حاوره : يونس بنمورو في حوار مع الباحث في السوسيولوجيا حسن المجاهيد: “جاك بيرك” عايش السلوكات العربية. السؤال الأول : من هو بداية حسن المجاهيد ؟ و كيف تقدم نفسك للقارئ ؟ أستاذ علم الإجتماع بكلية الأداب و العلوم الإنسانية ، جامعة القاضي عياض بمراكش . أستاذ زائر بجامعة بروتان الغربية ” بريست ” فرنسا 2002 – 2006 . مجالات الإهتمام : التحولات السوسيوثقافية بالعالم العربي و حوض البحر الأبيض ، خبير لدى المؤسسات الوطنية و الدولية ، في إنجاز و تتبع و تقييم المشاريع التنموية . السؤال الثاني : صدر لكم مؤخرا عن دار النشر أفاق ، كتاب تحت إسم ” سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك ” السؤال الذي يتبادر لذهن القارئ منذ الوهلة الأولى هو : لماذا جاك بيرك بالضبط ؟ و على أي أساس أخذ مركز إهتمامكم و بحثكم ؟ يعتبر جاك بيرك من بين المفكرين البارزين في مجال العلوم الإجتماعية ، و لعل أساس التفكير في الإهتمام بأعماله راجع إلى أهمية هذا الإنتاج نظريا و منهجا . تجاوزت أعماله المئات من الكتب و المقالات و الحوارات : بدءا بالمونوغرافيات ، مرورا بالعمل الإثنولوجي المتميز حول سكساوة بالأطلس الكبير ، و صولا إلى ترجمة القرآن الكريم و الأحاديث النبوية ، و خلال ما يزيد على خمسين سنة عايش السلوكات العربية ، و إحتك بها ، و تفاعل معها من أجل فهمها في ماضيها و حاضرها و كيفية توجهها نحو المستقبل . فجاك بيرك ما فتئ خلال مشروعه الفكري برمته ، يبلور إشكاليات و مقاربات و مفاهيم بعيدا عن الطرق المعبدة و عن حدود التخصصات و تقسيم الأجناس ، مازجا بين النظري و العملي في سعيه للإلمام بالواقع العربي في غناه و تعدديته ، وفي أبعاده المحلية و الكونية ، و مهما تعددت و تنوعت موضوعات هذه الإشكاليات يبقى مركزها الإنسان العربي في تعابيره ، في نجاحاته و إخفاقاته ، في عنفه و ليونته ، في إقدامه و تردده ، و في سعيه إلى إثبات وجوده مع الأخر و بالرغم منه ، و تزداد أهمية محاورة هذا المفكر ، في سياق ما يعرفه العالم العربي اليوم من غليان إجتماعي ، كتعبير عن أزمة هوياتية عميقة بالعودة إلى التفكير الأصيل و الهادئ ، بعيدا عن الصخب الإعلامي و هلوسات المقاربات الإنفعالية للحدث الساخن . السؤال الثالث : ما الذي يميزه إذن في نظركم عن غيره من المستشرقين و الباحثين في العلوم الإجتماعية ؟ أين يتجلى مركز ثقله و قوته ؟ و أي المناهج تخللت أعماله ؟ بمعنى ما هي حسب زاوية نظركم أهم مقومات المنهج لديه و التي أكسته صفات التميز و التفرد ؟ إن ما يمز جاك بيرك عن غيره من الباحثين في مجال العلوم الإجتماعية ، و ما يجعله جديرا أيضا بالإهتمام ، هو عدم إنصياعه و خضوعه لأمهات النظريات المهيمنة ، و جرأته و قدرته على مساءلتها و تجاوزها ، إذ كان مسلحا في ذلك بتجربته الغنية و بإعتماده الواقع كمحك أول و أخير ، إن هذا النهج الذي سلكه و الذي يتخلل كل أعماله برمتها ، جعله في منأى عن المنزلقات التي ألت إليها التصورات الإختزالية و التوجهات المغرضة ، فما يتوجب علينا الإشارة إليه كذلك ، هو أنه لا يجب بأي حال من الأحوال محاولة تصنيفه في إتجاه نظري معين ، أو القيام بإسقاطات إيديولوجية ، أو حصره في خانة معرفية معينة ، لأن هذا سيحرم القارئ من إدراك هذا النهج في عمقه و أصالته و أبعاده المختلفة ، فالمنهج لديه لا يمكن حصره في إطار نظري معين ، أو إخضاعه لمفاهيم جاهزة و مسطرة مسبقا ، كما أنه ليس مجموعة من المقاربات و التقنيات الجافة الصالحة لكل زمان و مكان ، بل يتجاوز ذلك ليصبح عملية مجابهة بين الباحث و موضوع بحثه ، و تفاعل مستمر و حوار فعال ، مما يجعله لينا يتكيف و يتغير بتغير الواقع ، فالمقاربة البيريكية تنطلق مما هو واقعي ، من الحدث ، من المعيش ، من الإشارات التي تزخر بها الحياة من أجل إعادة تكثيف الوقائع ، إن الحياة بكل رموزها هي المجال الذي يستمد منه فرضيته ، و قد كان حريصا على عدم تشويه الواقع أو ممارسة أي عنف عليه . إذا كانت المقاربة البيريكية تنطلق من الواقع ، فهذا لا يعني أنها تبقى سجينتا لها ، إنه يعتبر الظواهر الإجتماعية كأشياء لكن كأشياء مليئة بالأفكار و الرموز ، مما يجعله ينتقل من المادي الملموس إلى ما هو تصوري نظري . السؤال الرابع : من المعروف أن أغلب السوسيولوجين الوطنيين وجدوا أنفسهم بعد الإستعمار أمام إرث إبستمولوجي يتراوح بين النجاعة العلمية تارة و بين الترف الفكري و الإعتباط تارة أخرى ، فكيف تموقع جاك بيرك إذن من الإستعمار في بادئ الأمر ؟ و ما المسافة الفاصلة التي وضعها بينه و بين الزخم المعرفي الكولونيالي ؟ لم يعايش بيرك هذه المرحلة كمفكر ملاحظ فحسب ، بل عايشها كمشارك و فاعل و معني بتطورات الأحداث ، لقد أدرك منذ البداية أن الإستعمار مآله الزوال ، لأنه جسم غريب جاثم على أرض و على ثقافات و حضارات لم يدرك عمقها التاريخي و الأنتروبولوجي ، و لعل ما يميزه عن غيره في هذا المجال أنه لم يقف عند تلك المظاهر الكمية التي ركزت عليها جل التحليلات ، بل أدرك بعمق مخلفات ذلك الجرح العميق ، الذي احدثه الإستعمار بين ثقافة الإنسان و طبيعته ، لقد أدرك أكثر من غيره أن أهم ظاهرة عرفها العالم المعاصر هو تفكك الإستعمار ، و بروز هويات ، و إنبثاق شعوب على سطح التاريخ ، إن هذا الحدث ، ما فتئ بيرك يركز على أنه لا يستوجب ، إعادة النظر في الفرضية الغربية حول الإنسان و التاريخ فقط ، و لكن أيضا يستوجب إعادة النظر في منطلقات العلوم الإجتماعية و مختلف المفاهيم ، التي تركز عليها ، لأنها قاصرة عن إدراك الحقيقة التاريخية التي تطفو على السطح من جديد ، لم ينح جاك بيرك منحى الإثنولوجيا السائدة آنذاك ، بل عمل جادا على إنتقادها و على تفنيد منطلقاتها و تصوراتها ، لقد تخلص بسرعة من كل البراديكمات التي إختزلت الواقع المغاربي خاصة ، و الواقع العربي عامة ، في ثنائيات متآكلة عميقة و جامدة ، إذ تموقع منذ البداية في إطار الفرضية التاريخية ، بدل الفرضيات العضوية ، أو الفرضية الإنقسامية ، من أجل دراسة النسق الإجتماعي المغاربي ، ما جعله في مأمن من تلك التوجهات المغرضة و الإختزالية ، وهكذا أمد السوسيولوجيا المغاربية بأنفاس جديدة ، ما جعله يصبح رائد التحول الجذري للفكر السوسيولوجي المغاربي . السؤال الخامس : غالبا ما زج الإستشراق الكلاسيكي بالإسلام في متاهات غيبية و روحانية ، أو جردته من عامل الزمن ، فإلى أي حد يمكن القول أن خصائص الإستشراق الكلاسيكي تنطبق على جاك بيرك ؟ كيف عالج الإسلام ؟ و ما نظرته السوسيوثقافية له ؟ و هل لأعماله نوع من الفرادة و التميز في مقاربته للإسلام مقارنة مع متن الإستشراق الكلاسيكي ؟ و كيف كان تعامله مع موضوع جد شائك و مثير للجدل و شديد الحساسية ؟ لقد أدرك بيرك بعمق أهمية الإسلام القصوى كأحد الركائز التي لا يمكن بدونه فهم السلوكات العربية ، سواء تعلق الأمر بالماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد عاكس كل التوجهات و التصورات التي زجت الإسلام في متاهات و تجريدات لم ينتج عنها إلا نقاشات و سجالات عميقة ، سواء تعلق الأمر بما روجه جل المستشرقين أو بعض فقهاء الإسلام ، بمعنى لقد تناول الموضوع كأحد المتخصصين في مجال العلوم الإجتماعية ، و ليس كتيولوجي ، مما جعله يبتعد عن المواقف الدغمائية و المتحجرة ، لقد إهتم أساسا بالتاريخ الإجتماعي للإسلام في العالم المعاصر ، مبرزا مختلف الأدوار و الوظائف التي قام بها في تفاعلاته المختلفة مع الأخر ، و كيف أنه قادر على الأخذ و العطاء و التعامل و التفاعل مع كل المستجدات ، فالإسلام الذي ما فتئ بيرك يحاوره ، ليس إسلام الفقهاء المتزمتين و المتشددين ، و الإسلام التطابقي كتصور تبريري ، و الإسلام الميتافيزيقي ، و لكنه الإسلام كشمولية : الإسلام دين و دنيا في سعيه إلى التوجه نحو المستقبل مع الأخر و بالرغم منه ، بتعبير أخر ، لقد عمل جاك بيرك على فك العزلة عن الإسلام منهجيا و فكريا ، في الزمان و المكان ، ليصبح الإسلام إشكاليا قادرا على رسم و تحيين إشكالات العالم العربي و الإسلامي بدون خلط أو ذوبان ، فبهكذا عمل جادا ، خلافا لما ألت إليه التصورات العميقة و التوجهات المغرضة ، على إبراز أهمية الإسلام ، و قوة حضوره و قدرته على التكييف و التفاعل و التجاوز و تحدي الإيديولوجيات المتلاشية و المهيمنة ، مبرزا حقه في التنازع حول عالم المستقبل الذي ليس ملكا لأي كان . السؤال السادس : الحديث عن الإسلام هو حديث عن الثقافة العربية بالدرجة الأولى ، بمعنى أن حضوره كنسق يشمل كل مناحي الحياة ، إذ لا يتجزأ لا من الثقافة العربية ، و لا من السلوك العربي ، فكيف حسب وجهة نظركم إذن ، قارب جاك بيرك الثقافة العربية ؟ و كيف كانت زاوية نظره للجدال و النزاع بين دعاة الأصالة و أيضا المعاصرة ؟ و ما هو منظوره الخاص للعرب و العروبة ؟ إن الثقافة العربية من منظوره ، تتحدد بالتاريخ ، من خلال ثوابت و متغيرات ، و من خلال تفاعلاتها المختلفة ، و تعبر عن هموم و مشاغل العرب في توجهاتهم نحو المستقبل ، بمعنى أن تناوله لموضوع الثقافة العربية الإسلامية تميزه ، و كما هو الشأن بالنسبة لمختلف المواضيع التي تناولها ، بواقعيته السوسيولوجية ، و بليونة مقارباته ، فهو خلافا لعدد من التصورات التي ، إما أنها زجت بها في أحضان الثقافة الغربية ، أما هو فقد عمل أساسا على الإنصات للتعابير المختلفة لهذه الثقافة كما تتصور نفسها و كما تريد أن تكون ، إن مسألة الهوية و الأصالة و الخصوصية و العالمية ، كمحددات للثقافة العربية الإسلامية ، تطرح بحدة ، ليس فقط بالنسبة للعرب ، بل بالنسبة للإنسانية جمعاء ، لم يتعامل بيرك مع هذه المفاهيم كمعطيات ثابتة من أجل تحليل السلوكات الثقافية للعرب ، بل عمل على إنعاشها ، وعلى نقدها ، و على إختبار مصداقيتها من أجل مد الجسور بين الشعوب و مختلف الثقافات ، لأنه كان يهدف من جهة ، إلى زعزعة الفكر الإثنومركزي ، أو كما يسميه هو ” الشبجزيري ” ل ” الناضج الغربي ” و من جهة ثانية ، كان يهدف إلى حث العرب على المزيد من الإجتهاد مع الآخرين و بالرغم منهم ، بالتكنولوجيا و بالرغم منها ، بالتراث و بالرغم منه ، و بالتالي فإن البحث عن الهوية والأصالة لا يمكنه إلا أن يكون مشروعا مسقبليا ، مهما كلف ذلك من ثمن و تفاؤل ، لأن التفاؤل في التاريخ ، و كما يؤكد ذلك ، ليس هو الإيمان بالسعادة ، بل الإيمان بالمشاكل ، و خلافا ، للتصورات الإختزالية و السجالية ، فإن بيرك ما فتئ يؤكد أن العرب بالرغم من أن التاريخ أساء إليهم ، فإنهم يتموضعون اليوم أكثر من أي وقت مضى ، في قلب إشكالية التاريخ المعاصر ، و يتوفرون على المؤهلات اللازمة ليساهموا كفاعلين في بناء عالم مستقبلي ، الذي لا يمتلكه أي أحد ، و لعل ما يميز سلوكهم الثقافي ، الإقتصادي و السياسي ، من إضطراب و تناقض و تذبذب و تطرف أحيانا ، ما هو إلا مؤشر صحي على وعيهم بتاريخهم الحافل ، و وعيهم بمقتضيات المستقبل ، لأنهم لا يرغبون في الذوبان في خليط ما . السؤال السابع : لا يخرج أي مفكر من شرنقة الإبداع إلا و هو محمل بخطابات شتى ، تفوح منها رائحة التقدير و الإعتراف أحيانا و أحيانا أخرى ، تفوح منها رائحة النقد الهدام عوض البناء ، فحسب هذا المنطق ، ما هي أهم المؤاخذات و التقديرات الموجهة لجاك بيرك ؟ بداية يجب الإشارة أن أعمالا من حجم ما أنجزه جاك بيرك ، لا يكمن إلا أن تكون محط نقد و إختلاف ، ففيما يتعلق بالمؤاخذات ، نجد أن عبد الكبير الخطيبي يمثل الموقف المتشدد تجاه بيرك و الأشد تنكرا لأعماله و نهجه ، بجانب محمد وقيدي ، لكن هذا الأخير أقل تعصبا و تشددا ، فالأول ، إنطلق من مؤاخذات عامة حول الإستشراق مركزا على أعمال جاك بيرك ، متناسيا أن يقوم بالتمييز بين الإستشراق عامة ، وبين مواقف بيرك المتقدمة التي عملت على إقبار دعائم الإستشراق المغرضة و الموجهة ، زيادة على إعتباره ، بأن بيرك يحس بنوع من الأبوية إتجاه العرب ، و هذه المؤاخذة ليست سوى إحساس يصعب تبريره ، أما وقيدي ، فقد