الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار مع الباحث في السوسيولوجيا حسن المجاهيد: “جاك بيرك” عايش السلوكات العربية.
نشر في مراكش بريس يوم 04 - 12 - 2012


حاوره : يونس بنمورو
في حوار مع الباحث في السوسيولوجيا حسن المجاهيد: “جاك بيرك” عايش السلوكات العربية.
السؤال الأول : من هو بداية حسن المجاهيد ؟ و كيف تقدم نفسك للقارئ ؟
أستاذ علم الإجتماع بكلية الأداب و العلوم الإنسانية ، جامعة القاضي عياض بمراكش .
أستاذ زائر بجامعة بروتان الغربية ” بريست ” فرنسا 2002 – 2006 .
مجالات الإهتمام : التحولات السوسيوثقافية بالعالم العربي و حوض البحر الأبيض ، خبير لدى المؤسسات الوطنية و الدولية ، في إنجاز و تتبع و تقييم المشاريع التنموية .
السؤال الثاني : صدر لكم مؤخرا عن دار النشر أفاق ، كتاب تحت إسم ” سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك ” السؤال الذي يتبادر لذهن القارئ منذ الوهلة الأولى هو : لماذا جاك بيرك بالضبط ؟ و على أي أساس أخذ مركز إهتمامكم و بحثكم ؟
يعتبر جاك بيرك من بين المفكرين البارزين في مجال العلوم الإجتماعية ، و لعل أساس التفكير في الإهتمام بأعماله راجع إلى أهمية هذا الإنتاج نظريا و منهجا . تجاوزت أعماله المئات من الكتب و المقالات و الحوارات : بدءا بالمونوغرافيات ، مرورا بالعمل الإثنولوجي المتميز حول سكساوة بالأطلس الكبير ، و صولا إلى ترجمة القرآن الكريم و الأحاديث النبوية ، و خلال ما يزيد على خمسين سنة عايش السلوكات العربية ، و إحتك بها ، و تفاعل معها من أجل فهمها في ماضيها و حاضرها و كيفية توجهها نحو المستقبل . فجاك بيرك ما فتئ خلال مشروعه الفكري برمته ، يبلور إشكاليات و مقاربات و مفاهيم بعيدا عن الطرق المعبدة و عن حدود التخصصات و تقسيم الأجناس ، مازجا بين النظري و العملي في سعيه للإلمام بالواقع العربي في غناه و تعدديته ، وفي أبعاده المحلية و الكونية ، و مهما تعددت و تنوعت موضوعات هذه الإشكاليات يبقى مركزها الإنسان العربي في تعابيره ، في نجاحاته و إخفاقاته ، في عنفه و ليونته ، في إقدامه و تردده ، و في سعيه إلى إثبات وجوده مع الأخر و بالرغم منه ، و تزداد أهمية محاورة هذا المفكر ، في سياق ما يعرفه العالم العربي اليوم من غليان إجتماعي ، كتعبير عن أزمة هوياتية عميقة بالعودة إلى التفكير الأصيل و الهادئ ، بعيدا عن الصخب الإعلامي و هلوسات المقاربات الإنفعالية للحدث الساخن .
