توالي الأحداث وتتابعها في مصر دفع الكثير من الباحثين والمهتمين بأوضاع العالم الإسلامي لإسالة مداد كثير وافتراض نظريات عديدة، وقد كانت أشد النظريات المغالية في مقاربة هذا الواقع تلك التي رفعت شعار نهاية أطروحة الديمقراطية في العالم الإسلامي، ومفادها أن التربة المشرقية لا تصلح أبدا لزراعة البذرة الديمقراطية. مؤسف حقا أن تروج هكذا أفكار، مؤلم جدا أن نعود لنقطة الصفر، ولماذا نصر دائما على أن نخالف البشرية والمنطق العالمي؟ يعترف الكل من الجنس البشري بأن أفضل أشكال الحكم التي وصل إليها الإنسان هي الطريقة الديمقراطية، ونحن هنا لا نقارن بأشكال الحكم التي تستند إلى الوحي الإلهي، اللعبة الديمقراطية إذن هي سبيل الإنسان لتحقيق العدل ضمن عملية توزيع و اقتسام السلطة السياسية. ما قلناه أمر مسلم به، غير أن ما حدث في مصر كقلب للعالم الإسلامي والمشرقي جعل رجالا من مختلف الأطياف السياسية علمانية كانت أم إسلامية تفقد ثقتها فهذا الإبداع السياسي، وهو الذي نقل البشرية كما يقول الرئيس التونسي منصف المرزوقي من الصراع الجسدي إلى الصراع الرمزي، فالكثير من العلمانيين بدءوا يتراجعون عن مطلب الديمقراطية كمطلب أولي رئيسي في العملية التحديثية للمجتمع، فجعلوا من مطلب العلمانية رهانهم الأول في العملية السياسة، لأن الديمقراطية التي ضحوا كثيرا من أجلها وقدموا شهداء كثر في سبيلها انتهت أخيرا إلى ترشيح الإسلاميين، أعداء العلمانية، في مناصب القرار. طبيعي هذا الأمر وكان جد متوقع ، لكن ما فعله الإسلاميين بالديمقراطية أفرغها من جوهرها وجعلها جوفاء، فكانت "ديمقراطية" ضد الديمقراطية، ذلك أنهم اختزلوا اللعبة وفهموها أو أرادوا فهمها في ما تفرزه صناديق الاقتراع وفقط، تعاملوا مع مفهوم الديمقراطية كما يتعاملون مع النصوص الدينية بمقاربة سطحية ونصية انعدم فيها الفهم العميق والأصيل لجوهر الديمقراطية، فما اختلفوا في طريقة حكمهم عن الأنظمة التي سبقتهم، استبدلوا عبادة الفرعون بعبادة العجل. الديمقراطية تستلزم قبل كل شيء فصل السلط السياسية لا تجميعها في يد شخص واحد حتى ولو كانت نتيجة الإقتراع 99% وهذا ما لم يحدث ولن يحدث مادامت هناك ديمقراطية، أساس الديمقراطية أيضا احترام التعددية السياسية، واحترام حقوق الأقليات مهما كان عددها، فالديمقراطي لا يسعى إلى تحقيق الإجماع لأن الإجماع موجود في منطق الجماعة لا في منطق الدولة، هذا الأمر يفترض منطقيا فصل الدين عن السياسة، حيث أن ثوابت الدين تقوم على الكتاب والسنة والإجماع، وبالتالي فالإسلامي يسعى دائما لبلوغ الإجماع ولإدراك الحكم الرشيد كما كان عند الخلفاء، لذلك فالديمقراطية لم تكن أبدا هي الغاية عندهم ولم يسعوا إليها يوما. إن الديمقراطية عند الإسلامي لا تعدوا أن تكون بمثابة ذلك الترومبلان tremplin أو منصة الوثب التي أراد بها الإسلاميون بلوغ هدف خونجة الدولة واحتكار جميع السلط بما في ذلك السلطة العسكرية، كما أنه لا يمكن حكم الدولة بمنطق الانتقام أو تبرير الواقع بالماضي، وتلك أشياء كلها كانت بمثابة لفات حبل المشنقة الذي سيعدم به المولود الجديد المسمى الديمقراطية في العالم الإسلامي فكانت ضربة الجيش بمثابة عملية استكمال جر هذا الحبل فأعدم الجنين الصغير. كان سيكون تدخل الجيش محمودا لو أنه اقتصر على منع جمع السلط في يد الرئيس وتكفل برعاية استكمال نضج هذه النبتة المقدسة. لكنه للأسف دهسها بدباباته وبكل ما أتي من قوة، فنسي أن دم المواطن حرام عليه كحرمة أمه أو أشد. لكن مع هذا لا ينبغي أن نتصور الديمقراطية كائن صاحب روح دنيوية يموت ويفنى دون أن يحيى، لا بل ينبغي أن نتصور الديمقراطية طائر العنقاء الذي يكاد يموت ثم ينبعث من رماده، الديمقراطية نبات يسقى وللأسف بدم الشهداء، لأننا لم نستطع ولزمن طويل تعلمها في البيت وفي المدرسة وفي الشارع. علينا أن نقف وقفة موضوعية مع دواتنا نساءل من خلالها أنفسنا هل نحن ديمقراطيون مع أبنائنا مع أزواجنا هل نحن ديمقراطيون مع أصدقائنا هل نحن ديمقراطيون مع إخواننا هل استطعنا أن نتخلص من الأنا النرجسية نحو الأنا العقلانية الحداثية. هذا يتم قبل أن ننزل إلى المطالبة بالديمقراطية في الشارع. فكل مناداة للديمقراطية بدون تربية ديمقراطية لا تعدوا أن تكون "ديمقراطية" ضد الديمقراطية. إن الديمقراطية مشروع لا ينتهي فبقدر ما استهلكنا منها بقدر ما كانت حاجتنا إليها أشد وأكثر .