في الحقيقة أن القضية الصحراوية تعتبر من أعقد ما يواجه المنطقة المغاربية في العصر الحديث وحتى مستقبلا، لأن الموضوع حساس للغاية ومتشعب ومثير ومعقد ومرتبط بأجندات تتقاسمها أطراف كثيرة ومتعددة ومتناقضة في التصورات والأطروحات والنوايا، والغوص في أعماقها من دون وضع نقاط نظام قد يبعثر ما نقصده أو قد يتحول من رؤية شاملة وجامعة للحقيقة إلى فخ يتصيد له الكثيرون وبطرق قذرة أحيانا. 1- سأنطلق في حديثي من خلال مصطلحات أقرتها الأممالمتحدة حتى لا نحمّل ما لا طاقة لنا به، سنسمي الصحراء بالصحراء الغربية، ونذكر المخيمات على أنها مخيمات اللاجئين. وهذه المصطلحات يجب أن تبقى في إطارها الأممي وما يتعارف عليه بالشرعية الدولية التي ينادي بها أطراف النزاع. وهذه التسميات لن تخرج عن هذا الإطار المشار إليه. 2- الأمر المهم الذي وجب أن أؤكد عليه أنني لا أناصر أي أطروحة في ما يخص قضية الصحراء الغربية، فمحاضرتي ستتحدث عن واقع لا يخرج عن طابعه الحقوقي البحت وفي إطار المعاهدات الدولية التي وقع عليها أطراف النزاع، فأنا هنا لست من أنصار الحكم الذاتي الأول أو الموسع الذي يقدمه المغرب، ولا أنا من أنصار نزعة البوليساريو نحو ما تسميه تقرير المصير، ولا أنا أؤيد الموقف الجزائري الرسمي القاضي بميلاد دولة سادسة في المنطقة المغاربية. فحديثي سيكون منصبا على الجانب الحقوقي في إطار القانون الدولي وحقوق الإنسان ولا خلفية لدي ضد هذا أو ذاك كما قد يتوهم البعض. 3- أنا هنا كاتب وصحافي فقط ولست معارضا للنظام الجزائري كما تتناقل وسائل الإعلام، فعندما تكون إساءة هذه النظام فسأكشفها للعلن وإن أحسن فلا أتردد أبدا في الإشادة به. أقول ذلك لتوضيح أمر في غاية الأهمية، ويتعلق أساسا بالصورة النمطية التي صارت منتشرة وهي أن المعارض لا يبحث إلا عن المساوئ ولا يترصد إلا للعيوب ولا يتصيد إلا للمفرقعات، وهو الذي أفقده مصداقيته كثيرا في الأوساط الشعبية، وجعل جماهيرية المعارضات في العالم العربي والإسلامي مجرد ديكور إما يصنع أعراس السلطة والأنظمة، أو أنها مهمشة لا تقدر على جمع سكان حي على إتفاق مطالبة رؤساء البلديات بتحسين قنوات تصريف المياه القذرة... المعارضة لم أكن منها يوما ولا إنتميت لحزب ولا لجمعية ولا ترشحت ولا تطلعت لمنصب ولا ناصرت مرشحا مهما كان إنتماؤه، فلو أحسب عليها سيفقد كلامي مصداقيته في ظل هذه المعارضات الهشة التي صارت تبحث عن الأضواء ولو على حساب الحقيقة. كما قلت أنا كاتب وصحافي وحقوقي همّي إظهار الحقيقة ولو تكون في صالح الشيطان. 4- لقد تحدثت مرارا وتكرارا في شؤون الصحراء الغربية بناء على تجربتي في الجيش الوطني الشعبي أو من خلال تجربتي الإعلامية، أو حتى بحكم إحتكاكي مع صحراويين في المخيمات أو بعض رؤوس البوليساريو. وقد كشفت بعض الحقائق المذهلة التي لم يسبق لها غيري، فقد أملى ذلك واجبي المهني والإنساني وليس عمالة للمخزن أو المغرب أو أنني جنّدت من طرف فلان أو علان كما تزعم بعض الصحف الجزائرية أو المواقع الإلكترونية أو حتى بعض أقلام صحفيين محسوبين على البوليساريو. فقد عايشت مأساة بما تحمله الكلمة من معاني، بل قد تكون المأساة أقل ما يمكن أن توصف به. والصمت عنها هو جريمة لا تليق بمن رفع على كاهله مسؤولية النضال لأجل أن ينال