السؤال الثالث : ما الذي يميزه إذن في نظركم عن غيره من المستشرقين و الباحثين في العلوم الإجتماعية ؟ أين يتجلى مركز ثقله و قوته ؟ و أي المناهج تخللت أعماله ؟ بمعنى ما هي حسب زاوية نظركم أهم مقومات المنهج لديه و التي أكسته صفات التميز و التفرد ؟
إن ما يمز جاك بيرك عن غيره من الباحثين في مجال العلوم الإجتماعية ، و ما يجعله جديرا أيضا بالإهتمام ، هو عدم إنصياعه و خضوعه لأمهات النظريات المهيمنة ، و جرأته و قدرته على مساءلتها و تجاوزها ، إذ كان مسلحا في ذلك بتجربته الغنية و بإعتماده الواقع كمحك أول و أخير ، إن هذا النهج الذي سلكه و الذي يتخلل كل أعماله برمتها ، جعله في منأى عن المنزلقات التي ألت إليها التصورات الإختزالية و التوجهات المغرضة ، فما يتوجب علينا الإشارة إليه كذلك ، هو أنه لا يجب بأي حال من الأحوال محاولة تصنيفه في إتجاه نظري معين ، أو القيام بإسقاطات إيديولوجية ، أو حصره في خانة معرفية معينة ، لأن هذا سيحرم القارئ من إدراك هذا النهج في عمقه و أصالته و أبعاده المختلفة ، فالمنهج لديه لا يمكن حصره في إطار نظري معين ، أو إخضاعه لمفاهيم جاهزة و مسطرة مسبقا ، كما أنه ليس مجموعة من المقاربات و التقنيات الجافة الصالحة لكل زمان و مكان ، بل يتجاوز ذلك ليصبح عملية مجابهة بين الباحث و موضوع بحثه ، و تفاعل مستمر و حوار فعال ، مما يجعله لينا يتكيف و يتغير بتغير الواقع ، فالمقاربة البيريكية تنطلق مما هو واقعي ، من الحدث ، من المعيش ، من الإشارات التي تزخر بها الحياة من أجل إعادة تكثيف الوقائع ، إن الحياة بكل رموزها هي المجال الذي يستمد منه فرضيته ، و قد كان حريصا على عدم تشويه الواقع أو ممارسة أي عنف عليه . إذا كانت المقاربة البيريكية تنطلق من الواقع ، فهذا لا يعني أنها تبقى سجينتا لها ، إنه يعتبر الظواهر الإجتماعية كأشياء لكن كأشياء مليئة بالأفكار و الرموز ، مما يجعله ينتقل من المادي الملموس إلى ما هو تصوري نظري .
السؤال الرابع : من المعروف أن أغلب السوسيولوجين الوطنيين وجدوا أنفسهم بعد الإستعمار أمام إرث إبستمولوجي يتراوح بين النجاعة العلمية تارة و بين الترف الفكري و الإعتباط تارة أخرى ، فكيف تموقع جاك بيرك إذن من الإستعمار في بادئ الأمر ؟ و ما المسافة الفاصلة التي وضعها بينه و بين الزخم المعرفي الكولونيالي ؟
لم يعايش بيرك هذه المرحلة كمفكر ملاحظ فحسب ، بل عايشها كمشارك و فاعل و معني بتطورات الأحداث ، لقد أدرك منذ البداية أن الإستعمار مآله الزوال ، لأنه جسم غريب جاثم على أرض و على ثقافات و حضارات لم يدرك عمقها التاريخي و الأنتروبولوجي ، و لعل ما يميزه عن غيره في هذا المجال أنه لم يقف عند تلك المظاهر الكمية التي ركزت عليها جل التحليلات ، بل أدرك بعمق مخلفات ذلك الجرح العميق ، الذي احدثه الإستعمار بين ثقافة الإنسان و طبيعته ، لقد أدرك أكثر من غيره أن أهم ظاهرة عرفها العالم المعاصر هو تفكك الإستعمار ، و بروز هويات ، و إنبثاق شعوب على سطح التاريخ ، إن هذا الحدث ، ما فتئ بيرك يركز على أنه لا يستوجب ، إعادة النظر في الفرضية الغربية حول الإنسان و التاريخ فقط ، و لكن أيضا يستوجب إعادة النظر في منطلقات العلوم الإجتماعية و مختلف المفاهيم ، التي تركز عليها ، لأنها قاصرة عن إدراك الحقيقة التاريخية التي تطفو على السطح من جديد ، لم ينح جاك بيرك منحى الإثنولوجيا السائدة آنذاك ، بل عمل جادا على إنتقادها و على تفنيد منطلقاتها و تصوراتها ، لقد تخلص بسرعة من كل البراديكمات التي إختزلت الواقع المغاربي خاصة ، و الواقع العربي عامة ، في ثنائيات متآكلة عميقة و جامدة ، إذ تموقع منذ البداية في إطار الفرضية التاريخية ، بدل الفرضيات العضوية ، أو الفرضية الإنقسامية ، من أجل دراسة النسق الإجتماعي المغاربي ، ما جعله في مأمن من تلك التوجهات المغرضة و الإختزالية ، وهكذا أمد السوسيولوجيا المغاربية بأنفاس جديدة ، ما جعله يصبح رائد التحول الجذري للفكر السوسيولوجي المغاربي .
