استقبلت بلادنا شخصيات إسرائيل من مستويات عالية ، واحتضنت لقاءات جهوية ودولية بحضور إسرائيلي ملحوظ ، وتحدثت مصادر عديدة عن معاملات اقتصادية مغربية إسرائيلية تقدر بملايين الدولارات ، وعن مشاريع مستقبلية وحالية لإسرائيل في بلادنا . وبالفعل ظهرت في بعض الأسواق المغربية بضاعات إسرائيلية .. وخلال شهر نونبر المقبل ستحتضن مدينة مراكش قمة اقتصادية دولية بمشاركة إسرائيل حول " تنمية بلدان الشرق الأوسط " . يحدث كل هذا في ظل صمت مريب من الحكومة ، ولا مبالاة من باقي القوى السياسية والاجتماعية ، ولا شك أن وراء هذا الإنزال الإسرائيلي القوي مخططات إسرائيلية تتعدى المغرب إلى إفريقيا وترتبط بتصورها لصياغة خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط ، تحتل فيها إسرائيل مكانة متميزة ورائدة تضمن لها هيمنة خاصة . فيما يلي إطلالة على زوايا خفية من هذا العالم المظلم والمسكوت عنه . في بداية شهر ماي زار بلادنا نائب رئيس البرلمان الإسرائيلي رفائيل درعي حاملا رسالة من رئيس وزراء بلاده إسحاق رابين . وفي بداية شهر يونيو زار بلادنا في نفس الإطار وزير الخارجية الإسرائيلي إسحاق رابين الذي صرح عقب هذه الزيارة " بإمكانية فتح مكاتب لرعاية المصالح بالمغرب وإسرائيل قبل نهاية هذه السنة " ، وكان تعقيب وزارة الشؤون الخارجية على هذا التصريح أن أي قرار من هذا القبيل تحكمه قرارات الجامعة العربية . لكن لم يرد أي توضيح بخصوصاتفاق مغربي إسرائيلي على استئناف أو إقامة اتصالات سلكية ولا سلكية بين الطرفين . وكانت مصادر البنك الدولي قد قالت أن المغرب سيحتضن الاجتماع الثالث للجنة الحد من التسلح والأمن الإقليميين المنبثقة عن اللجنة العليا للمفاوضات المتعددة الأطراف . وأيام 15 و 16 و 17 يونيو 1994 احتضن المغرب اجتماعات لجنة المفاوضات المتعددة الأطراف المكلفة بالشؤون الاقتصادية والتنمية بمشاركة 45 دولة منها 14 دولة عربية وبحضور وفد إسرائيلي رفيع المستوى يضم 15 شخصا برئاسة يوري شافير المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية ويعقوب فرانكيل ، رئيس بنك إسرائيل المركزي . وتجدر الإشارة أن وفدا اقتصاديا مغربيا رفيع المستوى زار إسرائيل في شهر أكتوبر الماضي تحت غطاء المشاركة في مؤتمر اقتصادي حول التنمية في الشرق الأوسط . هكذا بدأ الإسرائيليون يقيمون العلاقات مع المغرب تحت غطاء زيارة رسمية أو المشاركة في مؤتمر أو المشاركة في المحادثات المتعددة الأطراف أو الحد من التسلح أو ما لسنا ندري غدا أو بعد غد . وهكذا تفتح الأبواب أمام إسرائيل لتتسرب بنظام وانتظام إلى دواليب الاقتصاد العربي عامة والمغربي خاصة ، في وقت لازالت فيه مفاوضات السلام تتعثر على باقي الجبهات لأن إسرائيل تريد الاستفراد بكل طرف على حدة ، وتسلك سياسة طويلة النفس وواضحة العالم لإعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط دون انتظار إيجاد حل نهائي لقضية الأرض والسلم في المنطقة عموما . وهذا ما تسميه تل أبيب بمسألة " بناء الثقة " في أفق التطبيع مرورا بالمفاوضات المتعددة الأطراف . وقد استكان العرب لهذا المسلك الإسرائيلي علما بأن ما بين إسرائيل والعرب لم يكن أبدا خلافا أو صراعا على المياه والتسلح والبيئة والتنمية وماشابه ذلك مما يتم تداوله في المفاوضات المتعددة الأطراف . إن ما يعنيه الذي يحدث الآن ، هو نجاح إسرائيل في فرض تصورها الخاص حول مستقبل التسوية ومسار المفاوضات وصياغة وضع جديد يضمن لها مكانة متميزة تتعزز بقوتها العسكرية عامة والنووية خاصة في حين يتم تكبيل الفلسطينيين والعرب بالاتفاقيات والالتزامات المترتبة