من كان يعبد الجابري فالجابري قد مات٬ ومن كان يؤمن بحق الأمازيغية في الحياة فإن الأمازيغية حية لا تموت.. يحق للعرب أن يفتخروا بالجابري و يكرموه أحسن تكريم لأنه خدم القومية العربية أكثر من معظم العرب أنفسهم .. ومن أجلها نفد عملية "استشهادية" فريدة من نوعها ونكران للذات قل نظيره وذلك بحبه للغة العربية أكثر من لغته .. وإحيائه لتراثها بقتل تراثه .. وبعثه أمجاد العرب باغتيال ذاكزة أمته .. وسعيه طوال حياته إلى إثبات كون أرض البربر أرضا عربية وكون ساكنتها عربا أقحاحا متحديا المنطق المعروف بأن الهوية تعطيها الأرض لا اللغة ولو كانت لغة الأنبياء .. واسألوا الأستاذ الكبير محمد بودهان إن كنتم لا تعلمون .. كنت أفكر أن أكتب على الجابري رحمه الله مباشرة بعد وفاته ولكن ترددت من باب "أذكروا أمواتكم بالخير" ولم أقرر الكتابة الآن إلا مدفوعا بإحساس داخلي لاسلطة لي فوقه خاصة عندما تذكرت قولة تودوروف القائلة بأنه " يبقى المرء غير مرتاح حين تكون المعارضة جديرة" .. فدعوة المرحوم إلى "إماتة اللهجات" لم تترك لي مجالا لذكر أمواتنا بالخير لكونها نسخة معدلة عن استعمال البعثيين للكيماوي ضد الإخوة الكرد و ترحيلهم لآلاف العائلات العربية إلى كركوك الكردية لتغيير التركيبة الديموغرافية فيها لصالح القومية العربية في محاولة خسيسة لتسميتها منطقة عربية كما هو الشأن بشمال إفريقيا الأمازيغية التي سموها "المغرب العربي " زورا و بهتانا .. فدعوته إلى إماتة الأمازيغية تدمير للأمازيغ حضاريا مع سبق الإصرار و الترصد مصداقا لقول محمود درويش " إن تدمير لغتي شكل من أشكال إبادتي حضاريا".. وقد اختلق الجابري بمعية القومجيين أمثاله من أجل ذلك الهدف "النبيل" جميع أشكال الكذب المحرمة دوليا في جميع الثقافات و الديانات.. وكونوا شبكات من أباطرة مهربي التعريب إلى أرض الوطن لارتكاب مجازر لغوية وثقافية بشعة ذهب ضحيتها مئات من المصطلحات الأمازيغية وتعرضت فيها الهوية الأمازيغية الأصيلة للنفي القسري تارة والإختياري تارة أخرى نتيجة عمليات غسل للدماغ لا تنتهي بغروب الشمس مما ساهم في بروز فئة من المغاربة المدمنة على مخدر التعصب ولا تكف عن النهل من منابع العنصرية التي لا تنضب .. وقد زين لهم الشيطان أعمالهم وكانت لهم في عفلق أسوة حسنة لمن كان يرجو التعريب إلى يوم القيامة .. .إلا أنه سرعان ما انقلب السحر على الساحر حين جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .. وذلك حين أحدث الملك الشاب ثورة في العقلية المغربية وحرك المياه الراكدة بتبنيه لبرنامج الحداثة و التحديث و القطيعة مع أساطير الأولين و الوهابية التي لا طائل وراءها لكونها خالية من أي بعد إنساني و تقصي الآخر وتخرب الديار .. وتوالت الإنجازات المنسجمة مع روح العصر بإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وهيئة الإنصاف و المصالحة ومدونة المرأة .. ولبناء مغرب يسع كل أبناءه دعى جلالته إلى تطبيق جهوية موسعة كالمجودة في الدول الديمقراطية العريقة على مبدأ "الوحدة في التنوع" .. ..