بدأنا نعيش تآكل المؤسسة الثقافية بالمغرب وانحلالها، هذه المؤسسة التي طالما روجت (لحقيقة) معينة، وهي أن الانتماء يعادل ويساوي صفة الكاتب، لأن المؤسسة هي التي تتكلم باسم الكتابة وهي القناة الوحيدة للاعتراف والترويج والحضور، وماعدا ذلك يعيش الكاتب على هامش الكتابة فيصبح مجرد (كاتب شاب) أو(كاتب هاو ومبتديء) أو حتى (كاتب رديء)، يلزمه التدرج عبر مسارات تحددها تلك المؤسسة نفسها حتى يحصل على اعترافها، لنصبح في نهاية المطاف أمام منظومة قمعية تقوم بمهام التصنيف والفرز والاعتراف والإلغاء، وهذه المؤسسات الثقافية امتزجت دماؤها وعروقها بمؤسستين حزبيتين من خلال (مناضليها المثقفين)، فامتزج بالتالي التأطير السياسي بالتأطير الثقافي، أو لنقل بشكل أوضح التدجين السياسي بالتدجين الثقافي، فرأينا كيف يصطف القطيع في تراتبية محددة، وكيف يقوم كل فرد أوجماعة من القطيع بأدوار محددة ومرسومة له سلفا في تبادل غير متكافيء للخيرات المادية والرمزية للمنتمين لهذه المؤسسات، مما عجل بظهور سلوكات تنتمي إلى عقلية القطيع نفسه، وهي التسابق على التفرد والقيادة والاستحواذ على الخيرات مع ما ينتج عن ذلك من تصادم وتطاحن وإلغاء واجتثاث وقتل رمزي وما يقتضيه ذلك من تحالف واستقواء أو قلب للطاولة ومن ثم الانعزال.. ولنفهم الأمر أكثر، علينا مواجهة هذه الأسئلة : كيف يولد الكاتب بالمغرب؟ ما هي مراحل كبره ونموه ؟مم يتغذى ويقتات ؟ وأخيرا وليس آخرا، كيف يهلك الكاتب المغربي؟ ، طبعا هذه الأسئلة لا تتحدث عن الجانب البيولوجي للكاتب ولكنها تستعير فقط مصطلحاته . الكاتب المغربي يولد في أحضان أسرة أوعشيرة أوقبيلة (المؤسسة الثقافية والسياسية نموذجا)، وتتحدد قيمته بدرجة قربه أوبعده من تلك المؤسسات، ودرجة القربأوالبعد تحددها بدورها الخدمات التي يقدمها لتلك المؤسسات من ولاء وتعصب ودعاية ، فتصبح الكتابة عندئذ مجرد ذريعة ووسيلة وليس غاية يقف الكاتب على خدمتها ورعايتها، فالمؤسسة عنده هي الحقيقة بينما الكتابة مجرد قناع، لذلك يمكننا أن نفهم لماذا لم ينتج لنا الأدب المغربي كتابا كبارا بالعدد والحجم الذي يتناسب مع عمق تاريخه وسعة سكانه، والقلة القليلة من الكتاب الذين قدموا أعمالا راسخة وخالدة في الوجدان الجمعي المغربي والعربي هم كتاب كانوا من خارج المؤسسة، وانتزعوا الاعتراف من الخارجقبل الداخل، هكذا يولد الكاتب المغربي ولادة مشوهة وحاملة لبذور الوأد مادامت ولادة غير مخلصة للكتابة ولأسئلتها الأكثر عمقا وتجذرا .. فالكاتب المغربي يمر بمراحل من التدجين والترويض، تبدأ مثلا من الإقرار بأنه لازال في طور الهواية والابتداء، وبالتالي يلزمه النشر في صفحات الشباب بجريدتي الحزبين المشار إليهما، قبل النشر في ملحقهما الثقافي مع ( الكتاب الكبار)، وهذا الأمر لا نشهد له مثيلا في الدول الديمقراطية والحداثية، بحيث يمكن لشاب لم يكمل بعد ربيعه الخامس والعشرين أن ينشر رواية مثلا في أعرق دور النشر، ويكون عمله وإبداعه صك عبوره إلى ملايين القراء، أو ينال جائزة عريقة، بدون النظر إلى ( سيرته الإبداعية) .. أما في المغرب، فالتدجين وتبغيس الذات المبدعة هي السمة الطاغية، لدرجة أن صفحات الشباب بتلك الجريدتين تأخذان أسماء قدحية وتحقيرية من قبيل ( على الطريق ) أو (القلم الفضي) أو (الباب المفتوح)، كما أن التدجين والترويض قد يتخذ مظاهر أسوء وأحقر من هذه، عندما يكون (الكاتب الشاب) ملزما بتقديم خدمات ( للكتاب الكبار) أشبه بالقرابين التي تقدم للآلهة لدرء شرها أوجلب منفعتها، مثل الكتابة عن أعمالهم وترويجها والصدح بها، وفي بعض الأحيان ينال الكاتب المغربي المباركة والتزكية، فيترأس مؤسسة ثقافية أوصحافية وينال جوائزها، حتى وإن لم يكن له أي رصيد من الكتابة من غير نصوص هنا أوهناك أو كتيب رديء منهجا ومضمونا يكون غالبا عبارة عن بحث جامعي نال القبول عن مضض أو لم ينله أصلا كما فعل أحدهم عندما نشر كتابا هو عبارة عن مشروع بحث لنيل شهادة