إن الأحداث التي تبصم محطات تطوره وخصوصا تلك التي تتموقع في قلب محركه الصراع الطبقي (ثورات، انتفاضات، اغتيالات، اعتقالات سياسية...) قد تنسى سريعا من ذاكرته (أو الجزء منها) لمدة قد تطول أو تقصر، وتتطلب عملية استحضارها إما وجود معبر سياسي حقيقي لمصالح وقضايا الشعب بكل فئاته (عمال، فلاحين صغار، التجار والموظفين، معطلين، طلبة، تلاميذ...) يواكب ويقود بشكل يومي، مستمر وآني نضالات الكادحين وتراكمها في اتجاه حسم الصراع لصالحها، وهو ما يغيب في حالة مجتمعنا المغربي. وإما تكرار أحداث من نفس الموقع الطبقي وبنفس الحدة أو أكثر. هذا السيناريو وإن كان أكثر ألما وحرقة من سابقه (الألم ليس فقط من جانب التضحيات، بل لغياب المراكمة السياسية لهذه التضحيات) هو المؤسف وحده المجدد والمتحكم-في بلادنا- لمستوى التعاطي مع الأحداث السابقة. نصوغ هذا التقديم لمحاولة فهم ما يقع في مدينة جرادة، ليس من جهة طبيعة الأحداث الدامية التي يعرفها الموقع. فهذه وإن كنا ملزمين بالتعريف بها وفضح الجهة أو الجهات المسؤولة عليها وتحديد الضحايا كلما سنحت الظروف لذلك. فلن نتجاوز فيها (عبر هذا المقال) حدود الإخبار والتبليغ، على اعتبار أن التحليل وتحديد الخلفيات سبق الحديث بشأنها (ونحيل القراء على مقالات سلسلة-دروس من النضال الجماهيري"جرادة المنجمية. بقايا الإقطاع ينهب، يشرد ويقتل"). والهدف من هذا المقال هو تناول الأحداث ومستجدات الصراع الطبقي بمدينة جرادة بربطها بآلام الأحداث الماضية، التي شاءت الصدف أن تتزامن مستجداتها مع الحدث الجديد. ففي الوقت الذي يقبع فيه خيرة أبناء المدينة من الشباب العامل في مناجم بقايا الفحم(الساندريات) بالسجن المحلي بوجدة على ذمة التحقيق في الأحداث التي عرفتها المدينة السنة الماضية عندما شنت آلة القمع الطبقية هجومها الدموي على مسيرة شعبية يقودها عمال الساندريات وحلفائهم من طلبة، تلاميذ، معطلين وعموم المهمشين احتجاجا على مخططات النهب والتجويع التي يفرضها الملاكون الكبار وبقايا الإقطاع بالمدينة ممن يمتلكون رخص استغلال بقايا الفحم ومن خلالها رخص استعباد واضطهاد الكادحين، وبالضبط في اليوم الذي أحيل فيه المعتقلون السياسيون السبعة على المداولة للحكم عليهم بمحكمة الاستئناف بوجدة. كانت الساكنة على موعد مع حادث جديد (أو قديم يتجدد) أعاد إلى الأذهان كل الأحداث الأليمة التي عرفتها المدينة فيما يرتبط بواقع العمل المنجمي بها. مرة أخرى تطبق آبار الفحم صخورها على أضلع الكادحين، مرة أخرى يختلط الدم بسواد الفحم لتكتب أسماء جديدة لشهداء على صفحات جبال المدينة وبين صخورها، مرة أخرى تسيل دموع حارقة على وجوه بريئة لتكتب أسماء جديدة في لوائح اليتامى والأرامل والثكلى. فقد انهار جبل داخل بئر للفحم على ثلاثة عمال. استشهد عاملان وأعيق الآخر. - احمد زوهتان استشهد على الفور تحت الأنقاض مخلفا أما و ابنا؛ -عمر تشلايت صمدت روحه إلى أن أخرجه رفاقه لكنه لفظها بعد ساعات، ليخلف خمس أفواه تنتظر لقمة العيش: أرملة وأربعة أيتام. أما الثالث وهو الناجي الوحيد من الموت وقد انقده رفاقه فلن يكون حظه أحسن حال، حكم عليه بإعاقة حركية دائمة وبالنتيجة استحالة مطلقة على الاستمرار في العمل وإعالة أسرته، ومصير مؤلم ومستقبل مظلم له ولعائلته، جوع وألم. وكرد فعل جماهيري طبيعي في مثل هده الأحداث خرج أبناء المدينة في مسيرة شعبية حاشدة، الأولى يوم الأربعاء 3 نونبر خلال دفن الشهداء، وقد حوصرت من طرف قوى القمع بمختلف تلاوينها والثانية يوم الخميس 4 نونبر 2010 وقد تعرضت لقمع همجي واعتقالات واسعة شملت أيضا تلاميذ الثاويات، ولازالت إفرازات الحدث متواصلة باحتجاج الكادحين على واقع التجويع والتنكيل المفروض عليهم. فبين اعتقالات الأمس واعتقالات اليوم مسلسل واضح، متواصل ومستمر لا انقطاع فيه يسمح بالنسيان ولا غوص فيه يبيح التردد واللامبالاة. إن ما يقع ارتباطا بمناجم بقايا الفحم هو احد حقول الصراع الطبقي الأكثر خصوبة، فيه تراكم الثروات والأموال في أيدي حفنة من بقايا الإقطاع. ويتراكم البؤس والشقاء واليتم لدى أغلبية الكادحين. ودور الدولة واضح وثابت. من قتل يدفن في القبر أو في منجمه لا يهم، من صرخ ضد القتل والجوع والقهر يعتقل ويحاكم ويسجن، هذا من جانب الكادحين، أما القتلة مصاصو دمائهم فهم في نظر الدولة وطنيون مخلصون. لكن بين نظرهم ونظرها ونظرنا، نظرة التاريخ الذي لا ينسى آلام الكادحين، فهي محركه وزاده في حركته نحو التحرر والانعتاق. فلتكثروا القبور ولتوسعوا السجون أيها القتلة واللصوص الجبناء، فنحن من سنودعكم بها غدا ونعدكم أننا لن ننسى أيها الشهداء والمعتقلين وسنتحلى بالقسوة وانعدام الشفقة حينما نجر مغتصبي شبابكم إلى مقصلة الشعب.