وقد كان إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والقناة الأمازيغية إيذانا بخروج المغرب من قبضةأإخطبوط الأيديولوجية العروبية الجابرية و تأكيدا لمشروعية المطالب الأمازيغية وضربة قوية في صميم مشروع الجابري اللاإنساني و اللاوطني .. هكذا انهارت إيديولوجية القومية العربية تحت الضربات الموجعة للرغبة الجامحة للشعب في العيش الكريم محتفظا بلغته الأمازيغية التي واكبته فوق هذه الأرض مند قرون .. فقد سعى طوال حياته وسهر الليالي لكتابة كتب ومقالات مليئة بالأكاذيب حول قدرة اللغة العربية على جمع شمل العرب .. وأوهمهم أن لا قوة تستطيع أن تقف أمامهم و أن أمريكا و إسرائيل ليستا بالقوة التي يظنون لأن بيوتهم أوهن من بيت العنكبوت.. وجعل البسطاء من العرب يصدقون أكذوبة "الظهير البربري" التي اعتبرها الأستاذ محمد منيب "أكبر أكذوبة في التاريخ المغربي " .. وعلى خطى منظري القومية العربية يختلق الأكاذيب و يصدقها تصديقا متناسيا أن الكذب مذموم في جميع الثقافات و الأديان ..ومتجاهلا أن "حبل الكذب قصير" كما يقول المثل .. وقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لنكولن ببراعة حين قال "بإمكان المرء أن يكذب على كل الناس مرة واحدة، وبإمكانه أن يكذب على بعض الناس كل الأوقات ٬ ولكن لا يمكنه أن يكذب على كل الناس كل الأوقات" .. ما يؤاخذه عليه أبناء جلدته الأمازيغ كونه لم يستغل قدراته المعرفية في الدفاع عن الحقوق الأمازيغية المشروعة على أرض لم تكن يوما عربية .. وفي إقناع الأنظمة العربية باستحالة بناء دول ديمقراطية متقدمة بشمال إفريقيا بدون الاعتراف بالأمازيغية .. كما يعاب عليه في الأوساط المثقفة في العالم المتحضر تحويله للفلسفة عن أهدافها النبيلة في الدفاع عن الحرية و العدالة و المساواة و عن الإنسان كإنسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو لغته .. فلو كان يريد تخليد اسمه بين عظماء الفكر الإنساني لاستخدم قدراته الكتابية لتخليص الإنسان في الدول العربية من الجهل و الفقر و السجون التي تهان فيها كرامته كل يوم.. ولدعى إلى طاولات مستديرة لمناقشة الواقع اللغوي بالمنطقة ولشخص أسباب البطالة بصراحة و بدون تملق للدوائر الرسمية التي لم تنفعه في شيء اليوم عندما رمى القراء المتنورون و الإنسانية جمعا أفكاره في مزبلة التاريخ تماما كما تنبأ له به الأستاذ أحمد عصيد قبل عشر سنوات موجها له خطابه قائلا: " يقرأ الناس اليوم بابتسامة عريضة وببعض الشفقة آراء ساطع الحصري و ميشيل عفلق ويضعونها على الرف لتصبح نهبا للغبار و النسيان لأنها لم تكن أبدا مؤسسة لمستقبل حقيقي بسبب فقدانها للحس التاريخي وللموضوعية وأخشى، سيدي الدكتور٬ أن يكون مصير آرائكم السياسية هو نفس المصير وعندئذ لن يبقى في أيدي الناس من عطائكم الغزير إلا بعض كتاباتكم عن ابن رشد والمعتزلة " .. صفتا الكاتب و السياسي خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا .. وإذا ما التقيا فاقرؤوا صلاة الجنازة على إحداهما لكون الكتابة التزام شريف بخدمة الإنسانية في فضائها اللا محدود بينما السياسة –فن الكذب- خدمة لفئة قليلة من الناس في فضاء محدود جدا ..