بين العقل والتاريخ يعد هشام جعيط من أبرز المثقفين والباحثين التونسيين العرب المشغولين باشكاليات الفكر العربي . أنه ينتمي الى جيل ثقافي عربي متنوّر ومنفتح نضج مبكراً وتميّز بافاقه المعرفية وتنوّع قراءاءاته وثقافته وتوجهاته الفكرية وانغماسه بالهموم القومية والقضايا الوطنية والشعبية، ومواجهة الغزو الثقافي وخلق ثقافة عقلانية متنوّرة مستوعبة حضارياً مفردات ثقافات انسانية أخرى. ولج هشام جعيط عالم البحث والكتابة التاريخية متسلحاً بما يملكه من فكر ووعي وثقافة ومنهجية نقد، خاتماً بالكثير من الأسئلة والتساؤلات التي تفتح على مزيد من النقاش والجدل الفكري والثقافي والسياسي ، ومنذ سبعينيات القرن المنصرم وهو يسعى الى بعث وتجديد البحث العلمي العربي وتطوير الحوار بين العقل والتاريخ، وبين النقد التاريخي والنصوص المتناقضة ، موضحاً أن العالم العربي الاسلامي بحاجة ماسة الى حداثة العقل والعلم والتقدم والثورة وقيم التنوير والحرية والديمقراطية ، ودفع الحراك الاجتماعي وتسريع دينامية التقدم والتطور العلمي. وضع هشام جعيط كتبه وأبحاثه بالفرنسية التي ترجمت فيما بعد، وله الكثير من البحوث الأصيلة الواسعة العميقة التي يتجه فيها نحو اتجاهين ، الأول اتجاه فكري وفلسفي يعالج فيه القضايا الكبرى المطروحة على الضمير العربي في السياسة والمجتمع والدين، كما في كتابه" الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي"، والثاني : اتجاه نحى فيه منحى المؤرخ الصارم للأسلام المبكر. وفي كتابه "أوروبا والاسلام" يركز هشام جعيط على الغنى الشاسع للثقافة الاسلامية ويوجه نقداً لاذعاً للذين يتحدثون عن وحدة جامدة في الاسلام مبيّناً أن العروبة ليست مفهوماً عرقياً ولو أنها كانت كذلك في البداية ، وأنها البؤرة الثقافية التي أتت لتصب فيها كل العبقريات الانسانية المتنوعة، في حين أن الاسلام كما يقول يبقى ديناً قبل كل شيء وهذا صحيح ، لكنه يؤثر في أعماق حياة الناس ، كما في التعبيرات الأكثر سمواً. ويضيف قائلاً " أن ابن سينا وأبن رشد ليسا،اذاً، أتباع الحضارة الاسلامية فقط، بل نتاج الاسلام ككل من حيث تكوينيهما واخلاصهما لجماعة انسانية وتاريخية، ومن الخطأ القول أن أشخاصاً ليسوا مسلمين قد أسسوا الفلسفة". أما كتابه "الفتنة الكبرى" فهو من أهم المراجع التاريخية الانتقادية لمرحلة الاسلام المبكر، المنتهي بالفتنة وبالانقلاب الأموي. ويرى جعيط أن خطورة الفتنة أنها" أدخلت الدين في عالم الصراع السياسي" ، بينما في كتابه" الكوفة" يستعيد تاريخ الفتح العربي ومعاركه ، ويتطرق الى تخطيطات المدينة ونظرة الاستشراق الى المدينة الاسلامية، وصولاً الى "مصير الكوفة وهويتها". خلاصة القول، هشام جعيط مفكر ومؤرخ وعالم يجمع بين الرصانة العلمية والحماس للقضايا الفكرية، وبحسه العربي والاسلامي العميق وتكوينه التاريخي الصميمي مؤهل للكتابة في ميادين الدين والسياسة، بعيداً عن التقليدية كما عن أي فكر تحديثي تبسيطي ، ولا شك أن أعماله ومؤلفاته البحثية تثري المكتبة العربية التاريخية التي ما زالت هزيلة، وتندرج في مسار جعيط الطويل الدائب بحثاً عن الهوية وتفتق الوجدان .