لا يصلحُ الناس فوضى لا سَراة لهم ولا سراة إذا جُهالهم سادوا كيف الرشاد إذا كنت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي تحدث الفقه السلطاني العربي عن نماذج للسلطان الذي كان يختزل في ذاته كل مقومات الحكم، أليس السلطان خليفة الله في أرضه أو خليفة رسوله؟ فهناك الحاكم العادل والحاكم الظالم.. ولأن الماوردي وابن خلدون، وغيرهما من منظري الفقه السلطاني، وجدوا أنفسهم في سياق تاريخي ما، أمام نماذج واقعية للحكم لا تنتمي للتصنيف الأول ولا الثاني، فقد أبدع بعضهم نموذج المستبد الجائر والمستبد العادل، أو المستبد المستنير.. ولأنه كما تكونوا يُولَّى عليكم، فإن المستبد المستنير لابد أن يكون له شعب مماثل، ولأنه راعي مستبد ومستنير فإننا نفترض أن قطيع الرعية سيكون قطيعا متنورا. في المغرب لا يشكل محمد السادس نموذج الحاكم الظالم، لأنه لم يغتصب عرشا ليس له، ولم يُقم حكمه، نتحدث عما نرى لا عمّا يحمله الغيب لأننا لا نملك أعين زرقاء اليمامة ولا براعة المنجمين أو بركة الأولياء الصالحين، أقول لم يُقم حكمه بحد السيف، فهناك مجال لتعبير المعارضين عن أنفسهم وهناك جرائد يتسع ويضيق صدره أحيانا عن تقبل نقدها، وهناك مؤسسات قائمة في البلاد، هناك أحزاب ونقابات وجمعيات، هناك حكومة وبرلمان... وغيره مما يُعطي الانطباع بوجود مؤسسات ديمقراطية. ليس حاكما ظالما لأنه أيضا لا يعلق رؤوس معارضيه على أبواب المدينة ولا يفتح قبرا لكل من فتح فما للاحتجاج أو التعبير عن السخط، ونراه يعانق الناس ويصافحهم عن قرب، ولم يرفع برلمانا ولا أغلق تلفازا ولا أمر بطلي باب معارضيه بذاك الشي اللّي ما كيتسمَّاش ولا وصف رعيته "بالأوباش" و"أنصاف الرجال".. ولا نعت متنوري الأمة "بأنصاف المثقفين".. لكنه مع ذلك، ليس ملكا عادلا، لأن عدم إقفال جريدة أو متابعة أصحابها أو خنقها اقتصاديا ليس مؤصلا بقوة القانون بل حسب المزاج ورحابة الصدر الذي يضيق أحيانا ويتسع أخرى، ولأن نص الدستور الناظم لقواعد الحكم لازال ينص على أنه شخص مقدس وفيه تختزل كل السلطات، إنه الآمر والناهي، أمير المؤمنين وحامي الملة والدين، والموصى على رقاب العباد ومصالح البلاد، وإليه يعود الأمر في تنصيب المسؤولين السامين والو زراء والعمال والموظفين الكبار على رأس المؤسسات الكبرى في البلد، وهو قوة ملزمة باعتبار خطابه يعلو ولا يعلى عليه، وقوله لا يخضع لنقاش أو رأي، وكل اختلاف حوله جالب للأرزاء أو مانع للأرزاق، ورغم أنه قلد ببيعة تدبير أمور الرعية، فإنها تنقاد ولا تقود، وليس عليه أدنى حساب، فهو المراقب والمحاسب، الزاجر والآمر، المانح والمانع، يملك سلطة الصفح والصفع، إلحاق الضرر وجبره، له سلطة العفو والحكم.. إذا قال لشيء كن يكون، وإذا قال له زل يزول.. لأنه سبط الرسول (ص)، وفيه كل المقومات الروحية المستمدة من الذات الإلاهية وأهمها القداسة والطهرانية.. فهو كائن غير تاريخي، أي غير واقعي. إنه ليس حاكما عادلا، لأن العدل مثل الخمر في كأس السلطة، التي لم تعد في زمن الديمقراطية وحقوق الإنسان تأتي من أعلى، وهي مبنية على مبدأ"سلطة تحد سلطة أخرى" وأساسها المراقبة والمحاسبة التي تسمح بسيادة المجموعة الوطنية التي تملك وحدها حق تقرير مصيرها بنفسها وفق ضوابط وقواعد لعبة متواطئ عليها كونيا، ومنصوص عليها قانونيا، ومعمول بها في الممارسة اليومية، على هذا فإن محمد السادس مستبد مستنير، لا هو حاكم ظالم ولا حاكم عادل، يلزمه إذن قطيع متنور ، وفق القاعدة الفقهية"كما تكونون يُولَّى عليكم". خصائص هذا