في عالمنا العربي كل شيء يتقنه الحاكم، بل كل شيء يتفوق فيه على الجميع، فهو أب لكل فرد من القطيع. منه يستمد الضعفاء العون والمدد، وإليه يرفع الجبناء برقيات التبريك والإمعية، كلامه حكمة دون غيره، وفعله إلهام من غير سواه... يفعل ما يريد في الأمة، لأنه حاميها! لا يُسأل عما يفعل لأنه حكيم. الحاكم العربي وحرصا منه على استحمار الشعب احتكر كل شيء، حتى الأوصاف الجميلة والجليلة، فهو "صاحب الجلالة" دون غيره، وهو "السدة العالية" و"الأعتاب الشريفة"، بل سطا حتى على الألقاب النورانية المباركة التيتذكرنا بالصحابة ك"أمير المؤمنين" و"أمير المسلمين".... تسعى الأجهزة المخزنية إلى تأبيد التقاليد الاستبدادية في جميع المجالات وخلال جميع المناسبات، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، فنيا، إعلاميا، رياضيا، دينيا، علميا... إذ لا تزال البروتوكولات هي هي، والدستور هو هو، ورجاله هم أنفسهم، والصناديق* واللجان هي هي، والمنهجية المخزنية لم يتغير فيها شيء. الركوع والعبودية: أثناء إجبار الناس على الاحتفال بميلاد الملك أو ميلاد بنته أو ابنه أو ما يسمونه بعيد العرش** يساق كبار المترفين ومجرمي الشعب وزبانية المخزن وأصحاب الامتيازات الخاصة ليقدموا إلى ساحة الإهانة؛ الركوع للملك ست ركعات خاشعة حانية ملؤها الإخلاص والافتقار والخشوع بين يدي عبدٍ لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا... يفقدون بالركوع لغير الله كرامتهم ومروءتهم ورجولتهم وشهامة الأجداد وأمانة الحق ومنطق العقل وشرف الانسانية، هذا إن لم يفقدوا دينهم فيسقطوا في الشرك بالله تعالى لما ينحنوا ذُلا وعبودية مختارة. والله لا يقبل أن يُشرك به. ما وقع في خُلدنا يوما أنه سيأتي على أمتنا زمان يركع فيه الناس (من المسلمين) لحكامهم، وما ظن أحد أن الحكام ستصل بهم الفردانية والعلو إلى استعباد الناس وإذلالهم. عيشة البهائم: "من الناس من يختار بمحض إرادته عيشة البهائم" قولة للفخر الرازي، نستعيرها منه لوصف أولئك الذي انطمست قلوبهم وانكسفت عقولهم، فحسبوا التملق إنجازا والجبن حزما والمذلة اصطفاء، وأخطر ما هنالك أن يملأ أحدهم قلبه برسالة تلقاها من الحاكم فيزفها لحزبه وكأنها تعزيمة الفرج للأمة، وهي في الحقيقة إذلال في إذلال...ومهانة في إهانة... مِن مديري المدارس مَن غالَب غيره في التملق فكتب لافتةً علقها في باب المدرسة -دون أن يستشيرمجلس التدبير ولا اللجان المختصة في الأنشطة- مشيدا ممجدا متملقا... ووزع مطويات على ظهرها بخط عريض: "أسرة التربية والتعليم تجدد ولاءها وإخلاصها للمربي الأول ...الخ" قلتُ: أليس المربي الأول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل التربية فقدت معناها حتى يكون كل حاكم هو المربي الأول؟ هل كل رئيس هو المربي الأول؟ وآباؤهم كانوا يقولون مثل ذلك؟ هل هذه الرتبة تورث مع السلطة؟ بل كل حاكم عربي يدعي أنه: المربي الأول ، المعلم الأول ، العسكري الأول، الرياضي الأول والفنان الأول.... فمن الثاني؟ والثالث؟ طبعا لا يوجد. فقط يوجد الأول، أما الشعب فهو الأخير. ألا نشعر بالعار بين الأمم أمام هذه الفضيحة من التملق وهذه الكثافة من الجبن؟ ألستم بآخرتكم تلعبون معشر المتملقين؟ أليست بروتوكولاتكم تافهة وشعاراتكم فارغة؟ أيها الوثنيون الجدد: قديما كان الوثنيون من المسيحيين متشبعين بثقافة عصرهم الوثنية الهيلينية التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدنيا و تجسدت، لخلاص بني الإنسان و هدايتهم.... فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بنفس المنظار. أما نحن فعمن ورث الرعاديد تأليه الحكام؟ على الرغم من كون الحكام العرب ليسوا فاتحين سوى للسجون، وليسوا فلاسفة ولا عظام إلا أن يكونوا عظاما نخرة. ------------------------------------------------------------------------ * صندوق الحسن الثاني، مؤسسة محمد الخامس، مؤسسة محمد السادس، مؤسسة للا فلانة... وتكوين صناديق أخرى خاصة ** أي اليوم الذي استولى فيه الملك الجديد على الحكم وراثةً من أبيه أو أخيه...