العلمانيات الأوروبية والأطلسية تظل منطبعة بالمؤثرات الدينية سواء كان ذلك على سبيل الاستدعاء المباشر أو المضمر حتى في أكثر أشكالها تمردا على الدين. والمشكلة أننا كثيرا ما نقرأ العلمانيات الغربية عبر النافذة الفرنسية البالغة الضيق والتي لا تقدم صورة ملخصة لوضع الدين ولا العلمانية حتى في الفضاء الأوروبي نفسه قبل أن نتحدث عن غيره. لا يوجد تساوق بين الديمقراطية والعلمانية في السياق الغربي إلا على مستوى الإدعاءات النظرية لمن يريد أن يضفي مسحة سحرية وجوهرية على الغرب الحديث. فأوروبا العلمانية مثلا لم تنتج الديمقراطية الليبرالية فقط بل أنتجت إلى جانب ذلك أكثر النماذج السياسية شمولية ورعبا في عصرنا الراهن، مثل النازية والفاشية والستالينية والقوميات المتطرفة، كما أن الديمقراطيات الليبرالية قد تزاوجت مع ضروب شتى من التوسع الاستعماري واضطهاد الشعوب خارج الحدود القومية. التعايش بين الأحزاب المسيحية والديمقراطية لا يعود إلى الاختيارات الفكرية التي نهجتها أحزاب اليمين فقط بقدر ما يعود أساسا إلى وجود نوع من الوفاق حول أسس المجتمع والدولة يقوم على نوع من الاعتراف المتبادل وتقاسم وظيفي للمجالات والأدوار، وضمن هذا السقف تجري المنافسة السياسية والانتخابية، ولذلك أصبح من اليسير تداول السلطة بين الأحزاب من دون تعريض النظام السياسي لهزات أو انعطافات كبرى. الديمقراطية تحسّن فعلا من أداء النظام السياسي في العالم العربي وتسهم في تطوير الأوضاع ولكنها ليست بالأسفير السحري الذي يحول الضعف إلى قوة والوهن إلى عزة. ونحن اليوم في حاجة إلى إعادة ربط الديمقراطية بمطلب التحرر والوحدة، على نحو ما فعل ذلك جيل الإصلاح والاستقلال مثل سعد الدين زغلول في مصر وعلال الفاسي في المغرب وعبد العزيز الثعالبي في تونس. إن الديمقراطية في العالم العربي تحتاج إلى ممارسة ما يمكن تسميته هنا بفن التسويات والمساومات الاجتماعية والسياسية بين مختلف القوى المتنافسة بما يجعل الجميع يطمئنون إلى حماية مصالحهم بحيث لا يكون هناك منتصرون بالكامل ومهزومون بالكامل. وأهم وسيلة ناجعة لنشر الديمقراطية هو افتكاكها من أيدي النخب وبسطها بين أيدي الناس حتى يتوفر المجال فعلا لاختبار النظام الديمقراطي وتعديله وتطويره في هذه المنطقة من العالم. الأمريكيون والغربيون عامة وعوا بأن اللعبة الديمقراطية في المنطقة العربية والإسلامية بالغة المجازفة والكلفة لذلك قرروا إغلاق ملف الإصلاح والعودة مجددا إلى المربع الأول أي مقايضة النفط والنفوذ السياسي بضمان حماية الأمن وما يسمى تجاوزا بالاستقرار السياسي في المنطقة، مع الاكتفاء باستخدام المطلب الديمقراطي أداة ضغط على من تعتبرهم أمريكا دولا ناشزة أو مارقة مثل سوريا وإيران والسودان وحتى مصر كلما ظهر اختلاف في قضية من قضايا التسوية مثلا. الحركات الإسلامية تقدم اجتهادا سياسيا ولا تقدم أحكاما دينية قاطعة أو حتى فتاوى دينية ناجزة. مشكلة الغرب مع الحركات الإسلامية لا تعود إلى كونها تحمل لغة أو مطالب دينية، بقدر ما يعود الأمر إلى الخيارات السياسية التي تنهجها هذه الحركات، والدليل على ذلك أن موقف الغرب من الحركات اليسارية والقومية في الخمسينات والستينات لا يختلف كثيرا عن موقفه اليوم من التيارات الإسلامية. إذا ما تخلى الإسلاميون عن القضايا الكبرى للأمة وتحولوا إلى مجرد أحزاب إدارية لا هم لها سوى انتزاع بعض المقاعد في البرلمانات أو ضمان بعض الحقائب الوزارية، في هذه الحالة لن يكون وضعهم أفضل من سابقيهم من الحركات الأخرى. الإسلام السياسي بصدد إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي، وفي الرقعة العربية على وجه الخصوص، وهو تيار سيترك بصماته لعقود قادمة من الزمن وربما لما هو أكثر من ذلك، وكلما اشتد الضغط الغربي على العالم الإسلامي كلما تقوت شكيمة الإسلاميين أكثر الذين يريدون تخفيف الضغوط الخارجية من الإسلاميين وغيرهم عليهم أن يفكروا في الملفات الإستراتيجية الكبرى من قبيل العلاقة بالحلف الأطلسي والقواعد الأجنبية والصلة بإسرائيل قبل أن يتحدثوا عن الايديووجيا والفكر. فالغرب لا يفهم إلا لغة