أثارت قضية مخرجة الأفلام الوثائقية نهى رشدي، المصرية زوبعة إعلامية كبيرة، فقد أصدرت محكمة جنايات القاهرة الأسبوع الماضي حكما تاريخا يقضي بسجن المواطن شريف جبرائيل ثلاث سنوات ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف جنيه مصري، بسبب تحرشه بفتاة، المهم في هذا الحكم انه في قضية تحرش جنسي، ويعتبر أول حكم يصدر عن القضاء المصري في هذا الباب. أهمية هذه النازلة تمكن في كونها فتحت باب النقاش على مصراعيه حول موضوع التحرش الجنسي ليس فقط في مصر وإنما في العالم العربي، والذي ظل لسنوات عديدة أحد الموضوعات التي يخشى الجميع الخوض فيها والبحث في مسبباتها، وبالتالي القدرة على خلق الآليات التشريعية والاجتماعية القمينة بأخذ هذا الموضوع على محمل الجد والضرب بيد من حديد على كل خارق للقانون حتى يكون عبرة لغيره. تعريف التحرش الجنسي التحرش الجنسي هو سلوك جنسي متعمد من قبل المتحرش وغير مرغوب به من قبل الضحية، حيث يسبب إيذاءا جنسيا أو نفسيا أو حتى أخلاقيا للضحية، ومن الممكن أن تتعرض له الأنثى في أي مكان سواء كان في الأماكن العامة مثل مكان العمل والمؤسسة التعليمية والشارع والمواصلات العامة....الخ أو حتى في الأماكن الخاصة مثل المنزل أو داخل محيط الأسرة أو الأقارب أو الزملاء...الخ ومن الممكن أن يقوم بالتحرش إما فرد أو مجموعة من الأفراد يستهدفون امرأة أو مجموعة من النساء. أيضا من الممكن أن يقوم بالتحرش شخص ذو سلطة أو زميل أو أحد الأقرباء أو حتى من الغرباء في الأماكن العامة وهو أكثر أشكال التحرش حدوثا في المجتمع العربي. وليس من الضروري أن يكون سلوكا جنسيا معلنا أو واضحا، بل قد يشمل تعليقات ومجاملات غير مرغوب فيها مثل الحملقة، والصفير، والعروض الجنسية، والأسئلة الجنسية الشخصية إضافة لبعض الإيماءات الجنسية، والرسوم الجنسية واللمسات غير المرغوب فيها...الخ. وكلها أشكال من الإيذاء والتحرش الجنسي التي تمارس بها مجموعات قوية هيمنتها علي المجموعات الأضعف وعادة ما يستهدف الرجال بها النساء. وقد أخذت قضية التحرش الجنسي مساحة مهمة في حوارات البيوت وجزءا كبيرا من اهتمام الأسر وأيضا مراكز الأبحاث مؤخرا، وأفاض فيها البعض باعتبارها احد مظاهر العنف، واعتبرها آخرون نتيجة طبيعية لحالة التسيب الأخلاقي الذي ألقى بظلاله على عدم الالتزام الديني عند الشباب والملابس الساخنة التي ترتديها الفتيات، بينما ارجع البعض الظاهرة إلى زيادة معدلات الفقر، فقد تكون هذه الأسباب مجموعة فاعلة من تنامي الظاهرة، لكنها لا تصلح لأن تكون مبررا. آراء متناقضة وصادمة في مصر على سبيل المثال أظهرت الدراسة الخاصة بالمركز القومي للدراسات الاجتماعية أن 65% من النساء يتعرضن لثلاثة أنواع من التحرش الجنسي وهي اللمس واللفظ والنظرات. وجاءت آراء علماء الاجتماع في هذا الخصوص "صادمة" حيث تقمص الاجتماع دور رجال الدين. فلم يختلف رأي الدكتورة آمنة نصير، الداعية المعروفة عن رأي الدكتورة سامية الساعاتي أو الدكتورة حنان سالم أستاذة علم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة عين شمس. فالثلاثة ارجعن الظاهرة إلى ما وصفنه بتدني الأخلاق والتفكك الأسري