كان يعترف لبيرك بمواقفه المتقدمة على المستوى المنهجي و الفكري ، إلا أنه لم يوف الرجل حقه ، لأنه يرى هو أيضا في أعمال بيرك و توجهاتها المختلفة ، في نهاية المطاف ، إلا محطة إستشراقية جديدة أفرزتها مرحلة جديدة لتطور الرأسمالية العالمية ، متغافلا إسهاماته الغنية و المتقدمة في زعزعة التصورات الأوروبية المفعمة بالنزعة المركزية الأوربية ، فتوجهات بيرك برمتها ، تصب في العمل على إحداث قطيعة إبستمولوجية مع العلم الإستعماري في منطلقاته و تصوراته و مفاهيمه و مناهجها ، و قد يعود لجاك بيرك الفضل الكبير ، أكثر من غيره ، في زعزعة المبادئ العامة التي يقوم عليها الفكر السوسيولوجي الغربي ، لكن رغم الآراء المتشددة و المتعصبة ، فهنالك أراء مغايرة و مواقف أخرى ، أكثر هدوءا و تريثا ، و إنصافا تجاه أعمال بيرك ، و هي تلك التي أبرزها كل من المفكر سالم حميش ، و المفكر محمد بوغالي و غيرهما ، فالأول من خلال كتابه ” الإستشراق في أفق إنسداد ” عمل على تناول التوجه البيريكي مبرزا أهميته و إسهاماته الغنية في مجال العلوم الإجتماعية و تطبيقها على العالم العربي ، كما ركز على مظاهر التجديد عنده ، معتبرا إياه مستشرقا من نوع أخر ، عرف كيف يتخلص من الإستشراق التقليدي بكل مشتقاته المثالية و التجريدية و ميولاته الملحاحة ، كما أبرز تلك المظاهر المجددة ، و المتجلية في تطبيقه المناهج الحديثة للعلوم الإنسانية على السلوكات العربية ، لا كمواضيع أو كائنات محددة أنطولوجيا ، ببعديها الديني و العقائدي ، و لكن بالنظر إليها كذوات مشخصة تمارس ككل الذوات الإنسانية الحية إرادتها و حقها في التقدم ، أما موقف محمد بوغالي يعتبر من المواقف الجديرة بالإهتمام تجاه أعمال بيرك ، لأنه لم يكن همه الخوض في نقاشات سجالية حول علاقة بيرك بالإستشراق، أو أي نوع من المستشرقين ، بل كان همه هو الوقوف عند أعماله و الإنصات إليه بهدوء من أجل فك رموز أسلوبه و نهجه و توجهاته ، فموقف بوغالي كان بالدرجة الأولى موقفا بيداغوجيا ، حيث عمل على كشف توجهات بيرك على المستوى المنهجي و الفكري ، معتبرا أن النهج البيريكي مهما تعددت مقارباته و مواضيعه ، لا يخلو من وحدة منهجية و فكرية تتجلى في بحثه المستمر عما هو أساسي ، أما على مستوى التوجه الفكري ، فقد أدرك محمد بوغالي ، أهمية توجهاته المخالفة لتوجهات بعض المفكرين الأجانب و العرب ، و التي لم تسعى إلى موضعة العرب في خضم النزاع الدائر بين الشرق و العرب ، بل عمل من خلال أعماله و توجهاته الفكرية ، على تعريف العرب كذوات فاعلة في التاريخ ، مستندا في ذلك على البعد الأنتروبولوجي للعروبة ، و متجاوزا بذاك إشكاليا الإستشراق الكلاسيكي ، معتبرا العرب شأنهم في ذلك شأن الشعوب الأخرى ، و بالرغم من إساءة التاريخ لهم ، فأنهم يتميزون بقدرتهم على الإستمرارية ، و الحضور و التجاوز ، و التفاعل كذلك مع الأخر دون خلط أو ذوبان . السؤال الثامن : جاءت لكم عبارة في الكتاب تقول ” لقد كان بيرك من خلال مواقفه المنهجية و الفكرية أقرب إلى ماكس فيبر من غيره ، بالرغم من بعض الإختلافات هنا و هناك ، إلى درجة يمكن القول أن بيرك يمكن إعتباره فيبر العرب ، و ليس هيجل العرب ” فكيف ذلك ؟ من خلال الموازنة بين توجهات فيبر و توجهات بيرك ، يمكن القول بأن هناك نقاط تقارب كبرى ، تتجلى في الإستقلالية الفكرية ، و في النفور من الأنساق الفكرية الجاهزة ، بمعنى أن ما يميز أعمالهما هو تلك التعدية في الواضيع ، و اللجوء إلى مختلف التخصصات ، دونما الإنجراف أو الإنسياق وراء تيار فكري ما ، فإذا أبدى فيبر تحفظات كبرى ، إن لم نقل نفور شديد من الأنساق الفكرية النهائية ، فكذلك ما أبداه بيرك ، للأنها أنساق مبنية على الإختزال و التصنيف و التعميم ، بمعنى أدق ، إن التصور الفيبري للعلم و مأخذه على الأنساق الفكرية ، يوازيان التصور البيريكي الذي ما فتئ يفند مرتكزات و منطلقات ما يسميه بالعلم الجاهز ، الذي يطمح إلى تطويق تاريخ الإنسانية في ماضيها و حاضرها و مستقبلها ، هذا على مستوى التماهي و التقارب ، أما في ما يخص نقط الإختلاف ، فتتجلى أساسا في تصورها للدين ، فليس الجوهر في الدين هو ما يهم حسب وجهة نظرهم ، بل السلوك ذو المعنى الذي يؤديه ، فسواء بيرك أو فيبر ، لم يقفا عند تساؤلات فلسفية أو ثيولوجية حول هذه الظاهرة ، بل إهتمامهما إنصب أساسا في السلوك الديني كنشاط إنساني و تأثيراته على الأنشطة الأخرى ، الأخلاقية و الإقتصادية و السياسية ، إذ أن دراستهما للنشاط الديني تمركز في كونه سلوك عقلاني أيضا ، فموقعهما يتحدد كفاحص للظاهرة الدينية لا بلباس الفيلسوف أو الثيولوجي ، بل كان بحثهما للظاهرة بلباس السوسيولوجي ، لكن هذا التقارب في معالجة الظاهرة الدينية سيتلاشى ، عندما يرفض جاك بيرك بسخرية فرضية فيبر حول العلاقة بين البروتستانية و الروح الرأسمالية كميزة تخص البروتستانين فقط ، بمعنى أن النهج البيركي يرفض أن تكون البروتستانتينة هي الحاملة لوحدها في تعاليمها ، لمجموعة من الحوافز التي تساعد على تكوين الروح الرأسمالية ، مع ما تقتضيه من مستلزمات لتطور النظام الرأسمالي ، فالإسلام حسب بيرك أيضا له تلك القوة الصامدة و القادرة في نفس الوقت على إعطاء نكهة جديدة للعالم عن طريق التكنولوجيا ، و بالرغم منها ، و عن طريق الرأسمالية ، و بالرغم منها . السؤال التاسع : ما السؤال الذي كان يتوقع الأستاذ الدكتور حسن المجاهيد أن أسأله إياه و لم أفعل ؟ إذ يمكنك طرحه و الإجابة عليه ؟ هو ذاك السؤال المتعلق بكينونة جاك بيرك و هويته ، و بما أنك تركت لي مساحة التساؤل و الجواب ، سأقول : على أنه فرنسي الأصل ، من مواليد فرندة بالجزائر سنة 1910 ، أمضى طفولته فيها ، لينتقل فيما بعد للجزائر العاصمة ، حيث كان الأب ” بيرك أوكستين ” مراقبا مدنيا في الإدارة الفرنسة ، بعد ذلك قرر الإتجاه صوب فرنسا من أجل تهيئ شهادة التبريز في السوربون ، في صيف سنة 1934 حل جاك بيرك بالمغرب ، و تقلد عدم مهام في مناطق