الحسابات والمصالح الكبرى ولا يعبأ كثيرا بالأيديولوجيات والأفكار. لا توجد ثقافة كونية مطلقة ومتعالية عن ميراث اللغة والثقافة لأن الكوني ليس إلا خصوصية ناجحة أو خصوصية تم تصعيدها بالقوة المغلظة أو الناعمة إلى طور العالمية والمشكلة تبرز حينما تتم أدلجة هذه المواثيق الدولية لخوض معارك سياسية وثقافية معينة، من ذلك مثلا ما نراه من حرب ساخنة وباردة تخوضها الكثير من الأوساط الغربية عبر وكالة بعض المجموعات الإيديولوجية في العالم العربي، فهذه المجموعات ليست معنية كثيرا بحماية الحقوق والدفاع عن ضحايا الانتهاكات الإنسانية بقدر ما هي معنية بتوظيف هذه المواثيق لتأكيد طلائعيتها ووكالتها الخاصة في الدفاع عن القيم الحداثية والمواثيق الدولية. حركة العلمنة هي بدورها حقيقة موجودة لا يمكن إنكارها خاصة على صعيد الدولة والمؤسسات الرسمية، فبينما تتجه الدولة نحو ضروب من العلمنة الخفية والظاهرة يتجه المجتمع أكثر فأكثر نحو التوجهات الدينية. وحينما يتم استخدام أنياب الدولة سواء باتجاه فرض العلمنة أو الأسلمة تكون الإخفاقات أشد. على العالم العربي والإسلامي التخلص من سطوة النموذج أو النماذج الجاهزة، بمعنى تصور وجود حلول ناجزة وجاهزة سواء مجلوبة من الآخرين أو مستمدة من ميراث التاريخ وإدراك أن الحلول تولد من رحم الواقع بكل تناقضاته وأوجاعه، ولا يجب أن نخجل من القول بأن هذه الديمقراطية قابلة للتعديل والتدارك بحسب حاجات المجتمع وأولوياته، فالواقع له أولوية على النظريات والأفكار. هذه بعض الأفكار التي قدمها الدكتور رفيق عبد السلام في حواره الممتع والغني مع التجديد بالدوحة حديثا، فهو باحث تونسي حاصل على الدكتوراه في الفكر السياسي والعلاقات الدولية من جامعة وستمنستر سنة 2003، وقد اشتغل بالبحث والتدريس في الجامعات البريطانية وهو يشغل اليوم باحثا متفرغا بمركز الجزيرة للدراسات، وله العديد من الإصدارات سواء باللغة العربية والانجليزية. صدر له عن مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع الدار العربية للعلوم كتاب جديد تحت عنوان في العلمانية والدين والديمقراطية: السياقات والمفاهيم وهو يقع في 232 صفحة. وفيما يلي نص الحوار: - ما الأهداف التي كانت وراء تأليف كتابك الأخير حول الديمقراطية والدين والعلمانية؟ الدافع الرئيسي من وراء تأليف هذا الكتاب يعود إلى الوعي بمحدودية المعالجات الغربية الموصوفة غالبا بالأكاديمية والموضوعية لمفاهيم العلمانية والدين والديمقراطية على نحو ما يوحي بذلك العنوان الذي اخترته للكتاب، وأنا عازم بحول الله على استكمال هذا الجهد بكتاب آخر حول الحداثة، لقد تبين لي منذ أن باشرت البحث في أطروحة الدكتوراه في الجامعة البريطانية سنة 97 قصور القراءات الغربية عامة لهذه المفاهيم، وخصوصا حينما يتعلق الأمر بدراسة أوضاع العالم الإسلامي. ما أردت إثباته في هذا المؤلف هو أن العلمانية والدين والديمقراطية ليست مفاهيم ثابتة ومحددة كما أن الصلة بينها ليست نمطية وموحدة بل هي ذات خاصية مركبة ومعقدة. هل هناك قواسم مشتركة بين العلمانية والديمقراطية من جهة وبين الدين من جهة ثانية في البيئة الغربية والتاريخ الغربي؟ لا شك أن الديمقراطيات الغربية قد تخلت وتطورت في أجواء العلمنة التي فرضت نفسها خلال القرنين الأخيرين على الأقل، بيد أن هذه العلمانية ليست معزولة بدورها عن المختزنات الرمزية والميراث المسيحي الذي ولدت وتطورت في أجوائها، وبهذا المعنى لك أن تقول إن الديمقراطيات الغربية بقدر ما تحمل بصمات دهرية علمانية بقدر ما تحمل مؤثرات مسيحية في نفس الوقت. وعلى سبيل الجملة يمكن القول إن العلمانيات الأوروبية والأطلسية تظل منطبعة بالمؤثرات الدينية سواء كان ذلك على سبيل الاستدعاء المباشر أو المضمر حتى في أكثر أشكالها تمردا على الدين. المشكلة أننا كثيرا ما نقرأ العلمانيات الغربية في الكثير من الأحيان من خلال النافذة الفرنسية بالغة الضيق والتي لا تقدم صورة ملخصة لوضع الدين ولا العلمانية حتى في الفضاء الأوروبي نفسه قبل أن نتحدث عن غيره. كما أنه لا يوجد مثل هذا التساوق بين الديمقراطية والعلمانية في