لا تزال ظاهرة تشغيل الأطفال تثير قلق العديد من الفاعلين الاجتماعيين في المغرب. وتمس هذه الظاهرة أعدادا متزايدة من الأطفال سواء كانوا ذكورا أو إناثا وخصوصا في الأحياء الشعبية أو الهامشية وكذلك في البوادي . تستقطب العديد من الوحدات الإنتاجية المغربية الأطفال دون سن الخامسة عشرة، سعيا منها إلى الربح السريع وبأقل تكلفة. وأهم هذه الوحدات هيصناعة التعليب والقطاع الفلاحي والمهن اليدوية وكذلك البيوت التي تشغل الخادمات بأقل سعر وبدون أية حقوق أو ضمانات. ولا يكاد المرء يقوم بجولة في شوارع المدن الكبرى أو الصغرى بالمغرب حتى يفاجأ بقيام الأطفال بأعمال يدوية كثيرة ومتنوعة كالنجارة والحدادة، وكذلك البيع في المتاجر. ومحمد الطفل، ذو الاثني عشر ربيعا، لا يشكل استثناء في هذا المجال؛ فقد ترك فصول الدراسة منذ أربع سنوات والتحق بأحد الدكاكين بالعاصمة الاقتصادية، الدارالبيضاء، لمساعدة أبيه على توفير مصاريف أسرته المكونة من سبعة أفراد. ويشرح محمد نوعية عمله بالقول " أقوم بمساعدة صاحب الدكان على تلبية طلبات الزبائن، وأوصلها إلى منازلهم ". ولأن محمد لا يستطيع كبح رغباته الطفولية ، نراه يسارع إلى لعب كرة القدم مع أطفال الحي ؛ ما أن يقفل صاحب الدكان محله. وهناك قصص أخرى كثيرة تشبه قصة محمد. ففاطمة طفلة، في الرابعة عشرة من عمرها، حرمت هي الأخرى من العيش كباقي الأطفال؛ وعندما كانت في العاشرة من عمرها جلبها أبوها إلى مدينة الدارالبيضاء للعمل كخادمة لدى إحدى الأسر الميسورة مقابل 500 درهم، أي 50 يورو، في الشهر. وتقوم فاطمة بتحمل جميع أعباء المنزل، كما تتولى مهمة الاهتمام بالأطفال عند غياب الأبوين. لكن فاطمة تعتبر نفسها محظوظة حسب كلامها؛ وتضيف بالقول: "من حسن حظي أنني أعيش مع أسرة تحترمني، ولا تحرمني من الطعام، كما أنني أخرج معهم في وقت النزهة، بخلاف أختي التي تكبرني والتي تعمل لدى مشغلة توبخها وتضربها لأتفه الأسباب". وتشير أرقام مديرية الإحصاء بالمغرب لسنة 2006 إلى أن أكثر من نصف مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و 14 سنة، يعملون في مجالات مختلفة؛ وأن أكثر من نصف إجمالي العدد من الفتيات. فضلا عن الأطفال غير المصرح لهم بالشغل، ودون احتساب الأطفال الذي تقودهم ظروف الفقر إلى الدراسة والعمل في آن واحد. وتؤكد نفس الأرقام أن ثمانية وسبعين في المائة من الأطفال الذين يضطرون إلى الشغل هم من أصول قروية. ويرى الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري، الذي يهتم بموضوع تشغيل الأطفال، أن الحكم على الظاهرة بالتقلص أو الارتفاع فيه نوع من الاختزال العلمي نظرا للسرية التي تحيط بها. إذ تحجب، هذه السرية، إمكانية الحصول على أرقام دقيقة تعبر عن حجم الظاهرة. ويوضح العطري بأن الملاحظة العينية تؤكد أن الهاجس السوسيو اقتصادي هو السبب الرئيسي وراء انتشار تشغيل الأطفال. ويضيف العطري، في حوار مع دويتشه فيله، بالقول " عندما نتأمل ملامح هؤلاء الأطفال يبدو جليا أنهم قادمون من أوساط فقيرة، لكن هذا ليس السبب الوحيد". فهناك ما يسمى ب " الاستثمار في الفقر أو العاهة الاجتماعية، فثمة عائلات تستثمر في أبنائها وتعتبرهم مصدرا للحصول على عائدات مالية ". ويرجع العطري ذلك إلى أن إنجاب الأطفال لدى الأسر العربية مرتبط بسياق نفسي واجتماعي؛ إذ ترى العائلة في الطفل سندا يساعدها على تدبر مصاريف الحياة. ولا تبتعد نجاة أنور، رئيسة جمعية تهتم بالأطفال، كثيرا عن هذا الطرح؛ فهي تؤكد بدورها على أن العوز والافتقار إلى وعي أسري يدفع بعض الآباء إلى تشغيل أبنائهم. وتضيف أنور بأن غياب التشريعات والقوانين، يجعل الأطفال عرضة للتشغيل والتسول وأحيانا للاستغلال الجنسي؛ لاسيما مع التحولات السوسيولوجية التي عرفها المجتمع المغربي وخصوصا لدى الأسر المدينية التي تعرف نوعا من التفكك الراجع إلى خروج الزوجين معا إلى سوق العمل. وتشير المادة 143 من مدونة الشغل المغربية إلى أن تشغيل حدث دون سن الخامسة عشرة، ينتهي بالمشغل إلى دفع غرامة مالية. ويمكن أن تصير العقوبة سجنا نافذا من ثلاثة إلى ستة أشهر إذا تكرر الأمر مع غرامة مضاعفة. لكن الناشطة الاجتماعية نجاة أنور ترى أن العقوبات مخففة جدا بالشكل الذي يبيح لمستغلي الأطفال أن لا يمتثلوا لأي قانون. ويوافقها الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري الرأي ويقول إن القانون غير قادر على تنظيم الظاهرة والحد منها أو ضبطها. ويوضح العطري بهذا الصدد قائلا "كيف يتأتى لمفتش الشغل تفتيش الدور التي تشغل الأطفال، وهل بمقدوره أن يدخل أي منزل ويسأل عن سن الطفل المشغل؟". وفي حديث لدوتشيه فيله تؤكد نجاة أنور على أن عمل الأطفال غير مقبول أخلاقيا وقانونيا وإنسانيا. وتستطرد قائلة "وضع الأطفال في دول العالم الثالث مثل المغرب أخذ طبيعة مغايرة". فالطفولة في المغرب تحتل " حيزا كبيرا في مجال الشغل نظرا لتكلفتها الضئيلة، كما تأخذ وتيرة متفاوتة ما بين المدن والبوادي". وتفسر أنور ذلك بأن طفولة البوادي يتميز شغلها بأعمال ذات طبيعة شاقة في غالب الأحيان وترتبط في معظمها بالمجال الفلاحي وبتكلفة تكون في غاية الضآلة؛ في حين أن طفولة المدن تستغل في المجال الصناعي والحرفي وغيرها من المهن التي لا توفر الحد الأدنى من الأجر والسلامة والوقاية البدنية. وتشغيل الأطفال هو كل شكل من أشكال النشاط الاقتصادي الذي يمس بكرامة الطفل ويضرّ بنموه الطبيعي والجسدي والنفسي. وفي هذا الصدد تؤكد نجاة أنور أن عمل الأطفال يعرضهم للأذى الصحي والنفسي، والعنف اللفظي والبدني، وأحياناً للتحرّش الجنسي والاغتصاب. لهذا فالجمعيات المغربية تقوم بحملات توعية موجهة لعائلات الأطفال في المدن والقرى لشرح أخطار التشغيل المبكر على أطفالهم. إلا أن هذه الجهود المتواضعة، حسب نجاة، لم تعط النتائج المرجوة لأن الظاهرة عرفت اتساعا. وتضيف أنور بهذا الصدد بأن " التعاون المشترك بين الحكومة ومنظمات الطفولة لم يرق إلى مستوى الشراكة الحقيقية التي توفر إمكانيات مادية ولوجستية وإعلامية من شأنها أن تجعل الجمعيات تنهض بمهامها وتحقق أهدافها ". ويرى الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري أن تحقيق العدالة الاجتماعية في المغرب يقتضي التخلص من آفة تشغيل الأطفال، وذلك بدراسة أسبابها وإصلاح الخلل وإعادة الاعتبار لهذه الأسر التي يفرض عليها قسرا أن تقود أبناءها إلى أبواب المشغلين. وتشير نجاة أنور، في الوقت نفسه، إلى ضرورة إحداث برنامج يشجّع على تعليم الأطفال، وتوفير مشاريع مدرّة للأسر المعوزة؛ علاوة على حملة توعية واسعة في مختلف وسائل الإعلام للتعريف بمخاطر الظاهرة وبشاعتها. المصدر : دويتشه فيله