الناس حقوقهم القانونية والإنسانية في هذه الحياة ودفع ثمن ذلك ما لا يمكن تخيله من تعذيب وسجون وزنازين تحت الأرض لا تتسلل لها خيوط الشمس أبدا. 5- لن أحمل المسؤولية لطرف واحد في هذه المأساة فالمغرب لديه مسؤولية جسيمة بصفته يتحمل ورسميا عبء السيادة على الصحراء الغربية، كما تتحمل الجزائر أيضا مسؤولية أخرى ثقيلة حول واقع المخيمات المأسوي بسبب تواجدها على التراب الجزائري. وأي خرق للقانون الدولي فالنظام الجزائري هو المسؤول بالرغم من تخليه عن إدارة المخيمات للبوليساريو وصارت تمارس الحكم الفعلي فيها، وهي طبعا منظمة غير معترف بها في الأممالمتحدة كدولة وإن كان قد أعترف بها كطرف في المفاوضات ومنحتها موضعا رسميا لديها. 6- من الناحية القانونية تبقى الجزائر والمغرب طرفا المسؤولية الجنائية عن أي خرق لحقوق الإنسان في الداخل وفي المخيمات، وتتفاوت درجة المسؤولية حسب مكان وإطار وطبيعة الجريمة المقترفة. أما البوليساريو أو ما يصطلح عليه في تعابيرها بالجمهورية الصحراوية فهي ليست طرفا في معاهدات ومواثيق حقوق الإنسان الدولية وإن كانت قد وقعت عدة إتفاقيات إقليمية لحقوق الإنسان بصفتها الممثلة لما تسميها "حكومة الجمهورية الصحراوية"، ونذكر الميثاق الإفريقي "بنجابي" لحقوق الإنسان والشعوب الذي أقرّ في 27/07/1981 ودخل حيز التنفيذ في 21/10/1986 وصادقت عليه البوليساريو في 29/11/1986. أيضا نجد الميثاق الإفريقي بشأن حقوق ورفاهية الطفل ووقعت عليه في 23/10/1992 ودخل حيز التنفيذ في 29/11/1999. كذلك البرتوكول الخاص بالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في إفريقيا الذي أقرته الدورة العادية الثانية لجمعية الإتحاد الإفريقي بالعاصمة الموزمبيقية مابوتو في 13/09/2000 ودخل حيز التنفيذ في 25/11/2005 ووقعت عليه البوليساريو في 20/06/2006. كما أرسلت أيضا إلى المجلس الفيدرالي السويسري إعلانا بتنفيذ إتفاقيات جنيف لعام 1949. كما وقعت أيضا على الإلتزام بموجب دعوة جنيف بالحظر الكامل على الألغام المضادة للأفراد والتعاون بمجال الألغام. فبالرغم مما ذكر إقليميا فإن البوليساريو لم توقع على أي ميثاق أو معاهدة دولية بصفتها المسؤول القانوني عنه في إطار دولة أو حتى منظمة معترف بها. ولهذا فمحاسبتها على خروقات حقوق الإنسان في المخيمات تتجه مباشرة نحو السلطات الجزائرية التي خولت لها هذه الصلاحية التي فيها مخالفات دستورية كثيرة، ومن بينها أن وجود قضاء وسجون وسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية وعسكرية خارج سلطة الدولة الجزائرية ووفق دستور وقوانين أجنبية هو سيادة على تراب الجزائر توازي سيادة الدولة ومؤسساتها الرسمية، وهو تخلي طوعي عن جزء من التراب لسيادة أخرى وهذا ما يخالف مواد الدستور الرسمي في البلاد وعلى رأسها المادة 13 التي جاء فيها: " لا يجوز ألبتة التّنازل أو التّخلّي عن أيّ جزء من التّراب الوطني". وإن كان التنازل صوري وشكلي وتكليفي فقط كما يجري في السجون لما يعين مساجين ويكلفون بإدارة القاعات والزنازين، أو كما جرى مع مخيمات الفلسطينيين في تبسة أو البيض حيث يوكل أمر التسيير المحلي لهم. وهو الأرجح وخاصة أن قيادة البوليساريو تعمل تحت وصاية النظام الحاكم في الجزائر كموظفين وليسوا أصحاب قرار مصيري كما يتردد في شعاراتهم، ففي هذه الحالة يجب أن تكون السلطات وفق القانون الجزائري وليس قانون ما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، ولا يسمح بتوقيف أو إعتقال أو معاقبة خارج أطر القضاء المحلي. 