السياق الغربي اللهم على مستوى الإدعاءات النظرية لمن يريد أن يضفي مسحة سحرية وجوهرية على الغرب الحديث. فأوروبا العلمانية مثلا لم تنتج الديمقراطية الليبرالية فقط بل أنتجت إلى جانب ذلك أكثر النماذج السياسية شمولية ورعبا في عصرنا الراهن، مثل النازية والفاشية والستالينية والقوميات المتطرفة، كما أن الديمقراطيات الليبرالية قد تزاوجت مع ضروب شتى من التوسع الاستعماري واضطهاد الشعوب خارج الحدود القومية، وهذا ما يجعل من الصعب معادلة العلماني بالديمقراطي في السياق الغربي قبل أن نتحدث عن غيره من التجارب التاريخية الأخرى. تعيش دول غربية عديدة في ديمقراطيتها على التعايش بين الأحزاب الدينية المسيحية والحياة الديمقراطية بدون مشاكل، بل إن هذه الأحزاب تسير حكومات مثل ألمانيا، كيف نجحوا في تحقيق هذا التعايش؟ مثل هذا التعايش بين الديني والسياسي ليس قاصرا على الأحزاب اليمينية المسيحية فحسب، وإن كان أكثر جلاء في أحزاب اليمين، بل يشمل بعض الأحزاب اليسارية أيضا. فالجناح المسيحي مثلا ما زال يتمتع بحضور قوي في حزب العمال البريطاني وكذلك الأمر بالنسبة للحزب الديمقراطي الأمريكي، فتوني بلير مثلا هو ابن ما يسمى بالاشتراكية المسيحية، وكارتر هو ابن التيار المسيحي الليبرالي النشيط داخل الحزب الديمقراطي، بل إن اليسار الإيطالي نفسه لا يمكنه أن يحكم من دون ضمان نوع من الدعم والإسناد الخفيين من الكنيسة في روما التي كثيرا ما يكون لها حصتها من الحقائب الوزارية سواء في الحكومات اليمينية أم اليسارية على السواء. بيد أنه يتوجب التنبيه هنا إلى أن مثل هذا التعايش بين الأحزاب المسيحية والديمقراطية لا يعود إلى الاختيارات الفكرية التي نهجتها أحزاب اليمين فقط بقدر ما يعود أساسا إلى وجود نوع من الوفاق حول أسس المجتمع والدولة منذ تشكل الكيانات القومية وموجة الحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد كان من نتائج ذلك وجود نوع من التسوية بين الكنيسة والدولة يقوم على نوع من الاعتراف المتبادل وتقاسم وظيفي للمجالات والأدوار. أما على الصعيد السياسي فقد حصل نوع من الإجماع حول الأسس العامة للنظام السياسي وسقف المصالح الكبرى، وضمن هذا السقف تجري المنافسة السياسية والانتخابية، ولذلك أصبح من اليسير تداول السلطة بين الأحزاب من دون تعريض النظام السياسي لهزات أو انعطافات كبرى. فحينما تنتقل السلطة من اليسار إلى اليمين أو العكس لا نشهد تغييرات كبرى تطال التوجهات الثقافية والسياسية للدولة أو السياسات الخارجية المنتهجة. بل إن الظاهرة التي تلفت الانتباه اليوم هي التقارب بين الأحزاب السياسية إلى ما يقرب التماثل تماما، بما يجعل من اللعبة الديمقراطية شكلية من بعض الوجوه، ولا تعبر عن إرادة الرأي العام أو اتجاه الجمهور أصلا، ولعل هذا ما حدا ببعض الباحثين الغربيين للحديث عن انتهاء عصر الإيديلوجيا واختفاء مفهوم اليمين واليسار أصلا. ومهما كانت في هذا الحكم من بعض وجوه التهويل والمبالغة إلا أنه ليس أمرا خاطئا بإطلاق، إذ يمكن اليوم أن يقرأ البرامج السياسية لأحزاب اليمين واليسار حتى يتولد عنده ثل هذا الإحساس. - يلاحظ أن ديمقراطية الغرب داخلية وليس دولية، وديمقراطية العرب إقصائية، فهل تنجح الديمقراطية فقط في ظل الازدواجية؟ هذا ليس قانونا حتميا وإن كانت هذه الازدواجية قائمة وصارخة فعلا. فالدول الأوروبية الصغرى التي ليس لها ميراث استعماري مديد أو مصالح كبرى خارج الحدود القومية مثل السويد وسويسرا وبلجيكا تستطيع أن تتخلص بدرجات متفاوتة من هذه الازدواجية، ولعل هذا ما يفسر مثلا كون البلدان الأسكندينافية الأكثر حساسية وجدية في ملف الحريات وحقوق الإنسان مقارنة بأخواتها الأوروبيات، إلا أن الأمر يبدو أعسر بكثير بالنسبة للدول الغربية الكبرى التي شكلت نظاما دوليا تتمتع فيه بامتيازات خاصة لا يمكنها الحفاظ عليه إلا بضمان نوع من الهيمنة الخفية والظاهرة. يبدو لي أن مشكلة الغرب هي جزء من مشكلة النظام الليبرالي نفسه الذي ولد مسكونا منذ وقت مبكر بين مطالب الحرية والتحرر داخل الحدود، وبين متطلبات المجد القومي والمصالح القومية خارج