السؤال الخامس : غالبا ما زج الإستشراق الكلاسيكي بالإسلام في متاهات غيبية و روحانية ، أو جردته من عامل الزمن ، فإلى أي حد يمكن القول أن خصائص الإستشراق الكلاسيكي تنطبق على جاك بيرك ؟ كيف عالج الإسلام ؟ و ما نظرته السوسيوثقافية له ؟ و هل لأعماله نوع من الفرادة و التميز في مقاربته للإسلام مقارنة مع متن الإستشراق الكلاسيكي ؟ و كيف كان تعامله مع موضوع جد شائك و مثير للجدل و شديد الحساسية ؟
لقد أدرك بيرك بعمق أهمية الإسلام القصوى كأحد الركائز التي لا يمكن بدونه فهم السلوكات العربية ، سواء تعلق الأمر بالماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد عاكس كل التوجهات و التصورات التي زجت الإسلام في متاهات و تجريدات لم ينتج عنها إلا نقاشات و سجالات عميقة ، سواء تعلق الأمر بما روجه جل المستشرقين أو بعض فقهاء الإسلام ، بمعنى لقد تناول الموضوع كأحد المتخصصين في مجال العلوم الإجتماعية ، و ليس كتيولوجي ، مما جعله يبتعد عن المواقف الدغمائية و المتحجرة ، لقد إهتم أساسا بالتاريخ الإجتماعي للإسلام في العالم المعاصر ، مبرزا مختلف الأدوار و الوظائف التي قام بها في تفاعلاته المختلفة مع الأخر ، و كيف أنه قادر على الأخذ و العطاء و التعامل و التفاعل مع كل المستجدات ، فالإسلام الذي ما فتئ بيرك يحاوره ، ليس إسلام الفقهاء المتزمتين و المتشددين ، و الإسلام التطابقي كتصور تبريري ، و الإسلام الميتافيزيقي ، و لكنه الإسلام كشمولية : الإسلام دين و دنيا في سعيه إلى التوجه نحو المستقبل مع الأخر و بالرغم منه ، بتعبير أخر ، لقد عمل جاك بيرك على فك العزلة عن الإسلام منهجيا و فكريا ، في الزمان و المكان ، ليصبح الإسلام إشكاليا قادرا على رسم و تحيين إشكالات العالم العربي و الإسلامي بدون خلط أو ذوبان ، فبهكذا عمل جادا ، خلافا لما ألت إليه التصورات العميقة و التوجهات المغرضة ، على إبراز أهمية الإسلام ، و قوة حضوره و قدرته على التكييف و التفاعل و التجاوز و تحدي الإيديولوجيات المتلاشية و المهيمنة ، مبرزا حقه في التنازع حول عالم المستقبل الذي ليس ملكا لأي كان .
