ملخص محاضرة ألقيت ضمن برنامج رابطة المثقفين العراقيين بإشراف الأستاذ مصطفى العمري لتكريم المفكر الأستاذ علي الوردي في قاعة هنري فورد شارع مشيغن افنيو يوم الخامس عشر من مايو 2008. لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة. ولست أجد إنسانا في هذه الدنيا لا يدعي حب الحق الحقيقة. حتى أولئك الظلمة الذين ملأوا صفحات التاريخ بمظالمهم التي تقشعر منها الأبدان لا تكاد تستمع إلى أقوالهم حتى تجدها مفعمة بحب الحق والحقيقة. والويل عند ئذ لذلك البائس الذي يقع تحت وطأتهم فهو يتلوى من شدة الظلم الواقع عليه منهم بينما هم يرفعون عقيرتهم هاتفين بأنشودة الحق والحقيقة! يقال أ ن أحد السلاطين المؤمنين بالله ذبح ذات يوم مئة الف مما كانوا على عقيدة غير العقيدة التي نشأ هو عليها ثم جعل من جماجم هولاء القتلى منارة عالية وصعدة عليها مؤذن يصيح بأعلى صوته (لا إله إلا الله) وحدث مثل هذا في العهد العثماني حين جهز والي الموصل حملة عسكرية ضد اليزيديين الساكنين في شمال العراق. ذهبت تلك الحملة إلى القرى اليزيدية فقتلت أطفالها وأستباحت نسائها وجاءت بالاحياء من رجالها إلى الموصل ليخيروا بين حد السيف أو شهادة لا الله إلا الله. أيها السيدات والسادة الأفاضل طاب مساؤكم! المقدمة التي استمعتم اليها كانت مقطعا مما كتبه فقيد العراق الكبير البروفسور الدكتور علي الوردي1 هكذا يفهم علي الوردي الازدواجية بين الواقع والمثال! بين القول والفعل! بين الحقيقة ووهم الحقيقة! فالوهم لايسوغ للمتوهم البناء على الحقيقة على الوهم! والقول لايكفي لكشف الوقائع ولن يكون القول بديلا من الفعل! واحسب ان الازدواجية صفة بدوية قديمة ورثها العراقيون فكانوا ضحاياها! الازدواجية نوع من الشيزوفرينيا المدمرة بحيث يظهر المريض طبيعة ويخفي أخرى بوعي منه او دون وعي! يقول الدكتور علي الوردي أول من دعا الى تحرر المرأة في العراق الشاعر المعروف صدقي جميل الزهاوي وذلك في عام 1910وتطرق الوردي في ذكر الحادثة التي خلدت الزهاوي في تاريخ المنافحين عن حقوق المرأة في عالمنا العربي حيث كتب الزهاوي مقالا بعنوان المرأة والدفاع عنها في مجلة المؤيد المصرية. وأعادت تنوير الافكار العراقية نشر المقال على صفحاتها، مما أدى إلى حصول حالة هياج عامة في بغداد. خرجت المظاهرات الصاخبة مطالبة بانزال العقوبة الرادعة على الكاتب الزنديق. بل أن أحد رجال ذهب الى والي بغداد في ذلك الحين. وأوضح له مايترتب على هذه المقالة المكتوبة من أحد المارقين عن الدين من مفاسد مخلة بالشريعة فلم يكن من الوالي إلا أن أصدر أمره بعزل الزهاوي من وظيفة التدريس التي كان يشغلها في الحقوق ونظرا للسخط العارم الذي رافق صدور المقالة. فقد أضطر الزهاوي إلى الاعتزال في بيته خوفا من اعتداء العامة عليه. إلا أن إعتكافه في منزله لم يغنه شيئا فيروى ان مجموعة من حراس الفضيلة ذهبوا اليه داره ليلا وطلبوا منه إخراج زوجته لتذهب معهم إلى المقهى. ولما أستنكر الزهاوي ذلك منهم قالوا له: كيف تطلب من بنات الناس أن يرفعن الحجاب ويختلطن بالرجال وفي نهاية الأمر تركوا شاعرنا الكبير وشأنه بعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق بانه لن يعود الى مثل هذه الكتابة الفاسدة وهددوه بالقتل في حال عودته