الحدود، ولذلك لم يكن غريبا أن يتزاوج المشروع الليبرالي الغربي القائم على مقولات الحرية والتحرر، مع لعبة التوسع الاستعماري وإخضاع الشعوب، ففي الوقت الذي كان نابليون بونبارت يجلجل بشعارات الثورة الفرنسية في المساواة والحرية كانت جيوشه تندفع باتجاه مصر سنة تحت شعار جلب المدنية والتقدم للشعوب المتخلفة. ليس من اليسير التوليف أو التوفيق بين شعار الديمقراطية ومقتضيات المصالح القومية للدول الكبرى، وكلما وقع مثل هذا التعارض تنحاز هذه الدول غالبا وبصورة تلقائية لمصالحها وامتيازاتها الخاصة. قد تكون الدول الغربية راغبة فعلا في أن ترى عالما ديمقراطيا وليبراليا على صورتها في مختلف قارات العالم، بما يثبت الطابع الكوني والانتصاري للنموذج الليبرالي إلا أن الصعوبة تنشأ عند غياب هذا التوافق والانسجام بين متطلبات المصلحة القومية، وقيم الحرية والديمقراطية التي جعلتها عنوان لتميزها وتفردها عن بقية دول العالم الأخرى، وكلما وقع مثل هذا التعارض ترجح الدول الكبرى في نهاية المطاف عنصر المصالح القومية على أي شيء آخر. وربما يبدو هذا التناقض أشد ما يكون في المنطقة العربية حيث يصعب أن تفرز التجربة الديمقراطية القوى المرغوب فيها أمريكيا وغربيا عامة بما يؤدي إلى تعطيل أو حتى إفساد التجربة الديمقراطية لدواعي الحفاظ على مصالح الدول الكبرى الحاضرة بقوة في المنطقة. أما فيما يتعلق بسؤالك عن هذه الازدواجية في العالم العربي فهو معفي منها، لأنه لا توجد ديمقراطية أصلا، إذ تتراوح أوضاع العالم العربي ما بين أنصاف ديمقراطية وبين استبداديات كاملة، وغاية المنى ألا تنتكس هذا الديمقراطيات الناقصة إلى نوع الاستبداديات المطلقة. - يعتبر العديد من السياسيين والمواطنين العرب والمسلمين أن الخلاص اليوم من الوضعية المزرية في العالم العربي خاصة هو في تبني الديمقراطية، هل هناك نموذج غربي ديمقراطي أصوب يمكن أن نستفيد منه؟ - أنا شخصيا لا أومن بالحلول السحرية، أي إضفاء هذه الهالة المعجزة والخارقة للديمقراطية. قد تكون الديمقراطية أحدى أدوات الحل في العالم العربي والفضاء الإسلامي الأوسع، إلا أنها ليست قوة خارقة للتاريخ والمجتمعات، بل هي تظل في نهاية المطاف مشروطة بأوضاع الاجتماع السياسي الذي تشتغل ضمنه، لذا يجب التواضع بعض الشيء والتخلي عن مثل هذا التصور الخلاصي للديمقراطية. ليس من المنتظر مثلا أن تنقلب أوضاع العراق المبتلى بالاحتلال الأمريكي مثلا إلى جنة الله الموعودة بمجرد أخذه ببعض الأساليب الديمقراطية. الديمقراطية تحسن فعلا من أداء النظام السياسي وتسهم في تطوير الأوضاع ولكنها ليست بالأسفير السحري الذي يحول الضعف إلى قوة والوهن إلى عزة. صحيح أن العالم العربي يشكو من آفتي التسلط والاستبداد السياسيين ولكن هذا لا يعني أن الأوضاع العربية ستنقلب رأسا على عقب بين عشية وضحاها بمجرد الأخذ ببعض أسباب الديمقراطية في إدارة الحياة السياسية وأنظمة الحكم، لأن هنالك مشكلات بنيوية أخرى تطال كل قطر عربي على حدة مثلما تطال عموم الوضع العربي عامة. فهناك مطالب وحاجات أخرى لا تقل أهمية وحيوية عن مطلب الديمقراطية، ولعلنا اليوم في حاجة إلى إعادة ربط الديمقراطية بمطلب التحرر والوحدة، على نحو ما فعل ذلك جيل الإصلاح والاستقلال مثل سعد الدين زغلول في مصر وعلال الفاسي في المغرب وعبد العزيز الثعالبي في تونس. فعلا هناك حاجة للديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي ولكن لا يجب المبالغة في الأمور أو التعلق بالأوهام حتى لا نغذي عوامل اليأس في نفوس الشعوب. - لماذا يتعثر مشروع الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؟ - يتعثر مشروع الانتقال الديمقراطي في العالم العربي لأسباب عدة، أولها أنه لا توجد مصلحة دولية فعلا في ضمان انتقال ديمقراطي جاد في المنطقة العربية بعدما تبين أن صناديق الاقتراع لا تفرز ضرورة القوى المرغوب فيها أمريكيا وغربيا عامة، وهذا ما يفسر إغلاق ملف الإصلاح السياسي الذي كانت ترفعه إدارة بوش والدول الأوروبية منذ 2001، خاصة بعد الانتخابات التي جرت في مصر سنة 2005 والتي أفرزت أكبر كتلة معارضة في مجلس الشعب المصري تنتسب لجماعة الإخوان المسلمين، ثم انتخابات 2006 التي تلتها في الساحة الفلسطينية، والتي أعطت أغلبية مقاعد المجلس الوطني لحركة حماس، كل ذلك أقنع الأمريكيين والغربيين عامة بأن اللعبة الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم بالغة المجازفة والكلفة ولذلك قرروا إغلاق ملف الإصلاح والعودة مجددا إلى المربع الأول الذي ولفوه جيدا، أي مقايضة النفط والنفوذ السياسي بضمان حماية الأمن وما يسمى تجاوزا بالاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط، مع الاكتفاء باستخدام المطلب الديمقراطي أداة ضغط على من تعتبرهم أمريكا دولا ناشزة أو مارقة مثل سوريا وإيران والسودان وحتى مصر كلما ظهر اختلاف في قضية من قضايا التسوية مثلا، كما أن صعود ملف السلاح النووي الإيراني على رأس الأجندة الأمريكية والإسرائيلية قد رجح الحسابات الإستراتيجية الكبرى على مسألة الإصلاح، بل ثمة حديث متزايد اليوم بأن الحكومات المستبدة هي الأقدر على حماية المصالح الغربية. ثانيا امتناع الحكومات العربية عن فسح المجال أمام مشاركة سياسية حقيقية وجادة تمس بنية الحكم وتوازنات السلطة، مع الاقتصار على بعض التنفيسات الجزئية وفتح هامش محدود أمام القوى السياسية في أحسن الحالات خشية انفجار الأوضاع العامة، أو الالتفاف على بعض الضغوط الدولية المحتشمة وليس أكثر من ذلك. ثالثا كثرة النزاعات والاستقطاب الاجتماعي في العالم العربي بما يجعل من الديمقراطية تتحول في بعض الأحيان عاملا من عوامل تعميق الصراع وتمزيق النسيج العام بدل رأب التصدعات نحو ما رأينا ذلك في العراق، خاصة حينما تبنى هذه الديمقراطية على أسس طائفية وعرقية. نعم الديمقراطية تساعد على تحسين أداء النظام السياسي وضمان السلم المدني وامتصاص الصراعات المهلكة حول السلطة بيد أنها تحتاج إلى ممارسة ما يمكن تسميته هنا بفن التسويات والمساومات الاجتماعية والسياسية بين مختلف القوى المتنافسة بما يجعل الجميع يطمئنون إلى حماية مصالحهم بحيث لا يكون هناك منتصرون بالكامل ومهزومون بالكامل. - هل من الضروري أن تتخلى الأحزاب الإسلامية عن مرجعيتها الإسلامية إلى مرجعية مدنية من أجل إنجاح التوافق السياسي الداخلي وتخفيف الضغط الخارجي وإنجاح مشروعها؟ إذا كانت الأحزاب الإسلامية تعتبر نفسها ذات قدسية أو عصمة خاصة ففي هذه الحالة عليها أن تراجع نفسها وتعيد قراءة برامجها وأطروحاتها بشكل جيد، أما إذا كانت تعتبر انتماءها للمرجعية الإسلامية لا يعطيها وضعا دينيا خاصا ولا يعفيها من مبدأ التقييم والمحاسبة على ضوء ما تطرحه من خيارات وبرامج سياسية فهي في الاتجاه الصحيح. السياسة هي مجال التداول الحواري والترجيحي بين مختلف القوى السياسية وليست مجال القطع والجزم، وبهذا المعنى فإن الحركات الإسلامية تقدم اجتهادا سياسيا ولا تقدم أحكاما دينية قاطعة أو حتى فتاوى دينية ناجزة، ولعله من المطلوب من الإسلاميين هنا تحرير هذه المساحة الرمادية بين الديني والسياسي تجنبا لشبهة كون الإسلاميين يوظفون الدين والمقدسات في مجال السياسة. إن أهم مدخل لتحرير الإسلام من كل انتماءات حصرية أو احتكارية هو فتحه أمام الجميع ليكون فعلا هما مشتركا ومشغلا عاما لمختلف القوى السياسية والاجتماعية وسائر النخب سواء كانت في الحكم أم في المعارضة، كما أن أهم وسيلة ناجعة لنشر الديمقراطية هو افتكاكها من أيدي النخب وبسطها بين أيدي الناس حتى يتوفر المجال فعلا لاختبار النظام الديمقراطي وتعديله وتطويره في هذه المنطقة من العالم. أما فيما يتعلق بالضغط الخارجي فلا أتصور أن له صلة مباشرة بموضوع الخيارات الفكرية أو الإيديولوجية وإن كان يتخفى وراء ذلك. مشكلة الغرب مع الحركات الإسلامية لا تعود إلى كونها تحمل لغة أو مطالب دينية، بقدر ما يعود الأمر إلى الخيارات السياسية التي تنهجها هذه الحركات، والدليل على ذلك أن موقف الغرب من الحركات اليسارية والقومية في الخمسينات والستينات لا يختلف كثيرا عن موقفه اليوم من التيارات الإسلامية. الأمريكيون لم يجدوا حرجا كبيرا في التعامل مع قوى دينية ومراجع معممة في العراق مثلا، وحتى