعة وهجينة, اكتسحت الانتخابات, وميعت السياسة, وأفرزت الفظاعات التي عرفناها, ولا يزال الضباب يطاولنا جراءها ومن حينه, بجانب العبث والفساد والمحسوبية والرشوة وما سواها. + بالجانب الاقتصادي والاجتماعي, لم يحمل "العهد الجديد" بعشريته تحولا بطبيعة الريع, ولا أتت مبادراته بتحسن ما في معاش الناس ومعيشهم, بل تقوى اقتصاد الريع, وازداد معه الفقر والتهميش والهشاشة, وضاقت الناس ذرعا بحالها ومآلها جراء الغلاء الفاحش, وضربت النقابات, وتراجع منسوب تأثير المنظمات المدنية, وبات الناس بإزاء السوق ولكأنهم بإزاء غول جارف, يأكل الأخضر واليابس, العمل كما رأس المال المنتج على حد سواء. صحيح أن "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" قد خففت بعضا من الإكراهات, على المواطن كما على العديد من جهات ومناطق البلاد (بالطرق والماء والكهرباء وبعض دور الأيتام والعجزة), لكنها بقيت ترقيعية الطابع, انتقائية البرامج, غير محكومة بتصور شامل, قادر على انتشال الملايين من الفقر والعاهة والسكن المهين. القصد هنا ليس التقليل مما يكون قد تحقق (ولربما قد يكون ذلك قد تم, في غفلة منا نحن الذين لا نهوى التدشينات, ولا دراية لدينا بماهية بروتوكولات إمضاء اتفاقيات بين وزير ووزير بنفس الحكومة, وبإشراف من رئيس الدولة), لكن القصد إنما القول بأن المواطن المعدم لم يفد شيئا مما يزعم أنه إنجازا أو مشروع إنجاز...إنه كان ولا يزال بنفس مستوى الفقر الذي لازمه منذ "الاستقلال", لم تتحسن ظروف عيشه, ولا تعلم أبناؤه, ولا ضمن لأهله وذويه الحد الأدنى من ظروف التطبيب. إن "العهد الجديد" لم يشتغل وفق رؤية هو بالأصل لا يتوفر عليها, فبقيت المقولة حكرا على الخطاب, فيما الواقع على الأرض وعلى مستوى الممارسة, بقي كما كان, وبالعديد من جوانبه انتكس...شر انتكاسة. أنقر هنا لزيارة موقع الدكتور يحيى اليحياوي