اليها والغريب من ذلك حين يقاومون التيار في أول الامر يرضخون له أخيرا ً وستجيبون له. رأينا كثير من الواعظين يحرمون السفور ثم أسفرت بناتهم بعد ذلك ورأيناهم يمنعون من دخول المدارس أبناءهم وبناتهم. ورأيناهم الاستماع الى المذياع ثم دخل المذياع في بيوتهم كأنه أبليس يدخل الدار. وهم اليوم يحرمون الرقص والتبرج والخلاعة ومن يدرينا لعلهم سيرقصون في يوم من الايام على أنغام الجاز والموسيقى.2 إن مطالبة المصلح بتطبيق مبادئه على عائلته أمر ظاهره مروءة وباطنه مراوغة! لأن فرض مباديء المصلح على عائلته يقتضي شروطا كثيرة مهمة! بينها سيادة النظام الفحولي داخل العائلة بحيث يكون رب البيت هو الحاكم بأمره! ويقتضي ان تكون العائلة مقتطعة من القرون الوسطى بحيث هي لم تتأثر بمتغيرات العصر والحداثة والتكنولوجيا وثورة الاتصالات! فالرجل المؤمن بحق المرأة في اتخاذ القرار بنفسها في امر حجابها أو سفورها لا يسمح لنفسه فرض قراره على قرار عائلته تحت أي مبرر! فيكون مطالبة الزهاوي كي ترافق زوجته الرجال ومجالستهم في المقهى! وهذه الحالة جزء من اسقاط المصلح بإسقاط حججه بقواعد السفسطة! إن الحاكم ليس رسولا آتيا من وراء الصحاري، وليس ملاكا نازلا من السماء، وليس سلعة مستوردة من وراء البحار! الحاكم نحن شئنا أم لم نشأ ! فهو وريث اخلاقنا التي نشأ عليها وينبغي قراءة الحاكم قراءة مختلفة، فهو ظل والمجتمع عود، ولن يستقيم الظل والعود أعوج! ويقول علي الوردي: لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ على أن تبرر حكمها الغاشم للرعية بشتى أنواع الحجج. فقد كانوا في القرون الوسطى مثلا يبررون حكمهم بأنه مستمد من الحق الالهي. وأنهم جند الله أو ظل الله في أرضه. وبعد ما بدأت الثورة الصناعية في بلاد الغرب لجأ رجال الحكم في تبرير حكمهم الى حجة أخرى - هي حجة (من جد وجد) فهم ينظرون الى الشعب بعين الاحتقار على أنه مؤلف من السوقة والأغبياء والكسالى الذين عجزوا عن الصعود في مراقي النجاح! يقال إن مغنيا غنى للامين بعض أبيات من الشعر النؤاسي الرقيق في التغزل بالغلمان فطرب الامين طربا شديدا حتى وثب من مجلسه وركب على المغني وأخذ يقبل رأسه. ثم أمر له بجائزة. فقال المغني مندهشا: يا سيدي قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فأبدى الأمين استصغارا لهذا المبلغ البالغ عشرين مليون درهم من دراهم تلك الايام! وقال: وهل ذلك إلا من خراج بعض الكور. أن الأمين لا يبالي أن يعطي مغنياً عشرين مليون درهم، فهذا المبلغ هو عبارة مقدار ما يجبي من الضرائب من كورة واحدة - فهي قرية صغيرة. وليتصور القارئ العذاب الذي يعانيه أهل القرية في سبيل أن يسلّموا هذا المقدار من الضريبة إلى الجباة! وفي لحظة واحدة يعطى هذا المبلغ الضخم إلى أحد المغنين مكافأة له على ما أثار في خليفة المسلمين من شهوة نحو الغلمان. وإذا أراد القارئ أن يدرك ما كان عليه الفقراء في تلك الايام من بؤس وفاقة، فليقرأ هذه القصة التي رواها أبو فرج الاصفهاني 3. الحاكم وهو ثمرة فاسدة لشجرة المجتمع هو في نظره مصون غير مسؤول! فكونه حاكما معناه أنه سفير السماء في الأرض، وظل الخالق على المخلوقات! فيتصرف كما لو أن رغباته إلهام وأخطاءه قداسة! والفرد في ازدواجيته ينتقد الحاكم، ولكنه يأتي