طالبان أفغانستان، وقبل أن تفاجئهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانوا على استعداد لفتح جسور تواصل معها فيما يتعلق بمد خط أنابيب النفط من دول بحر قزوين وإبعاد روسيا عن مجالها الحيوي في آسيا الوسطى. كما أنه خلال حقبة الحرب الباردة لم ير مانعا في توظيف الدول الإسلامية في مواجهة المد الشيوعي. الذين يريدون تخفيف الضغوط لخارجية، عليهم أن يفكروا في الملفات الإستراتيجية الكبرى من قبيل العلاقة بالحلف الأطلسي والقواعد الأجنبية والصلة بإسرائيل قبل أن يتحدثوا عن الايديووجيا والفكر. الغرب لا يفهم إلا لغة الحسابات والمصالح الكبرى ولا يعبأ كثيرا بالأيديولوجيات والأفكار، حتى وإن تذرع بذلك. ففي حقبة الخمسينات والستينات كان الغرب يقول بأن مشكلته الرئيسية مع عبد الناصر الشرير والأيديلوجيا القومية مثلما يقول اليوم أن مشكلته مع الأصوليات الإسلامية. هل يمكن أن تكون الشورى أفضل من الديمقراطية؟ وهل الديمقراطية علمانية؟ - أنا لا أريد أن أدخل في مماحكات نظرية حول أيهما أفضل من الآخر، لأن الأنظمة السياسية لا تقوم على الادعاءات النظرية، كما أنها ليست مجالا للتجريب الخيالي للتطلعات والأحلام بل هي تثبت جدارتها من خلال ما تبينه واقعا من نجاعة عملية وقدرة على تحقيق الاستقرار الأهلي. لقد استغرق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر كثيرا من الجهد والوقت في خوض مثل هذا السجال حول مدى التوافق أو التناقض بين الشورى والديمقراطية أو أيهما أفضل من الآخر، وقد حان الوقت لإرجاع الأمور إلى نصابها وذلك بتجريد الديمقراطية مما علق بها من ادعاءات عقائدية ونظرية كبرى، من قبيل القول بأن الديمقراطية هي منظومة شاملة ومكتملة إما أن تؤخذ كلها أو ترد كلها. الديمقراطية ليست دينا ولا عقيدة يراد لها أن تحل محل الأديان والعقائد على نحو ما تدعي بعض المجموعات الإيديولوجية المتطرفة في العالم العربي، بل هي مجموعة من الآليات السياسية التي تسمح بتنظيم حياة سياسية مدنية مستقرة وهادئة إذا توفرت لها أرضية مناسبة للتشغيل،علما أن هذه الآليات تظل قابلة بدورها للتعديل والتطوير بحسب مقتضيات الاجتماع السياسي التي تشتغل ضمنه، وليست شيئا مطلقا ونهائيا بدورها. هل الدفاع عن الحريات الفردية أو العامة يجب أن يكون ضمن خصوصية المجتمع أم فوق هذه الخصوصية أي الاستناد إلى مبادئ ومواثيق دولية على حساب مرجعية المجتمع؟ لا توجد مثل هذه الكونية المطلقة والمتعالية عن ميراث اللغة والثقافة لأن الكوني ليس إلا خصوصية ناجحة أو خصوصية تم تصعيدها بالقوة المغلظة أو الناعمة إلى طور العالمية، ولذا يجب الحذر من هذه الإدعاءات الكونية المبالغ فيها. نحن اليوم مثلا نرتدي اللباس الإفرنجي وربما نستمع إلى موسيقى موزار أو بيتهوفن، ونشرب الكوكاكولا ولكن هل يعني ذلك أن هذا النمط من الملبس أو الذوق الموسيقي أو المشرب هو الممكن الوحيد أمام البشرية، فحينما أشرب الشاي المغربي أو استمع إلى الموسيقى الأندلسية أو أرتدي العقال العربي أو البدلة التقليدية هل معنى ذلك أنني خارج الكونية. الكوني هو حصيلة الفاعلية الحوارية والتواصلية بين مختلف الثقافات والحضارات، وبالتالي هو صيرورة ومسار وليس نقطة ثابتة ومحددة سلفا، نعم يمكن تجاوز الخصوصيات المنغلقة على نفسها والارتقاء إلى طور الكونية شريطة التحلي بخصلة التواضع والاعتراف بأن العالم أوسع من لندن وباريس ونيويورك. المواثيق الدولية تعبر من بعض الوجوه عن منحى إيجابي في الاعتراف بوجود حقوق كونية تشمل جميع البشر بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم بدل حسبانها امتيازات خاصة وحكرا على مجموعات قومية أو دينية معينة، إلا أن الخطأ يتأتى من جانبين إثنين: أولا حينما يتم التركيز على مساحات الاختلاف والتباين بدل البحث عن المشترك ومحاولة توسيعه من خلال إرادة التواصل والإصغاء المتبادل. هناك اختلافات فعلية لا يمكن إنكارها، وهي ناتجة عن اختلاف المنظومات القيمية والثقافية بين الأمم والشعوب من مثل الموقف من العلاقات المثلية، أو اعتبار ما يسمى بالعلاقات التعاقدية المرنة أو العلاقات الحرة