والملابس الساخنة، التي ترتديها النساء. ولقد تحول علماء الاجتماع هنا إلى رجال دين إلى الحد الذي جعلنا نشك أن معظم المشاكل في العالم العربي سببها الاستسهال العالمي واللجوء إلى الأسباب الجاهزة والعجز العلمي عن التفسير الصحيح والهادئ للظواهر التي تضرب المجتمع. مناقشات رجال الدين وبعض علماء الاجتماع لقضية التحرش من زاوية أخلاقية أغلق الباب أمام المهتمين بقضايا المجتمع العربي لمناقشة أعمق لهذه الظاهرة، التي تطرح مجموعة من الأسئلة التي وجب على أي مهتم الإجابة عليها. ملابس المرأة العربية في السبعينات كانت أكثر عريا وإثارة، فلماذا لم نشهد هذه الحوادث آنذاك؟ محجبات ومنقبات تعرضن أيضا للتحرش، فما علاقة ملابس المرأة؟ بعض حالات التحرش تقع في مكان العمل بين الموظفين وأحيانا يتحرش مدير بموظفته، فلماذا نتحجج بالبطالة؟ تجدر الإشارة إلى أن هناك كثيرين لا تنقصهم المعرفة ولا الوازع الديني، ومع ذلك يتحرشون بزميلاتهم في العمل أو بنساء يصادفونهن في الشارع أو في وسائل المواصلات العامة، ما السبب إذا وراء انتشار الظواهر السلبية في المجتمع العربي؟ دور وسائل الإعلام على خلفية قضية مخرجة الأفلام الوثائقية المصرية نهى رشدي، تلقي الدكتورة أماني أبو الفضل المديرة التنفيذية للمركز المصري لرصد أولويات المرأة بالجزء الأكبر من المسئولية على وسائل الإعلام، مشددة على أن قضية التحرش لم تظهر فجأة بل هي قضية تراكمية لها جذور عميقة بدأت منذ بداية الانفتاح الاقتصادي وما صاحبه من انحلال أخلاقي وانهيار للقيم، وأن هذه النتيجة كانت متوقعة حين أخذ السوس ينخر في البنية الأخلاقية للمجتمع التي تمثل حائط الصد أمام القيم الإباحية الوافدة والسلوكيات الشاذة. ومن جانبها تتفق هالة عبد القادر المحامية المديرة التنفيذية للمؤسسة المصرية لتنمية الأسرة مع الرأي الذي يدين الإعلام، قائلة "إن الإعلام متهم بأنه يركز على عرض المرأة كجسد من خلال الفيديو كليبات والأفلام، ولكن الحقيقة أن التحرش هو محصلة عدة أسباب يأتي في مقدمتها الردة الأخلاقية والثقافية والبطالة وعدم القدرة على الزواج والعنوسة، بحيث أصبح المجتمع بظروفه الحالية يشكل بيئة مواتية لمثل تلك السلوكيات الشاذة. ومن ناحيتها، تلفت الدكتورة منال أبو الحسن المسؤولة الإعلامية باللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل مدرسة الإعلام بجامعة الأزهر الانتباه إلى عامل آخر يسهم في توفير بيئة التحرش وتسلب الشباب القيم التي تعصمهم من الانحراف والزلل وهو محاولات الأممالمتحدة عولمة القضايا الجنسية. حيث غلفت كل ما يخص هذه القضايا بإطار من الحرية والتمكين وأصبح من متطلبات العولمة فرض تلك الأجندة التي هي في الأصل منظومة الغرب الإباحية من خلال مواثيق الأممالمتحدة الخاصة بالمرأة والطفل. وتضيف أن المنظمة الدولية تقوم بإلزام الدول الأعضاء بتنفيذ بنود تلك المواثيق وتطبيقها على مستوى كافة مؤسسات هذه الدول دون اعتبار للدين ولا للقيم المجتمعية، والتي تمثل من وجهة نظرهم العائق الأساس للتطبيق، مشيرة إلى أن هذه المواثيق تركز على المطالبة بتغيير المناهج الدراسية للأطفال والمراهقين لتلبية هذه المتطلبات