السؤال السادس : الحديث عن الإسلام هو حديث عن الثقافة العربية بالدرجة الأولى ، بمعنى أن حضوره كنسق يشمل كل مناحي الحياة ، إذ لا يتجزأ لا من الثقافة العربية ، و لا من السلوك العربي ، فكيف حسب وجهة نظركم إذن ، قارب جاك بيرك الثقافة العربية ؟ و كيف كانت زاوية نظره للجدال و النزاع بين دعاة الأصالة و أيضا المعاصرة ؟ و ما هو منظوره الخاص للعرب و العروبة ؟
إن الثقافة العربية من منظوره ، تتحدد بالتاريخ ، من خلال ثوابت و متغيرات ، و من خلال تفاعلاتها المختلفة ، و تعبر عن هموم و مشاغل العرب في توجهاتهم نحو المستقبل ، بمعنى أن تناوله لموضوع الثقافة العربية الإسلامية تميزه ، و كما هو الشأن بالنسبة لمختلف المواضيع التي تناولها ، بواقعيته السوسيولوجية ، و بليونة مقارباته ، فهو خلافا لعدد من التصورات التي ، إما أنها زجت بها في أحضان الثقافة الغربية ، أما هو فقد عمل أساسا على الإنصات للتعابير المختلفة لهذه الثقافة كما تتصور نفسها و كما تريد أن تكون ، إن مسألة الهوية و الأصالة و الخصوصية و العالمية ، كمحددات للثقافة العربية الإسلامية ، تطرح بحدة ، ليس فقط بالنسبة للعرب ، بل بالنسبة للإنسانية جمعاء ، لم يتعامل بيرك مع هذه المفاهيم كمعطيات ثابتة من أجل تحليل السلوكات الثقافية للعرب ، بل عمل على إنعاشها ، وعلى نقدها ، و على إختبار مصداقيتها من أجل مد الجسور بين الشعوب و مختلف الثقافات ، لأنه كان يهدف من جهة ، إلى زعزعة الفكر الإثنومركزي ، أو كما يسميه هو ” الشبجزيري ” ل ” الناضج الغربي ” و من جهة ثانية ، كان يهدف إلى حث العرب على المزيد من الإجتهاد مع الآخرين و بالرغم منهم ، بالتكنولوجيا و بالرغم منها ، بالتراث و بالرغم منه ، و بالتالي فإن البحث عن الهوية والأصالة لا يمكنه إلا أن يكون مشروعا مسقبليا ، مهما كلف ذلك من ثمن و تفاؤل ، لأن التفاؤل في التاريخ ، و كما يؤكد ذلك ، ليس هو الإيمان بالسعادة ، بل الإيمان بالمشاكل ، و خلافا ، للتصورات الإختزالية و السجالية ، فإن بيرك ما فتئ يؤكد أن العرب بالرغم من أن التاريخ أساء إليهم ، فإنهم يتموضعون اليوم أكثر من أي وقت مضى ، في قلب إشكالية التاريخ المعاصر ، و يتوفرون على المؤهلات اللازمة ليساهموا كفاعلين في بناء عالم مستقبلي ، الذي لا يمتلكه أي أحد ، و لعل ما يميز سلوكهم الثقافي ، الإقتصادي و السياسي ، من إضطراب و تناقض و تذبذب و تطرف أحيانا ، ما هو إلا مؤشر صحي على وعيهم بتاريخهم الحافل ، و وعيهم بمقتضيات المستقبل ، لأنهم لا يرغبون في الذوبان في خليط ما .
السؤال السابع : لا يخرج أي مفكر من شرنقة الإبداع إلا و هو محمل بخطابات شتى ، تفوح منها رائحة التقدير و الإعتراف أحيانا و أحيانا أخرى ، تفوح منها رائحة النقد الهدام عوض البناء ، فحسب هذا المنطق ، ما هي أهم المؤاخذات و التقديرات الموجهة لجاك بيرك ؟