القطيع المتنور يمكن أن يبحث فيها أصحاب "فصوص الحكم" والأحكام السلطانية ممن يستهويهم البحث في خصال العامة والرعاع، وسبل قيادة الدهماء وسياسة الغوغاء، على خطى الداهية الإيطالي ماكيافيلي الذي نصح الأمير بناء على معرفته بخصائص العامة ومحيط القصر من المستشارين والوزراء والقواد والعاملين بالبلاط الملكي. وحسبنا في هذا المقام أن نسجل في القرطاس ما أنبأنا الله في علم خصال الناس، إذا كان المستبد المستنير يقع بين الحاكم الظالم أو الجائر والحاكم العادل، فإن القطيع المتنور أو المستنير..يكون في المنزلة بين المنزلتين، فلا هو قطيع خامل منقاد بسلاسة إلى العسف، منخور بداء الوسواس من آذان السلطة.. لا يعرف إلا العام زين ويتكلم الكلام المعسول أمام الكاميرا شاعلة، متروك لبؤسه ورعبه، غارق حتى قنة رأسه في إبدال سبل الطاعة والإذلال لأولي الأمر، ولا هو قطيع يشارك"الراعي" في القرار ويحاسبه على كل زلة في الاختيار، ولا يرضى بغير ما يؤسسه صحبة الراعي، الذي يتنازل له بمحض إرادته عن قرار قيادته وعن جزء من حريته مقابل سهر الراعي على ضمان حقوقه وصيانة ممتلكاته من كل عبث أو جور، وحمايته الضعاف منه والصغار من كل اعتداء أو اغتصاب للكبار فيه.. فما هي الخصال المميزة للقطيع المتنور إذن؟ 1 - المبدأ الأول" الشاردة يأكلها الذئب" معرفة حدود حقل الرعي السياسي وعدم تجاوز حدود السياج المرسوم سلفا.. فحدود اللعبة السياسية هنا سابقة على وجود القطيع ويقبل هو بالتماس أي تغيير بموافقة الراعي، فلذلك نرى الفاعلين السياسيين على اختلاف توجهاتهم بمغرب اليوم، لا يضعون أنفسهم خارج الإجماع الوطني المحدد سقفه ومجاله سلفا، لأن الشاة الشاردة يأكلها الذئب، ف"لوجورنال" لحظة نشر رسالة الفقيه البصري، أو "الأيام" حين تحدثت عن حريم الراعي أو "الأسبوعية الجديدة" حين نشرت استجواب ابنة الشيخ ياسين..وجدت نفسها مثل البعير الأجرب. فلا يجب الخروج عن صناعة الإجماع، فدير راسك بين الرّيوس وعَيَّط أقطَّاع الريوس؟ 2- الشعار الثاني" لا تلقي بنفسك إلى التهلكة" القطيع المتنور يستجيب لمبدأ صناعة الإجماع، فالنخب اليوم حتى حين ترفع مبدأ تغيير الدستور، فجلها يقول"بتوافق مع جلالة الملك"، كأن قوة هلامية وضعت هذا الدستور وسيتم تعاون النخب مع الملك لتغييره، إن الرعية هنا لا تريد أن تغضب الراعي الذي لا يسمح باللعب في حدود مربعه، ففي اللحظة التي صرح فيها عميد نقابة الاقتصاديين الكبار السيد حسن الشامي بما اعتقده سليما حول الوزير الأول وصلاحيات الدائرة المحيطة بالقصر، وجد نفسه وحيدا في الكماشة، وحين قاد المقاول كريم التازي صحبة مقاولين شباب حركية لمواجهة مرشح السلطة في قطاع اقتصادي له حساسيته، بدا كما لو أن مصالحه تتعرض للضرب من تحت الحزام، فلماذا لا يستسلم للنوم المريح على أسرة ريشبوند ويبتعد عن وجع الرأس، فبعث له المسؤولون مرسول الحب الفنان التشكيلي المهدي قطبي وصديقا مقربا من الهمة.. ولما سأل محمد اليازغي في مجلس للوزراء عن هبة "تورة"بدون علم الحكومة، تعرض للتهجم والتأنيب، بل إن حزبا كبيرا مثل حزب الاستقلال تزور ضده انتخابات 1997 ،فيعقد مؤتمرا استثنائيا وتلقي لجنته التنفيذية ببيان ناري تؤكد فيه القيادة الاستقلالية"لا مشاركة في أجهزة مزورة ولا مباركة لمؤسسات مزيفة"، ومع ذلك يشارك في حكومة اليوسفي، وحزب هذا الأخير يتلقى ضربة صاعقة مع ولادة وزير أول خارج الرحم الديمقراطي، ويعتبر الأمر خروجا على المنهجية الديمقراطية لكنه يعود ليبارك النهج غير الديمقراطي، والشعار دائما واحد "لا تلقي بنفسك للتهلكة"، إن القطيع المتنور هنا يصبح مستدمجا حتى لما يعارض مواقفه أو مبادئه. 