والتي من بينها توفير وسائل الجنس الآمن وموانع الحمل والتثقيف الجنسي في المدارس والحق في الإجهاض للمراهقات اللاتي يحملن خارج نطاق الزواج والمساواة التامة بين الرجل والمرأة والحق في التطليق والإقامة خارج بيت الزوجية وغيرها من المطالب المهددة لمؤسسة الأسرة إلى جانب تبني نموذج الأسرة غير النمطية التي لا تتكون من الزوج والزوجة. دور الخطاب الديني ومن وجهة نظر دينية تتطرق الدكتورة عفاف النجار أستاذة ورئيسة قسم التفسير بجامعة الأزهر، إلى سبب آخر تراه دافعًا لاستشراء ظاهرة التحرش الجنسي يتمثل في نمط الخطاب الديني السائد. وتعتبر أن هناك ضرورة لتطوير الخطاب الديني والوعظي الموجه للشباب، لأن هذا الخطاب يواجه منافسة شديدة من جانب الفضائيات والإنترنت الذي نجح في الاستيلاء على اهتمامات الشباب وصرفهم عن دروس المساجد. فحقل الدعوة يحتاج لنوع من الدعاة على غرار المرحوم الشيخ متولي الشعراوي والداعية عمرو خالد يستطيعون مخاطبة هذه الفئة العمرية بلغتهم ويقتحمون عالمهم للتأثير فيهم. وأشارت إلى أن الخطاب الوعظي الحالي يعاني من الجمود والاعتماد على الترهيب أكثر من الترغيب مما ينفر الشباب، كما أنه بعيد عن اهتماماتهم ومشاكلهم وقضاياهم والتي في مقدمتها البطالة والعنوسة وتردي الأحوال الاقتصادية التي تحول بينهم وبين الزواج، بالإضافة إلى هيمنة ثقافة الفيديو كليبات والشات وغيرهما من الوسائل التي تسهم في تراجع الأخلاق والقيم لدى شبابنا وتجعلهم يقدمون على السلوكيات البعيدة عن قيم وأخلاقيات الإسلام. ودعت إلى البحث عن الوسائل الفعالة للوصول إلى الشباب وتعميق القيم الإسلامية في نفوسهم إلى جانب الاهتمام بالمقررات الدراسية الإسلامية وتدريسها في كل مراحل التعليم، على أن يتم تضمين تلك المقررات سير الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته والتاريخ الإسلامي المشرق والتوعية بالمخاطر التي تجلبها العولمة خاصة في جانبها الثقافي الذي يستهدف فرض "منظومة الغرب الإباحية" على المسلمين من خلال الفضائيات والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال. يؤكد الدكتور أحمد المجدوب، الخبير بالمركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية على خطورة غياب دور الأسرة في تربية الأبناء وغرس القيم الخلقية والدينية التي تعصمهم من الزلل وارتكاب المعاصي، ومن هنا وجدت حالة من الانفلات الأخلاقي تبدو مظاهرها في ميوعة البنات ورقصهن وتصرفاتهن السيئة أمام الآباء والأمهات بل وفي الشارع، وهو ما يشكل عاملا مساعدا للشباب على التجرئ عليهن. ويضيف أنه إذا تلاقى الشكل المثير الذي تبدو عليه الفتاة مع الميول العدوانية لدى هؤلاء الشباب نتيجة تعاطي المواد المخدرة وما شابها والتي تزيد من نسبة الأدرينالين في الدم وهو المحفز للعدوانية يحدث التحرش الجنسي، ملمحًا كذلك إلى عنصر محفز آخر للظاهرة يتجسد في عدم انضباط الشارع نتيجة الغياب الأمني وغياب القدوة الحسنة، فلا يجد الشباب أمامه إلا تقليد الفنانين ومن يوصفون بأنهم نجوم المجتمع. تداعيات أخطر للظاهرة المهم في قضية التحرش الجنسي الآن، أن ازدياد معدلات التحرش الجنسي والاغتصاب من