بداية يجب الإشارة أن أعمالا من حجم ما أنجزه جاك بيرك ، لا يكمن إلا أن تكون محط نقد و إختلاف ، ففيما يتعلق بالمؤاخذات ، نجد أن عبد الكبير الخطيبي يمثل الموقف المتشدد تجاه بيرك و الأشد تنكرا لأعماله و نهجه ، بجانب محمد وقيدي ، لكن هذا الأخير أقل تعصبا و تشددا ، فالأول ، إنطلق من مؤاخذات عامة حول الإستشراق مركزا على أعمال جاك بيرك ، متناسيا أن يقوم بالتمييز بين الإستشراق عامة ، وبين مواقف بيرك المتقدمة التي عملت على إقبار دعائم الإستشراق المغرضة و الموجهة ، زيادة على إعتباره ، بأن بيرك يحس بنوع من الأبوية إتجاه العرب ، و هذه المؤاخذة ليست سوى إحساس يصعب تبريره ، أما وقيدي ، فقد كان يعترف لبيرك بمواقفه المتقدمة على المستوى المنهجي و الفكري ، إلا أنه لم يوف الرجل حقه ، لأنه يرى هو أيضا في أعمال بيرك و توجهاتها المختلفة ، في نهاية المطاف ، إلا محطة إستشراقية جديدة أفرزتها مرحلة جديدة لتطور الرأسمالية العالمية ، متغافلا إسهاماته الغنية و المتقدمة في زعزعة التصورات الأوروبية المفعمة بالنزعة المركزية الأوربية ، فتوجهات بيرك برمتها ، تصب في العمل على إحداث قطيعة إبستمولوجية مع العلم الإستعماري في منطلقاته و تصوراته و مفاهيمه و مناهجها ، و قد يعود لجاك بيرك الفضل الكبير ، أكثر من غيره ، في زعزعة المبادئ العامة التي يقوم عليها الفكر السوسيولوجي الغربي ، لكن رغم الآراء المتشددة و المتعصبة ، فهنالك أراء مغايرة و مواقف أخرى ، أكثر هدوءا و تريثا ، و إنصافا تجاه أعمال بيرك ، و هي تلك التي أبرزها كل من المفكر سالم حميش ، و المفكر محمد بوغالي و غيرهما ، فالأول من خلال كتابه ” الإستشراق في أفق إنسداد ” عمل على تناول التوجه البيريكي مبرزا أهميته و إسهاماته الغنية في مجال العلوم الإجتماعية و تطبيقها على العالم العربي ، كما ركز على مظاهر التجديد عنده ، معتبرا إياه مستشرقا من نوع أخر ، عرف كيف يتخلص من الإستشراق التقليدي بكل مشتقاته المثالية و التجريدية و ميولاته الملحاحة ، كما أبرز تلك المظاهر المجددة ، و المتجلية في تطبيقه المناهج الحديثة للعلوم الإنسانية على السلوكات العربية ، لا كمواضيع أو كائنات محددة أنطولوجيا ، ببعديها الديني و العقائدي ، و لكن بالنظر إليها كذوات مشخصة تمارس ككل الذوات الإنسانية الحية إرادتها و حقها في التقدم ، أما موقف محمد بوغالي يعتبر من المواقف الجديرة بالإهتمام تجاه أعمال بيرك ، لأنه لم يكن همه الخوض في نقاشات سجالية حول علاقة بيرك بالإستشراق، أو أي نوع من المستشرقين ، بل كان همه هو الوقوف عند أعماله و الإنصات إليه بهدوء من أجل فك رموز أسلوبه و نهجه و توجهاته ، فموقف بوغالي كان بالدرجة الأولى موقفا بيداغوجيا ، حيث عمل على كشف توجهات بيرك على المستوى المنهجي و الفكري ، معتبرا أن النهج البيريكي مهما تعددت مقارباته و مواضيعه ، لا يخلو من وحدة منهجية و فكرية تتجلى في بحثه المستمر عما هو أساسي ، أما على مستوى التوجه الفكري ، فقد أدرك محمد بوغالي ، أهمية توجهاته المخالفة لتوجهات بعض المفكرين الأجانب و العرب ، و التي لم تسعى إلى موضعة العرب في خضم النزاع الدائر بين الشرق و العرب ، بل عمل من خلال أعماله و توجهاته الفكرية ، على تعريف العرب كذوات فاعلة في التاريخ ، مستندا في ذلك على البعد الأنتروبولوجي للعروبة ، و متجاوزا بذاك إشكاليا الإستشراق الكلاسيكي ، معتبرا العرب شأنهم في ذلك شأن الشعوب الأخرى ، و بالرغم من إساءة التاريخ لهم ، فأنهم يتميزون بقدرتهم على الإستمرارية ، و الحضور و التجاوز ، و التفاعل كذلك مع الأخر دون خلط أو ذوبان .