وبالنظر إلى استماتة الجابري في خدمة العروبة و إصراره على عدم التراجع عن قراره المزمن والمشؤوم ب"إماتة اللهجات" وتشدده على عدم تركه لهذا الأمر حتى تظهره الأنظمة العروبية أو يهلك دونه يبدو واضحا أنه لم يتخلص بعد من تركة سنوات التحزب العجاف وأن الصراع الدائر بداخله بين السياسي و الكاتب قد إنتهى بانتصار "الجابري السياسي" على" الجابري الكاتب" وهو ما يتضح في عدم اعتذار الجابري على كونه مخطيء حتى بعد أن تجاوز الناس خطابه الإقصاءي فتأكدت عليه قولة الصحفي الإنجليزي الشهير " الفرق بين الساسة و الكتاب هو أن الساسة يستمرون في الإصرار على أنهم على حق. أما الكتاب فهم مستعدون للاعتراف بأنهم كانوا على خطأ فضيع" ..فهل سيتدارك ورثة إيديولوجيته الموقف فيعتذروا للناس على على سنوات قلم "الرصاص" ؟! يبدو دلك عين الصواب لأنني لا أعرف كيف يستحق هذا النوع من الرجال التكريم والهالة الإعلامية المصاحبة له حيا أو ميتا عوض محاكمة مواقفه المنحازة جدا للقومجية على حساب أهل البلد الأصليين وتشديده لوطأة التهميش للأمازيغية بتأليبه للوبي القومجي عليها، ودوره الكبير في إطالة أمد اضطهاد المختلف وتشجيعه للميزالعنصري في المجتمع المغربي لكون جل مواقفه لا تخلو من أساطير فات زمانها .. و لبناءه جدارا عاليا لمنع تسرب رياح الديموقراطية و الحداثة إلى بلادنا ..هكذا فإن امتهان كرامة الإنسان وتدميره جسديا أو حضاريا مهما كان مرتكبها لا تسقط بالتقادم ولا تحول دون محاكمته ظلمة القبر .. فمفهوم "الأمة العربية" الدي بلوره القوميون والإسلاميون أيضا -لا يقل خطورة من مشروع إسرائيل الكبرى – غير أنه يبدو كأعجاز نخل خاوية غرستها ثلة من المسيحيين العرب كمشيل عفلق وقستنطين رزيق وسقاها الإسلاميون القرضاوي و حسن البنا بالقران و السنة واستظل بظلالها الجابري و حميش وبلادن و الظواهري ولما هبت رياح الديموقراطية أسقطت ذلك النخيل على رؤوسهم قبل قطاف ثمارها لأنها كانت تقف على أرض غير صلبة .. وهكذا تلاشت تلك الإيديولوجية المقيتة كخيط من الدخان بعد أن أزكمت رائحتها الأنوف لسنوات .. وقد شكل خطاب الحركة الأمازيغية العصري و المتسامح وتوجه ملك المغرب الحداثي والتقدمي دعوة أخيرة لجيوب المقاومة العروبية و الوهابية - المصرة على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء- للنزول من على بلدوزيراتهم العنصرية التي يهشمون بها جماجم لغات وثقافات الآخر المختلف٬ ليركبوا سفينة الديمقراطية وحقوق الإنسان بقيادة الملك الشاب التي تبدو (السفينة) وكأنها تسير إلى الأمام بدونهم وكل من تخلف عن اللحاق بها سيكونن من الخاسرين ولن تقبل منه شكاية .. وسيضل خطابه بعد ذلك " كمن يغني أغاني الأفراح في المآتم ".. وآخر دعوانا : " اللهم نعوذ بك من علم لا ينفع ومن أمة لا تقرأ.. و لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إلى صراط الديموقراطية المستقيم .. ولا تجعلنا كالعروبيين عقولهم في لغتهم .. ولا تجعل العربية أكبر همنا .. ولا تجعلنا من الذين يريدون تحويل المغرب إلى نسخة باهتة من دول الشرق العربي .. ولا تجعل مصيبتنا في هويتنا.. ولا تجعل ذريتنا أجسام المغاربة وعقول المشارقة .. لأنك على كل شيء قدير .. وبالإجابة جدير" ..