3- القاعدة " دولة الشبيه" إن الأمر أشبه بإعادة أسطورة نرجس، لأن الحاكم لا يقبل بالمنافسة، إنه مثل العقل الفياض في البناء الفلسفي للفارابي، العقل الفعال أو العقل الأول الذي عنه تفيض الوظائف والمهام والمسؤوليات والمؤسسات، ولأنه وحيد في حكمه، يطمح أن يرى تعدد صورته الواحدة في مرايا متعددة من التلفزيون إلى الطابع البريدي، ومن خطابه في البرلمان إلى خطابات زعماء الأحزاب والنقابيين ونساء ورجال المجتمع المدني والإعلام..وهنا إحدى القواعد المؤسسة للقطيع المتنور، الذي يتماهى مع صورة الراعي، ليؤسسا معا دولة الشبيه حيث الخطاب الوحيد والحزب الوحيد، فالتماثل والتطابق والتماهي مع خطاب الدولة هو ميزة مغرب اليوم، حيث تنتقل عدوى الواحدية من الأعلى إلى الأسفل، وتصبح أحزابنا بدورها لا تقبل بسماع أي صوت خارج صدى صوت الزعيم، ونفس الشيء في الإعلام والعمل الاجتماعي والمؤسسات الثقافية، حيث لا مجال للاختلاف والتميز... 4- الشكل" تفعيل النقد المباح" إن حيوية القطيع المتنور تتميز في القدرة على الحركة والمبادرة، وتسمح بنقد الهوامش في البناء المعماري للسلطة، فالنخب السياسية تطالب بتغيير الدستور، وتمارس الأحزاب البرلمانية انتقادها للسلطة وأحيانا تذهب بعض الفرق إلى حد المطالبة بتشكيل لجنة تقصي للحقائق في قضية ما، أو تطالب بضرورة مراقبة عمل الحكومة أو إخضاع بعض المسؤولين الكبار للمراقبة البرلمانية، وتبتكر نصوصا في مجالات حساسة أحيانا ،مثل مراقبة تبييض الأموال والتصريح بالممتلكات، وصحافة الأحزاب بما فيها المشكلة للحكومة تنشر حقائق حول الفساد وتنتقد المسؤولين في جهاز من أجهزة الدولة حتى ولو كان الأمن. القطيع المتنور بالمغرب برعَ في خطاب جديد، فهو يفسر ويبارك خطاب الراعي، ويصبح خطابه حاشية على المتن الأصلي، لكنه ينتقد ويطالب بضرورة الرفع من وتيرة الإصلاح، وسقف مطالبه لايتجاوز ما يبشر به كل خطاب ملكي، لذلك يؤمن جل الفاعلين في المغرب بأن الملك محمد السادس يقود حركية ديمقراطية بالمغرب، ويقبلون بالبقاء على الهامش، بل إن الفاعلين المركزيين في دائرة المربع الملكي يصرحون في كل لقاء مع زعماء الأحزاب ورجال ونساء الصحافة بأن الملك يقود المغرب بخطى لا رجعة فيها نحو الديمقراطية والتنمية وأنه حقق الاستقرار وأوقف النزيف الاجتماعي، دون ذكر لا للحكومة ولا للبرلمان، ويطلبون من الآخرين أن يدعوهم يعملون بأمان، أي أن ينوبوا عن المؤسسات الدستورية، واركبوا معنا عربات القطار ولا تناقشو القاطرة، وإذا لم تشاؤوا فأمامكم الصحف فنحن يتسع صدرنا لانتقاداتها مهما كانت جارحة أحيانا.. والقطيع المتنور أو المستنير يقبل بذلك، لماذا؟ لأنه هو نفسه لا يقبل أن يُسأل أو يعارض ولأنه مليء بالثقوب في حزبه أو نقابته أو مسار حياته الشخصية حتى، حيث يتحول إلى رهينة، فهل ضرب اليازغي على الطاولة وانسحب من مجلس وزاري أُهين فيه حزبه بكل رموزه ومناضليه؟ وهل السيد الشامي قاوم من اعترضوا طريقه، أم أن الدولة تملك مفاتيح كل الزعماء، فهذا لا يؤدي الضرائب، وذاك ابتلع مبالغ الدعم المالي الموجهة إلى جريدة حزبه، وذاك احتال للحصول على قطعة أرضية بغير وجه حق، وذاك اعتاد الحصول على موارد لتسيير مؤسسته بسبل ملتوية، وزيد وزيد من حكايا تشيب لها رؤوس الأطفال في المهد... كل ما نتمناه هو أن يكون المستبد المستنير والقطيع المتنور هما جزء من مرحلة الانتقال الديمقراطي فقط..