السؤال الثامن : جاءت لكم عبارة في الكتاب تقول ” لقد كان بيرك من خلال مواقفه المنهجية و الفكرية أقرب إلى ماكس فيبر من غيره ، بالرغم من بعض الإختلافات هنا و هناك ، إلى درجة يمكن القول أن بيرك يمكن إعتباره فيبر العرب ، و ليس هيجل العرب ” فكيف ذلك ؟
من خلال الموازنة بين توجهات فيبر و توجهات بيرك ، يمكن القول بأن هناك نقاط تقارب كبرى ، تتجلى في الإستقلالية الفكرية ، و في النفور من الأنساق الفكرية الجاهزة ، بمعنى أن ما يميز أعمالهما هو تلك التعدية في الواضيع ، و اللجوء إلى مختلف التخصصات ، دونما الإنجراف أو الإنسياق وراء تيار فكري ما ، فإذا أبدى فيبر تحفظات كبرى ، إن لم نقل نفور شديد من الأنساق الفكرية النهائية ، فكذلك ما أبداه بيرك ، للأنها أنساق مبنية على الإختزال و التصنيف و التعميم ، بمعنى أدق ، إن التصور الفيبري للعلم و مأخذه على الأنساق الفكرية ، يوازيان التصور البيريكي الذي ما فتئ يفند مرتكزات و منطلقات ما يسميه بالعلم الجاهز ، الذي يطمح إلى تطويق تاريخ الإنسانية في ماضيها و حاضرها و مستقبلها ، هذا على مستوى التماهي و التقارب ، أما في ما يخص نقط الإختلاف ، فتتجلى أساسا في تصورها للدين ، فليس الجوهر في الدين هو ما يهم حسب وجهة نظرهم ، بل السلوك ذو المعنى الذي يؤديه ، فسواء بيرك أو فيبر ، لم يقفا عند تساؤلات فلسفية أو ثيولوجية حول هذه الظاهرة ، بل إهتمامهما إنصب أساسا في السلوك الديني كنشاط إنساني و تأثيراته على الأنشطة الأخرى ، الأخلاقية و الإقتصادية و السياسية ، إذ أن دراستهما للنشاط الديني تمركز في كونه سلوك عقلاني أيضا ، فموقعهما يتحدد كفاحص للظاهرة الدينية لا بلباس الفيلسوف أو الثيولوجي ، بل كان بحثهما للظاهرة بلباس السوسيولوجي ، لكن هذا التقارب في معالجة الظاهرة الدينية سيتلاشى ، عندما يرفض جاك بيرك بسخرية فرضية فيبر حول العلاقة بين البروتستانية و الروح الرأسمالية كميزة تخص البروتستانين فقط ، بمعنى أن النهج البيركي يرفض أن تكون البروتستانتينة هي الحاملة لوحدها في تعاليمها ، لمجموعة من الحوافز التي تساعد على تكوين الروح الرأسمالية ، مع ما تقتضيه من مستلزمات لتطور النظام الرأسمالي ، فالإسلام حسب بيرك أيضا له تلك القوة الصامدة و القادرة في نفس الوقت على إعطاء نكهة جديدة للعالم عن طريق التكنولوجيا ، و بالرغم منها ، و عن طريق الرأسمالية ، و بالرغم منها .