7- مهما إعترفت الدولة الجزائرية بالبوليساريو وأعطتها صلاحيات دولة على ترابها فإن ذلك لا يعفيها أبدا من الإنتهاكات الجسيمة التي ترتكب فيها بحق القانون الدولي الذي صادقت الجزائر على مواثيقه وبروتوكولاته ومعاهداته المختلفة. فالمسؤولية الجنائية تقع على عاتق الدولة الجزائرية ولا يمكن أن تتحملها البوليساريو بصفتها منظمة مسلحة مناهضة للسيادة المغربية على الصحراء الغربية والذي تسميه إحتلالا. فقد جرت إنتهاكات كبيرة وجسيمة لحقوق الإنسان من طرف الجماعات الإسلامية المسلحة حيث مارست التعذيب والقتل خارج أطر القانون وحطت من الكرامة الآدمية وقتلت الأسرى ونكلت بهم، فلا يعني ذلك أنها ستحاسب في إطار القانون الدولي بل هي جماعات إرهابية غير معترف بها أصلا. وهو ما ينطبق على منظمة البوليساريو وإن إختلفت الحيثيات والصورة بين المثالين. لأن هذه الأخيرة معترف بها في بعض الدول وغير مدرجة في لوائح الأممالمتحدة كمنظمة إرهابية. 8- مخيمات تندوف معترف بها قانونا أنها مخيمات لاجئين سواء كانوا مهجرين أو فارين من الحرب التي كانت أو أنهم سيقوا كرها إلى هذه المخيمات، وأنهم لاجئون بشكل جماعي وليسوا في وضعية ملتمسي اللجوء. والقانون الدولي الذي يطلق عليه أيضا قانون النزاعات المسلحة أو قانون الحرب واضح في هذا الأمر، حيث يصبوا إلى حماية الإنسان وحقوقه الأساسية في حالات الشدة القصوى التي تمثلها النزاعات المسلحة. فيحظر الاعتداء على المدنيين وأي شكل من أشكال التعذيب والمعاملة السيئة ويحظر اخذ الرهائن منهم وإصدار أحكام من دون محاكمة عادلة... الخ. ويتمتع اللاجئون بالحماية بناء على اتفاقيات جنيف وغيرها. وطبعا المغرب لا يعترف بهم كلاجئين بل يصفهم بالمحتجزين في مخيمات عسكرية ويشترط الحرص على ضمان الطابع المدني والإنساني السلمي، ويتهم الجزائر بمخالفته في هذه المخيمات، وهو الذي ترفضه البوليساريو والجزائر جملة وتفصيلا. 9- من الأمور التي وجب الإشارة إليها أن سكان المخيمات لحد اللحظة لم يعط أي رقم رسمي لهم يمكن الإعتماد عليه، بل قدمت أرقام متناقضة ومتباينة وتقديرية غير مؤسسة في أغلبها. فقد ذهبت البوليساريو إلى أن عددهم 158 ألف نسمة حسب ما نشرته جريدة الوطن الجزائرية الناطقة بالفرنسية في 06/02/2008. أما المفوضية السامية لشؤون اللاجئين فأعطت تقديرا في حدود 125 ألف. البرنامج العالمي للغذاء قدرهم ب 90 ألف نسمة بعد أن كان العدد هو 158 ألف. ورقم 90 ألف يتعلق باللاجئين الأكثر عرضة للضرر حسب هذا البرنامج العالمي. منظمة هيومن رايتس ووتش قدرتهم بزهاء 125 ألف نسمة .أما المغرب فيرى أن العدد مبالغ فيه ويطالب بتعداد السكان تعدادا نزيها وعادلا ومستقلا. ونرى نحن من الضروري وضع آلية دولية مستقلة متفق عليها لإحصاء سكان مخيمات تندوف، وعدم وجود أرقام رسمية وموثقة يفتح مجالات مختلفة للتجاوز والإنتهاك وحتى التصفية الجسدية من دون متابعة تذكر. المقال القادم: الإنتهاكات المغربية لحقوق الإنسان في الصحراء الغربية (17/05/2010)