أحيانا بأسوأ مما يفعله الوالي! فإذا تحول من المحكوم إلى الحاكم جعل الناس يترحمون على الحاكم السابق! ويستمر الوردي في فحص المفردات التاريخية والاجتماعية من أجل أن يوصلنا إلى ما يريد إيصالنا إليه. فهو ينقل من أغاني أبي الفرج الأصفهاني حكاية عن محمد بن إبراهيم الحسني النفس الزكية على هذا الشكل: (فبينما هو يمشي في طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث. فسألها عما تصنع بذلك. فقالت! إني إمرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنات لا يعدن أنفسهن بشئ. فأنا أتتبع هذا الطريق وأتقوته أنا وولدي. فبكى بكاءاً شديدا ً وقال: أنت والله وأشباهك تخرجونني غداً حتى يسفك دمي.) ويعلق الوردي على محنة الشخصية النسوية قرة العين التي قادت الرجال وحفرت اسمها على مسلة التاريخ قيقول (.. حين نستقرئ سيرة قرة العين منذ بداية أمرها حتى ساعة مقتلها نشعر بأنها إمرأة ليست كسائر النساء! فهي علاوة على ما تميزت به من جمال رائع كانت تملك ذكاءا ً مفرطا ً وشخصية قوية ولسانا ًفصيحا ً! وتلك صفات أربع قلما تجتمع في إنسان واحد! وإن اجتمعت فيه منحته مقدرة على التأثير في الناس وجعلته ممن يغيرون مجرى التاريخ) إذن المفكر علي الوردي غير معني بفكر قرة العين ان كان صوابا او غلطا ولكنه انتصر الى روح القيادة عند قرة العين وقدرتها على استثمار جمالها وفصاحتها وذكائها من أجل أن تتحكم بالآخرين وتتخلص من قالب المرأة الشرقية ! ثم يناقش علي الوردي اشكالية قرة العين فيقول (..حاول بعض الخصوم تعليل هذا الميل لتجديد الشريعة عند قرة العين بأنه نتيجة لزواجها الفاشل من ابن عمها! ففي رأيهم أنها كانت تبغض زوجها من أعماق قلبها، ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تمنح المرأة حق الانفصال أو الطلاق منه فقد اندفعت قرة العين اندفاعا لا شعوريا ً نحو اعتناق كل دعوة تتيح لها نسخ الشريعة لكي تتخلص من ربقة زوجها البغيض على وجه من الوجوه! إني أعتقد على أي حال أن قرة العين امرأة لا تخلو من عبقرية وهي ظهرت في غير زمانها. أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقل تقدير. فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا. وفي مجتمع متقدم حضاريا ًلكان شأن آخر. وربما كانت أعظم أمرأة في القرن العشرين) 4! يقول علي الوردي إن قرة العين لو كانت في زماننا هذا لكان لها شأن كبير! وهذا مجرد تفاؤل وحسن ظن بالزمن! فلو ظهرت قرة العين في زماننا لما وجد من جسدها شلو يشبه الآخر! ولما عثر لها على قبر! ولقد حاول علي الوردي في جل مؤلفاته ملاحظة نمطين من التفكير هما المنطق الكلامي القديم والمنطق العلمي الحديث وعلى الصعيد العراقي فثمة الصراع بين منطقين هما المنطق البدوي والمنطق الحضري! ولعل محاضرة الوردي التي قدمها في بغداد عام 1950 حول طبيعة شخصية الفرد العراقي هي المحاولة المبكرة من الوردي لدراسة ردود فعل المجتمع العراقي منها ! وكما هو متوقع فقد اثارت آراؤه جدالات علمية صاخبة في الاوساط الثقافية وكان الوردي سعيدا بانطباق نظريته على الواقع العراقي من اجل تفسير طبيعة المجتمع العراقي في ضوء ظاهرة ازدواج الشخصية بسبب وقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين متناقضين من القيم الاجتماعية! بحيث يضطر بعض الافراد للاندفاع وراء نسق بدوي تارة ووراء نسق حضري تارة ثانية وقد أشار الوردي إلى أن المجتمع العراقي من أكثر المجتمعات هياما بالمثل العليا حين تكون القيم كلاما وخطبا. ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافا عنها حين تكون القيم فعلا وسلوكا! ويؤكد الوردي أن ازدواج الشخصية ليس مرضا سايكولوجيا كما يظن البعض بل هو مرض سيسيولوجي بسبب ميل أهل العراق إلى "الجدل"، الذي طبع التراث الفكري في العراق "بطابع مثالي" بعيدا عن الواقع الملموس فعلا، ولهذا ظهرت هوة بين التفكير وبين الممارسة العملية. فبينما كان المفكرون والفقهاء يجادلون بالادلة العقلية والنقلية، كانت الفرق والطوائف المختلفة تتقاتل في ما بينها. ويبدو أن هذه النزعة الجدلية ما تزال قوية في العراق حتى الآن 5. والمباديء والتجديد ليسا شعارات ولافتات بل هو إيمان كامل واستعداد دائم للعمل وفق الايمان! فمثلا ان النظرة المتشددة إلى الجنس تمثل انحرافا عن طبيعة الاشياء وأن مزاعم العراقيين في إنهم ميالون إلى التقدم ومنح المرأة حريتها يدحظه الواقع فهم تقدميون منفتحون مع عوائل الآخرين رجعيون منغلقون مع عوائلهم! وقد تسببت هذه الازدواجية في الموقف من الجنس إلى انحرافات جنسية مدمرة. ويرى الوردي أن الانحراف الجنسي يزداد بين الناس كلما اشتدت عندهم عادة الفصل بين الجنسين، فلم يفهم إخواننا هذا القول، وسخروا به، وكان دليلهم في ذلك أن الانحراف موجود في جميع البلاد شرقية وغربية، وجاءوا بأمثلة تدل على وجود الانحراف الجنسي في المجتمعات التي لا حجاب فيها، وذكروا أن في معظم العواصم الأوربية نوادي وجمعيات خاصة باللواط.! ويعقب الدكتور الوردي على دليل الخصوم بقوله: أن دليلهم هذا واه من أساسه.. لأنني لم أقل بأن الانحراف الجنسي معدوم في البلاد التي لا حجاب فيها! إنما قلت بأن نسبته تقل في تلك البلاد. وهذا أمر بحثه العلماء ووصلوا فيه إلى نتائج تكاد تكون قاطعة! أن الانحراف الجنسي لا يمكن التخلص منه في أي مجتمع مهما كان! الوردي وعاظ السلاطين؟ وخلاصة القول إن موقف الوردي من المرأة كما يأتي : المرأة مخلوق جدير بالاحترام وهي قادرة على تدبر امرها بنفسها دون وصاية من الرجل. الرجل العراقي يدعو الى حرية المرأة في الصحف والمجالس ولكنه يحجر حريتها داخل البيت. المرأة العراقية اكثر نساء المنطقة وعيا لاسباب تتعلق بحضارتي سومر وبابل وآشور. الرجل العراقي اكثر رجال المنطقة اضطرابا في موقفه من المرأة بسبب اضطراب الحدود عنده بين البداوة والحضارة. المرأة جديرة بتسلم قرارها بنفسها فان قررت الحجاب فلايجوز للرجل جعلها سافرة بالقوة والقهر وان قررت السفور فهي حرة في قرارها! الرجل العراقي مفتقر الى ثقافة جنسية صحية والى انفراج في نظرته الضيقة الى نصفه الآخر . المرأة تفتقر الى الثقافة الجنسية والتخلص من فكرة انها عار وعورة ولاشيئء غير ذلك فهي ام واخت ومناضلة وعاملة ومدرسة مثلا. الرجل والمرأة بحاجة الى وعي يجتاز بهما النظرة الضيقة وليست ازواجية المعايير خاصة بالعراقي بل والعراقية ايضا تعاني من ازدواجية المعايير فهي ايضا تشارك الرجل في الميل الى الاطفال الذكور والوهد بالمواليد الإناث! بل وهي تشجع ابنها الصغير كي يتحكم ببناتها الاكبر سنا منه.