عن المفاوضات المتعددة الأطراف . ويمثل المغرب إحدى الحلقات في هذه السلسلة التي تعمل إسرائيل على مدها نحو إفريقيا مثلما مدت حلقة مصر نحو سلسلة المشرق العربي . فقد بحث المشاركون في الاجتماع الذي احتضنته بلادنا أيام 15 و 16 و 17 يونيو وثيقة عمل كإطار عام للتعاون الاقتصادي الإقليمي بين دول منطقة الشرق الأوسط والدول والمنظمات الراعية والممولة أي الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي . وتشمل هذه العملية مختلف المجالات من الفلاحة إلى السياحة مرورا بالمواصلات والطاقة والتكوين المهني والاستثمارات والأسواق المالية ، وتعتبر الرباط أول عاصمة عربية تحتضن اجتماع لجنة التنمية في المفاوضات المتعددة الأطراف ، وتعلق إسرائيل على هذا الاختيار حسابات كثيرة ، خاصة وأن الوفد الإسرائيلي انتهز اجتماع الرباط ليكشف عن معلومات تتعلق بقيمة المبادلات الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية ، حيث تبين أن قيمة هذه المبادلات تصل إلى ( 600 ) ستمائة مليون دولار ، منها 100 مليون دولار مع مصر ، في حين تفوق قيمة المعاملات مع المغرب هذا المبلغ بكثير . ومن جهة أخرى قدرت مصادر أوروبية قيمة التجارة غير المعلنة بين العرب وإسرائيل بما يفوق مليون دولار سنويا . وكانت جريدة " لوموند " قد نشرت في نهاية السنة الماضية تقريرا ورد فيه أن شركة إسرائيلية ( تتواجد ضمن نطاق عمل المخابرات الإسرائيلية – الموساد ) تملك عدة مصالح داخل المغرب وتعتزم إقامة مجمع صناعي جنوب بلادنا . وكان أحد مديري مجمع صناعي إسرائيلي كبير قد صرح بوجود مشاريع مشتركة توصلت إليها شركته مع المغرب ، فضلا عن اتفاق مغربي إسرائيلي كتنظيم رحلات جوية بين البلدين وإنجاز الربط الهاتفي والبريدي وتعاون وثيق مصرفي ومالي . إن إسرائيل تسير بخطى حثيثة وسريعة نحو التطبيع مع الدول العربية ، مع استمرار احتلالها لأجزاء عربية وهي تبدي سرعة في المبادرة والحركة لجني ثمار مناخ ما بعد مؤتمر مدريد واتفاقية غزة وأريحا أولا . من هذا المنطلق ، وعلى ضوء تجربة كامب ديفيد وآفاق التطبيع مع مصر ، تسعى إسرائيل إلى إرساء أسس تعاون اقتصادي وتجاري ، ومشاريع مشتركة تشكل أرضية صلبة لعلاقات دبلوماسية مستقبلا مع الدول العربية . وهكذا يسبق التطبيع الاقتصادي التطبيع السياسي وتبقى إسرائيل محتفظة بأراضي عربية ومع ذلك تنمي تعاون العرب معها وتستمر في نهب الموارد المائية واستنزافها ، وفي مهاجمة لبنان رغم المفاوضات الجارية الآن حول السلام . في ظل هذه التوجهات الإسرائيلية المدروسة يبدو أن المغرب يشكل مرحلة ضمن هذه التوجهات القائمة على خطط معدة بعناية . وهذا ما يفترض التعامل مع هذا الموضوع بوضوح وشفافية لإطلاع الرأي العام وجميع المؤسسات القائمة على حقيقة ما يجري في هذا الصدد لكبح جماح أي انحراف يسيء إلى بلادنا وإلى القضايا العربية عامة . والواقع العنيد يجعل توضيح كاتب الدولة في الشؤون الخارجية الطيب الفاسي الفهري في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر التنمية الاقتصادية الإقليمية الذي احتضنته الرباط أيام 51 و 16 و 17 يونيو 1994 غير ذي موضوع ، رغم تأكيده أن " مباحثات مجموعة العمل المتعددة الأطراف جزء لا يتجزأ من المسيرة السلمية ، ولا بد من التأكيد على أن أي تطور إيجابي في المسار الثنائي سوف يمنح حظوظا أكبر لتحقيق تقدم مهم في العملية المتعددة الأطراف " ، وسوف تأتينا الشهور القادمة بالخبر اليقين لأن التصريحات تسبح في واد والتطبيقات في واد آخر كله شبهات . نص : الحسين عدي صاحبة الجلالة : أسبوعية النشرة العدد 34 / 3 يوليوز 1994