بديلا عن الزواج وغيرها، وهي قضايا ما زالت وستظل موضع اختلاف بين الثقافات بل داخل المجتمع الواحد والثقافة الواحدة، إلا أنه يتوجب التركيز بدلا من ذلك عن مساحات أخرى أوسع بكثير في المواثيق الدولية قد باتت موضع اتفاق عام. ثانيا نتأتى المشكلة حينما تتم أدلجة هذه المواثيق الدولية لخوض معارك سياسية وثقافية معينة، من ذلك مثلا ما نراه من حرب ساخنة وباردة تخوضها الكثير من الأوساط الغربية عبر وكالة بعض المجموعات الإيديولوجية في العالم العربي تحت ذريعة الدفاع عن الحقوق الكونية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان المهددة، فهذه المجموعات ليست معنية كثيرا بحماية الحقوق والدفاع عن ضحايا الانتهاكات الإنسانية بقدر ما هي معنية بتوظيف هذه المواثيق لتأكيد طلائعيتها ووكالتها الخاصة في الدفاع عن القيم الحداثية والمواثيق الدولية . قد نتفق مثلا على الحاجة إلى تحرير المرأة وتخليصها من المكبلات التي تحد من إرادتها وتطلعاتها، بيد أن طرق التحرر متعددة بتعدد الأنفس، وليس بالضرورة أن تنتقل النسوة في كل مناطق العالم نحو نموذج المرأة الباريسية أو اللندنية حتى تكون جديرة باكتساب صفة التحرر والانعتاق. - رغم توفر ظروف دولية ومحلية لانتشار وانتصار العلمانية فإن الإسلام السياسي هو الذي يحقق الانتصارات في كل المحطات الانتخابية رغم التزوير، كيف تقرأ هذه المعادلة؟ الكثير يفسر هذا الأمر بوجود نوع من الدسائس والمؤامرات التي نسجتها أو تنسجها الأنظمة الحاكمة أو الأطراف الدولية لمواجهة القوى التقدمية إلا أنه يبدو لي أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، فلو كانت مثل هذه المؤامرات تصنع التيارات وتنشر الأفكار لأصبح العلمانيون العرب أقوى التيارات وأكثرها انتشارا بعدما أعلن الأمريكيون بأنهم معنيون بدعم الحداثيين والعلمانيين بعد أن أصبحوا عملة ذهبية نادرة في العالم العربي والإسلامي. جوهر الأمر يمكن إرجاعه إلى أن الإسلاميين يشاركون المجتمع نظام قيمه ولغته العامة، ولذا من اليسير عليهم ضمان التواصل والفهم المتبادل بينهم وبين القطاع الأوسع من الناس، خلافا للنخب العلمانية أو المسماة بالحداثية تجاوزا التي سيّجت نفسها بحصون فكرية ولغوية وحتى جغرافية في بعض الأحيان، فانتهى بها الأمر إلى نوع من التجاهل المتبادل بينها وبين المجتمع، فلا هي باتت تعبأ به كثيرا ولا هو يعبأ بها. كما أن حمل الإسلاميين للقضايا الكبرى والمطالب المجهضة في العالم العربي من قبيل مطالب الوحدة وحماية السيادة ومواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين قد جعلهم يتصدرون طليعة القوى الاجتماعية والسياسية، بيد أن هذا لا يعني إعطاء الإسلاميين تزكية نهائية ومفتوحة إذا ما تخلوا عن مثل هذه القضايا الكبرى وتحولوا إلى مجرد أحزاب إدارية لا هم لها سوى انتزاع بعض المقاعد في البرلمانات أو ضمان بعض الحقائب الوزارية، في هذه الحالة لن يكون وضعهم أفضل من سابقيهم من الحركات الأخرى. أنا ممن يقولون بأن تبار الإسلام السياسي هو بصدد إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي، وفي الرقعة العربية على وجه الخصوص، وهو تيار سيترك بصماته لعقود قادمة من الزمن وربما لما هو أكثر من ذلك، وكلما اشتد الضغط الغربي على العالم الإسلامي كلما تقوت شكيمة الإسلاميين أكثر، طبعا هذا لا يعني أن مسار هذا التيار سيكون دائما مسارا تصاعديا وخطيا من دون تراجعات وإخفاقات في هذا الموقع أو ذاك. يبدو لي أن النجاح الأكبر تسجله الحركات الإسلامية على صعيد الثقافة والعمل الأهلي، والفشل الأكبر الذي تواجهه على صعيد تجارب الحكم والدولة نظرا لوجود معادلات دولية ضاغطة وغير مواتية للتغيير إلى حد الآن، ولعل هذا ما يوجب على الإسلاميين إعادة التفكير في أولوياتهم وتوجيه طاقاتهم نحو العمل الشعبي والأهلي والدفاع عن الثوابت والقضايا الكبرى بدل التركيز على الدولة والحكم. - ما هي حدود العلمانية والأسلمة في الوطن العربي؟ الإسلام حقيقة راسخة وثابتة في العالم العربي، وربما الإسلام هو اليوم أقوى وأرسخ مما كان عليه قبل قرنين أو ثلاث، ولذا يتوجب التخلص من وساوس الهوية والشعور المفرط بأن الإسلام في خطر، لقد تمكن العالم الإسلامي من امتصاص موجات الاجتياح الاستعماري التي بدأت تتسرب إليه منذ بدايات القرن التاسع عشر، وهو اليوم يفعل طاقاته في مواجهة الدورة الجديدة من الاستعمار المباشر التي يراد فرضها مجددا على المنطقة، كما أنه يعمل على استيعاب حركة الحداثة الجارفة وإعادة توجيه أولوياتها بدرجات متفاوتة النجاح. كما أن حركة العلمنة هي بدورها حقيقة موجودة لا يمكن إنكارها خاصة على صعيد الدولة والمؤسسات الرسمية، ولعل هذا ما يفسر غياب الانسجام بين حركة الدولة والمجتمع في الكثير من مناطق العالم الإسلامي إلى الحد الذي يصل درجة الصدام الحاد في بعض الأحيان، فبينما تتجه الدولة نحو ضروب من العلمنة الخفية والظاهرة يتجه المجتمع أكثر فأكثر نحو التوجهات الدينية، إلا أنه مع ذلك لا يمكن قراءة واقع الدين أو العلمنة في العالم الإسلامي من خلال نافذة الدولة ومؤسسات الحكم. ففي تركيا مثلا أخذت الدولة طابعا علمانيا جذريا بما يشبه النموذج اليعقوبي الفرنسي، في حين ينحو المجتمع التركي نحو التدين أكثر فأكثر، وفي إيران أخذت الدولة طابعا شيعيا صارما بينما تنحو بعض قطاعات المجتمع نحو الخيارات الغربية والعلمانية كشكل من أشكال الاحتجاج الصامت والمعلن ضد الدولة. وربما الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه من هذين التجربتين هو أنه حينما يتم استخدام أنياب الدولة سواء باتجاه فرض العلمنة أو الأسلمة تكون الإخفاقات أشد. التيارات العلمانية حقيقة موجودة ولا يمكن إنكارها وإلغاؤها، فهي منتج التحولات الثقافية والسياسية التي عرفها الاجتماع الإسلامي خلال القرنين الأخيرين، وعلى الجميع البحث عن التسويات وبناء أرضية التعايش والتواصل إذا أردنا فعلا حماية السلم الأهلي وتجنيب مجتمعاتنا مزيدا من الصراعات والمنازعات المكلفة للجميع. - هل قدرنا في العالم العربي أن نقلد الغرب في نموذجه الديمقراطي خاصة أن بعض المفكرين الغربيين قالوا بضرورة تخلص العرب من لعنة النموذج؟ علينا فعلا أن نتخلص من سطوة النموذج أو النماذج الجاهزة، بمعنى تصور وجود حلول ناجزة وجاهزة سواء مجلوبة من الآخرين أو مستمدة من ميراث التاريخ، فقد شهدت أوضاعنا تحولات كبيرة طالت أنماط التفكير وطرز الحياة بما لم تعد تسعف فيه النماذج التاريخية السابقة أو الوصفات السحرية الجاهزة. لعلنا في أمس الحاجة إلى التحلي بالوعي التاريخي هنا، أي حسن النظر إلى الواقع بدل التعلق بالنظريات والأفكار النمطية، وإدراك أن الحلول تولد من رحم الواقع بكل تناقضاته وأوجاعه. أقول هنا نحن في حاجة إلى الإلقاء الفكرة الديمقراطية في قلب الاجتماع العربي والإسلامي وانتزاعها من أيدي النخب وصالوناتها المغلقة حتى تختبر الفكرة الديمقراطية وتتفاعل مع واقع المجتمعات وتعمل فيها آلية التصحيح والتطوير. الديمقراطية ليست نموذجا سحريا ومكتملا بل هي مجموعة من الآليات الإجرائية التي تصلح لمعالجة معضلة الاستبداد السياسي والتخفيف من تسلط الدولة، ولا يجب أن نخجل من القول بأن هذه الديمقراطية قابلة للتعديل والتدارك بحسب حاجات المجتمع وأولوياته، فالواقع له أولوية على النظريات والأفكار. - لماذا لم تنجح الحوارات بين الإسلاميين والعلمانيين حتى الآن؟ - الأمر ليس بهذا الإطلاق، أنا على العكس من ذلك أرى الأمور تسير باتجاه تجسير الهوة وفتح قنوات التواصل والحوار بين الطرفين، نحن نشهد تيارا متزايدا من داخل الإسلاميين والعلمانيين على السواء يميل إلى تجنب الحلول الجذرية القاسية والمكلفة لمجتمعاتنا. العلمانيون يتجهون إلى الاعتراف بمعطى الهوية العربية الإسلامية وقبول مبدأ الشراكة والتعاون مع الإسلاميين، والإسلاميون يتجهون إلى الاعتراف بالعلمانيين والتعاون معهم في مواجهة التحديات والمخاطر الكبرى المحدقة بالأمة. هذا يستوجب العمل على تهميش تيارات التطرف والتشدد على الجهتين التي تعمل على توسيع الصراعات بدل تخفيفها، وتعميق الجراحات بدل مداواتها، فلا مستقبل لمنطقتنا أو أمتنا إلا في أجواء من الوفاق والتعايش العام لأن البديل عن ذلك مزيدا من الصراع والتفتت.