شأنها تهديد عملية مشاركة المرأة في الحياة السياسية ومشاريع التنمية، كما يضر بإمكانية تطوير العمل بالاستفادة من هذه الرؤى الأنثوية الفعالة والمتمايزة التي يمكن أن تساهم بلا شك في تطوير مؤسساتنا ورؤانا العملية المستقبلية. هذه المشاكل المركبة والمعقدة لا تحتاج إلى تفعيل قوانين أو استحداث قوانين جديدة، بل إعطاء كل صاحب حق حقه حتى لا يتمدد في حقوق الآخرين أو يتعدى على الملكيات العامة. المهم واللافت في هذا الأمر أن الدولة لا تستطيع القضاء على العشوائيات من دون توفير مسكن بديل، وإلا الثورة من أجل الحصول على الحق الضائع الذي لا يستطيع العشوائيون توفيره من الملكية العامة. الأمر نفسه مع ظاهرة التحرش: لو تشددت الدولة في تغليظ عقوبات قضايا التحرش فإنما تلقي بنفسها في سعير رغبات الشباب المستعرة التي لا تجد من يشبعها، وقتها لن تجد الدولة من يطفئ هذه الحرائق. نظرة المجتمع للمرأة على المستوى الشعبي هناك تصور خاطئ بأن هتك العرض يعني الاغتصاب، مع أنه مجرد لمس أجزاء حساسة من جسد المرأة وتصل عقوبته إلى 7 سنوات سجنا، ومع ذلك فشريحة كبيرة من الضحايا لا يعرفون حقوقهم وأن ما يتعرضون له من تحرش هو جرائم يعاقب عليها القانون، خاصة أنها تسبب لهن أضرارًا نفسية وعصبية قد تمتد آثارها لفترات طويلة من حياتهن. إن المجتمع والإعلام يلقي باللوم دائما على المجني عليها، فنجد من يقول لماذا خرجت إلى الشارع في هذا الوقت، ولماذا تلبس هذه الملابس.. وجميع تلك الأقاويل تصب في خانة إعطاء المبررات للجاني على الرغم من أن الكثير من أفعال التحرش تتم في وضح النهار وأن عددا من الضحايا هن من المحجبات، ولم يقل أحد أن ما أقدم عليه الجاني هو جريمة تستحق أن يعاقب عليها. وفي العالم العربي ، مازال ينظر للمرأة بحكم التقاليد والعادات الجاهلة والفهم المغلوط للدين على أنها جسد للمتعة فقط، ولقد تربى المجتمع العربي في الغالب على ثقافة أن المرأة دائما هي المذنبة وأنها هي التي دفعت الرجل للتحرش بها نظرا لسلوكها المشين ولذلك فإن المرأة تتكتم على تعرضها لمثل هذه التحرشات لأنها ستصبح منبوذة اجتماعيا. وإذا كانت متزوجة ربما ستتعرض للطلاق وإذا كانت عازبة فستصبح فرصها قليلة في الزواج. حلول للحد من التحرش الجنسي حاولت عدد من الدراسات إيجاد حلول لظاهرة التحرش الجنسي وأكدت أغلبها على ان المقاربة الأمنية ليست كافية بل وجب تحسين الحالة الاقتصادية وإيجاد فرص عمل للشباب ورفع الوعى الدينى وخلق نظام أمنى فعال وفرض الرقابة على الإعلام والتزام النساء لزي مناسب لا يثير الغرائز. وأوصت الدراسات بضرورة نشر الوعى بمفهوم التحرش وآثاره وضرورة العمل على تكثيف الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية والقانونية بهدف التعمق فى المشكلة والتركيز على مدى خطورة الظاهرة وتهديدها لتقدم المجتمع وتطوره، وضرورة عمل دورات تدريبية لرجال الشرطة فى كيفية التعامل مع قضايا التحرش الجنسى، وتكثيف الوجود الأمنى فى الشوارع وإنشاء مكتب لتلقى شكاوى التحرش الجنسى، ولابد من تضامن مؤسسات المجتمع المدنى من أجل وضع استراتيجية للحد من الظاهرة واستحداث قانون لتحديد مفهوم التحرش وتجريمه.