الدكتوراه لكن البحث لم تتم إجازته، و تم التأشير من طرف الأستاذ المشرف على أخطائه وعلاته من أجل تنقيحه وضبطه، فما كان من الطالب الباحث إلا أن نشره على علاته وأخطائه متغنيا بالجائزة الكبيرة التي نالها عن عمل سابق له بتدخل من أطراف نافذة.. وهذه المباركة والتزكية لا ينالها الكاتب المغربي من مداد قلمه بل من تلك الخدمات الآنفة الذكر، هكذا نرى كيف تتحول الكتابة إلى مجرد ذريعة وشعار، وإلى مجرد قناع يستلزم الكشف والفضح، خصوصا أنه قناع (ينسى) أصوله وجذوره والمواد الداخلة في صياغته وإنتاجه وفرضه، وهكذا فالعلاقة السائدة بين الكتاب المغاربة هي علاقات هيمنة وامتلاك وسخرة، علاقة عمودية تتحدد رتبة كل كاتب فيها بحسب درجة القرب من المؤسسة وطبيعة الخدمات التي يمكن أن يؤديها والخيرات التي يمكن أن يجنيها،وكل بعد عن المؤسسة يعني بالضرورة التنكر والنسيان والاقصاء،ولذلك يمكننا أن نفهم لماذا تستفرد أسماء بعينها بنصيب وافر من الحضور والترويجوالدعم ، حتى تنتصب تلك الأسماء أمامنا كأنهاهي التي تمثل حقيقة الكتابة المبدعة والمتفردة، إلى درجة نسيان النصوص والتعلق بالأسماء، وكأننا أمام حالة من شلل الوعي وتخديره.. وانتماء الكاتب للمؤسسة لا يعني بالضرورة اقتصار هذا الانتماء على المؤسسة السياسية والثقافية، فالمؤسسة تتجسد في الانتماء وفي تبادل المصالح،أي في الانتماء لجماعة مهما صغرت وفي تبادل المصالح بين أفرادها، لذلك فالمؤسسة التي نعنيها هنا قد تتجسد حتى في مؤسسة الزواج، بحيث عرف المغرب مؤخرا ما يسمى بظاهرة أزواج الشاعرات، حيث رأينا كيف قام الأزواج بتكريس زوجاتهن كشاعرات حقيقيات في ظرف زمني قياسي وقصير، وأغدقوا عليهن نشرا وترويجا وحضورا بحكم المواقع التي يحتلها الأزواج في مراكز القرار، السؤال هنا : أين الكتابة من كل هذا؟ ما هو دورها ووظيفتها؟، كما أسلفنا القول فالكتابة هنا تقوم بوظيفة القناع وإخفاء العلاقات السابقة الذكر، وإبراز المؤسسة مثل عارض وطاريء بينما هي الأصل والحقيقة، مادام توزيع الخيرات الرمزية والمادية والوسائل الفاعلة غير متكافيء وغير متناسب مع قيمة الكتابة الجمالية والفنية، ومادام القاريء الجيد للنصوص غائبا ومستلبا.. المؤسسات الثقافية بالمغرب (اتحاد كتاب المغرب نموذجا) تحولت من مؤسسات( مع الكتابة) حيث كان استقطاب الكتاب على قدم وساق، لتكوين قاعدة جماهيرية عريضة من الكتاب/المناضلين، وكان توزيع بطائق العضوية ساريا على من لم يقربوا الكتابة قط، وحيت كان رؤساء تحرير مجلة (آفاق) يدعون الكتاب في افتتاحية المجلة إلى المساهمة بالنصوص في المجلة عندما كان الخصاص في النصوص والمواد سائدا، ثم أصبحت هذه المؤسسات( ضد الكتابة)، حيث تم تقنين العضوية ظاهريا والتضييق في النشر إلا على المقربين والمحظوظين، ثم أخيرا أصبحت هذه المؤسسات (ضد الإنسان ) نفسه، حيث رأينا كيف انتشرت مشاعر العدوانية والكراهية والاقصاء والاجتثاث بين أصدقاء وأحبة الأمس، مما عجل بهلاك الكثير من الكتاب المغاربة، هلاكا رمزيا، فلم نعد نسمع بحضورهم ولا بكتاباتهم وأنشطتهم، بسبب ما وقع لهم مع المؤسسة من طلاق أوانفصال أوخلاف، بحيث لم يعد هؤلاء يتماهون مع المؤسسة في آلياتها وطرائق اشتغالها مما عرضهم للنفي والطرد والسلب إذن هكذا يولد الكاتب المغربي في جو من الوصاية والقمع والاحتواء والهيمنة والاحتضان.. وتتحدد قيمته بمدى المنفعة التي يمكن أن يقدمها أويجنيها،في تناقض وتضاد مع الكتابة، باعتبارها شكلا من أشكال التحرر والتجاوز والتعري والفضح والكشف مثل الاستمناء على قارعة الطريق تماما، وتتحدد قيمتها في ذاتها أي في طوابعها الجمالية والفنية، وفي الإخلاص لسيرتها وأسئلتها الداخلية، مؤجلة ونافية كل ما ينتمي إلى خارجها.. لذلك علينا أن نختار بين المؤسسة وبين الكتابة، والأهم من ذلك أن نحدد مواقعنا وأهدافنا بشكل علني ومكشوف، وألا نتذرع بحقيقة نبيلة ونقية مثل الكتابة لاخفاء المؤسسة . [email protected]