الجزء الأول يقف العالم مشدوهاً أمام ما يطلق عليه “الأزمة المالية” العالمية، فأكبر اقتصاد في العالم ( الولاياتالمتحدةالأمريكية ) مهدد بالانزلاق إلى هاوية الكساد والإفلاس، ومن من؟ من أكبر وأعرق المؤسسات المالية الدولية في أمريكا وأوروبا، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا هي “أزمة مالية” أكثر منها “أزمة اقتصادية”؟ فهي أزمة في القطاع المالي ولكنها تهدد بإغراق الاقتصاد بأكمله. فكيف ولماذا؟ كل هذه أسئلة تقلق القارئ العادي الذي يريد أن يفهم. وقد طلب مني الكثيرون أن أحاول أن أقدم تفسيراً مبسطاً يساعد القارئ غير المتخصص علي فهم ما يجري أمامه من أحداث تبدو غير واضحة. ونظراً لأنني أعتقد أن أهم أسباب عدم الفهم ترجع عادة إلي غموض “البدهيات” والمبادئ الأولية لعلم الاقتصاد، فلذلك فلا أجد غضاضة في أن أبدأ بشرح هذه المبادئ الأولية. تتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه “الاقتصاد العيني أو الحقيقي” وبين “الاقتصاد المالي”. فأما الاقتصاد العيني “وهو ما يتعلق بالأصول العينية Real Assets فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق غير مباشر (السلع الاستثمارية). “فالأصول العينية” هي الأراضي وهي المصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء، وهي أيضاً القوي البشرية. وبعبارة أخري هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات صحية. ولكنها أيضاً تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع (الاستثمارية) من مصانع وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. إلخ. وهكذا فالاقتصاد العيني أو الأصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها. وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل لابد أن يزود بأدوات مالية تسهل عمليات التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخري. ومن هنا ظهرت الحاجة إلي “أدوات” أو “وسائل” تسهل التعامل في الثروة العينية. لعل أولي صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة “الحقوق” علي الثروة العينية. فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن وأحياناً الملبس. ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض علي رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً اسمه “حق الملكية” علي هذه الأرض. فهذا “الحق القانوني” يعني أن يعترف الجميع بأنك (المالك) الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الأرض والتصرف فيها. وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه “الأصول المالية” Financial assets، باعتبارها حقاً علي الثروة العينية. وأصبح التعامل يتم علي “الأصول المالية” باعتبارها ممثلاً للأصول العينية. فالبائع ينقل إلي المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية. وأصبح التعامل الذي يتم علي هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كافيا لكي تنتقل ملكية الأصول العينية (الأرض) من مالك قديم إلي مالك جديد. ولم يتوقف الأمر علي ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن التبادل عن طريق “المقايضة” ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخري أمر معقد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة “النقود” التي هي أصل مالي، بمعني أنها بمثابة “حق” ليس علي أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق علي الاقتصاد العيني كله. فمن يملك نقوداً يستطع أن يبادلها بأي سلعة معروضة في الاقتصاد. أي أن “النقود” أصبحت أصلا ماليا يعطي صاحبه الحق في الحصول علي ما يشاء من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد. والنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك. ولكن النقود باعتبارها حقاً علي الاقتصاد العيني تسمح بإشباع الحاجات الحقيقية بمبادلتها مع الأصول العينية (السلع)، أي أن “النقود” هي أصل مالي أو حق علي الأصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن وجودها والتعامل بها يساعد علي سهولة التبادل والمعاملات في السلع العينية. ولم يتوقف تطور “الأصول المالية” علي ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية علي موارد عينية محددة أو علي الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت البشرية أيضاً أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم يعد مقصوراً علي عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول Negotiability ترفع القيمة الاقتصادية للموارد. ومن هنا ظهرت أهمية أن تكون هذه الأصول قابلة للتداول. وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق الملكية علي بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل دائنية علي مدين معين (فرد أو شركة). وقد تطورت أشكال الأصول المالية الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية والسندات. وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات مما زاد من حجم الأصول المالية المتداولة والتي تمثل الثروة العينية للاقتصاد. وساعد وجود هذه الأصول المالية المتنوعة علي انتشار وتوسع الشركات وتداول ملكيتها وقدرتها علي الاستدامة. ولكن الأمر لم يقتصر علي ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد علي انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها وحيث تتمتع بثقة الجمهور مما أدي إلي زيادة تداول هذه الأسهم والسندات بين الجمهور. فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الأصول المالية مما أعطي المتعاملين درجة من “الثقة” في سلامة هذه الأصول المالية، ومن ناحية أخري فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد فإنها تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور محل مديونية عملائها. فالعميل يتقدم للبنك للحصول علي تسهيل أو قرض، ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلي ملاءة هذا العميل والثقة فيه، ولكن ما إن يحصل العميل علي تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما لو كان نقوداً لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد. وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلي مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك. وهكذا لعب القطاع المصرفي – والقطاع المالي بصفة عامة – دوراً هائلاً في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها. ومن هنا بدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني. فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني وأصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني.. ومن هنا تظهر حقيقة الأزمة المعاصرة باعتبارها أزمة “مالية” بالدرجة الأولي نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية علي نحو مستقل إلي حد كبير عما يحدث في “الاقتصاد العيني”، كيف؟ يرجع ذلك إلي المؤسسات المالية التي أسرفت في إصدار الأصول المالية بأكثر من حاجة الاقتصاد العيني، ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الأصول المالية، زاد عدد المدينين، وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن السداد، وهناك ثلاثة عناصر متكاملة يمكن الإشارة إليها وتفسر هذا التوسع المجنون في إصدار الأصول المالية. أما العنصر الأول فهو زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم الرافعة المالية Leverage، فما هو المقصود بذلك؟ أشرنا إلي أن هناك نوعين من الأصول المالية، أصول تمثل الملكية وأصول تمثل مديونية، أما الأصول التي تمثل الملكية فهي أساساً ملكية الموارد العينية من أراض ومصانع وشركات، وهي تأخذ عادة شكل أسهم، وبالنسبة لهذا الشكل من الأصول المالية فهناك عادة حدود لما يمكن إصداره من أصول للملكية، حقاً أنه يمكن المبالغة بإصدار أسهم بقيم مالية مبالغ فيها عن القيمة الحقيقية للأصول التي تمثلها، ولكن يظل الأمر محدوداً، لأنه يرتبط بوجود هذه الأصول العينية، أما بالنسبة للشكل الآخر للأصول المالية وهو المديونية، فيكاد لا توجد حدود علي التوسع فيها، وقد بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية، وكانت التجارب السابقة قد فرضت ضرورة وضع حدود علي التوسع في الاقتراض، ومن هنا فقد استقرت المبادئ السليمة للمحاسبة المالية علي ربط حدود التوسع في الاقتراض بتوافر حد أدني من الأصول المملوكة، فالمدين يجب أن يتملك حداً أدني من الثروة حتي يستدين، وأن يتوقف حجم استدانته علي حجم ملكيته للأصول العينية، ولذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة علي البنوك حدود التوسع في الإقراض للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لهذه البنوك، فالبنك لا يستطيع أن يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأسمال واحتياطي وهو ما يعرف بالرافعة المالية.