السؤال التاسع : ما السؤال الذي كان يتوقع الأستاذ الدكتور حسن المجاهيد أن أسأله إياه و لم أفعل ؟ إذ يمكنك طرحه و الإجابة عليه ؟
هو ذاك السؤال المتعلق بكينونة جاك بيرك و هويته ، و بما أنك تركت لي مساحة التساؤل و الجواب ، سأقول : على أنه فرنسي الأصل ، من مواليد فرندة بالجزائر سنة 1910 ، أمضى طفولته فيها ، لينتقل فيما بعد للجزائر العاصمة ، حيث كان الأب ” بيرك أوكستين ” مراقبا مدنيا في الإدارة الفرنسة ، بعد ذلك قرر الإتجاه صوب فرنسا من أجل تهيئ شهادة التبريز في السوربون ، في صيف سنة 1934 حل جاك بيرك بالمغرب ، و تقلد عدم مهام في مناطق مختلفة إلى حدود سنة 1947 ، حيث أتيح له خلال هذه المدة بإعتباره مراقبا مدنيا ، الإحتكاك المعرفي بالأرض و الناس و معايشته لواقعهم الصعب ، أظهر تمرده الدفين في تلك المرحلة على نمط الحياة الإستعمارية مما أغضب المسؤولين و بدا في عيون رؤسائه شابا يساريا أخرق ، تسببت سلوكاته و مواقفه من إعفائه من منصبه و تنحيته إلى محل عميق بالأطلس الكبير ، بعيد بستمائة كلم من العاصمة ، بمعنى أنه أصبح شخصا غير مرغوب فيه ، حيث تم نقله لسكساوة ، و هناك سينجز أطروحته الشهيرة ” البنيات الإجتماعية في الأطلس الكبير ” في سنة 1953 سيغادر المغرب صوب مصر ، في الظرفية التي نقل فيها محمد الخامس لكورسيكا ، حيث سيملئ منصبا عرضته عليه اليونسكو ، و في بداية 1955 سيناقش أطروحته حول سكساوة التي خولت له شغر كرسي ” التاريخ الإجتماعي للإسلام المعاصر في الكوليج دو فرانس ” حيث سيمضي حوالي 25 سنة داخل فضاءاتها مخلصا دائما لديناميته الملتهبة و النشيطة ، فخلال تلك المدة سيحتك بمثقفين بارزين ، و سيعيش الأجواء الفكرية السائدة آنذاك ، دونما إنجراف أو إنزلاق ، و بعد مغادرته لكوليج فرنسا سنة 1981 ، إنكب بيرك على دراسة و ترجمة معاني القرآن ، خلال إستقراره بمقر عائلته في سان جوليان ، إلى أن وافته المنية في يونيو 1995 .
السؤال الأخير : الكلام مفتوح لك سيدي الأستاذ ، يمكن أن تختم بشيء ما إن أردت و رغبت ؟
ما أود قوله في الأخير ، هو أن الكتاب في أصله ، ما هو إلا محاولة جادة و خالصة لتقديم الإعتراف ورد الدين ، لمفكر يأبى الإختزال و التصنيف في خانة محددة ، نظرا لتشعب مواضيع إهتمامه ، و لتنوع مجالات إشتغاله و تداخل الإختصاصات ، أعمال فكرية مهمة تمتاز بالأصالة و الجدية ، و بالنزاهة الفكرية و نجاعة المقاربة ، أعمال إنصبت في الأنتروبولوجيا و التاريخ ، دين كذلك و قانون … شخصية فذة قدمت للعرب و للعالم الإسلامي الشيء الكثير ، لكن للأسف لم تنل أعماله ما تستحقه من تقدير و إعجاب بالرغم من أهميتها نظريا و منهجيا ، و بالرغم من المجالات المعرفية المتعددة التي إخترقتها ، و بالرغم أيضا من حدة الإشكالات و القضايا التي أثارتها ، فقد ألف العديد من الكتب عن المجتمع العربي بإعتباره باحثا في علوم الإجتماع ، ترجم الشعر كذلك و أصدر ترجمة للمعلقات ، كما قام بترجمة القرآن الكريم و غيرها من الأعمال ، لم يكن الرجل إبستمولوجيا فقط ، بل رجل مبادئ أيضا ساند الحركة الوطنية المغربة ، و كان من المناهضين للمستعمر و سياسة الإستعمار ، معتبرا إياه ذاك الجرح العميق بين ثقافة الإنسان و طبيعته ، لذا فغاية الكتاب هي تغطية حيز من الخصاص الذي تعرفه المكتبة العربية حول هذه الشخصية و حول أعمالها ، في أفق تواتر أبحاث أخرى تولي إهتمامها لمفكر أقل ما يقال عنه أنه يضاهي شخصية كلود لفي ستراوس الفرنسي ، لكن للأسف ، الأخير إستفاد من الصخب الإعلامي و ثقافة الإعتراف ، في حين أن بيرك كان ضحية قدر و تاريخ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.