مختلفة إلى حدود سنة 1947 ، حيث أتيح له خلال هذه المدة بإعتباره مراقبا مدنيا ، الإحتكاك المعرفي بالأرض و الناس و معايشته لواقعهم الصعب ، أظهر تمرده الدفين في تلك المرحلة على نمط الحياة الإستعمارية مما أغضب المسؤولين و بدا في عيون رؤسائه شابا يساريا أخرق ، تسببت سلوكاته و مواقفه من إعفائه من منصبه و تنحيته إلى محل عميق بالأطلس الكبير ، بعيد بستمائة كلم من العاصمة ، بمعنى أنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه ، حيث تم نقله لسكساوة ، و هناك سينجز أطروحته الشهيرة ” البنيات الإجتماعية في الأطلس الكبير ” في سنة 1953 سيغادر المغرب صوب مصر ، في الظرفية التي نقل فيها محمد الخامس لكورسيكا ، حيث سيملئ منصبا عرضته عليه اليونسكو ، و في بداية 1955 سيناقش أطروحته حول سكساوة التي خولت له شغر كرسي ” التاريخ الإجتماعي للإسلام المعاصر في الكوليج دو فرانس ” حيث سيمضي حوالي 25 سنة داخل فضاءاتها مخلصا دائما لديناميته الملتهبة و النشيطة ، فخلال تلك المدة سيحتك بمثقفين بارزين ، و سيعيش الأجواء الفكرية السائدة آنذاك ، دونما إنجراف أو إنزلاق ، و بعد مغادرته لكوليج فرنسا سنة 1981 ، إنكب بيرك على دراسة و ترجمة معاني القرآن ، خلال إستقراره بمقر عائلته في سان جوليان ، إلى أن وافته المنية في يونيو 1995 . السؤال الأخير : الكلام مفتوح لك سيدي الأستاذ ، يمكن أن تختم بشيء ما إن أردت و رغبت ؟ ما أود قوله في الأخير ، هو أن الكتاب في أصله ، ما هو إلا محاولة جادة و خالصة لتقديم الإعتراف ورد الدين ، لمفكر يأبى الإختزال و التصنيف في خانة محددة ، نظرا لتشعب مواضيع إهتمامه ، و لتنوع مجالات إشتغاله و تداخل الإختصاصات ، أعمال فكرية مهمة تمتاز بالأصالة و الجدية ، و بالنزاهة الفكرية و نجاعة المقاربة ، أعمال إنصبت في الأنتروبولوجيا و التاريخ ، دين كذلك و قانون … شخصية فذة قدمت للعرب و للعالم الإسلامي الشيء الكثير ، لكن للأسف لم تنل أعماله ما تستحقه من تقدير و إعجاب بالرغم من أهميتها نظريا و منهجيا ، و بالرغم من المجالات المعرفية المتعددة التي إخترقتها ، و بالرغم أيضا من حدة الإشكالات و القضايا التي أثارتها ، فقد ألف العديد من الكتب عن المجتمع العربي بإعتباره باحثا في علوم الإجتماع ، ترجم الشعر كذلك و أصدر ترجمة للمعلقات ، كما قام بترجمة القرآن الكريم و غيرها من الأعمال ، لم يكن الرجل إبستمولوجيا فقط ، بل رجل مبادئ أيضا ساند الحركة الوطنية المغربة ، و كان من المناهضين للمستعمر و سياسة الإستعمار ، معتبرا إياه ذاك الجرح العميق بين ثقافة الإنسان و طبيعته ، لذا فغاية الكتاب هي تغطية حيز من الخصاص الذي تعرفه المكتبة العربية حول هذه الشخصية و حول أعمالها ، في أفق تواتر أبحاث أخرى تولي إهتمامها لمفكر أقل ما يقال عنه أنه يضاهي شخصية كلود لفي ستراوس الفرنسي ، لكن للأسف ، الأخير إستفاد من الصخب الإعلامي و ثقافة الإعتراف ، في حين أن بيرك كان ضحية قدر و تاريخ .