1 كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف ليلا عندما اجتمع القوم ببيت المدرس القروي الجديد. رحب بهم في بيته، والأصح غرفته الوحيدة، واقترح عليهم الشاي الأخضر بالنعناع كما يستوجب حسن الضيافة في المجتمع المغربي الأصيل. جلس الناس من حوله وعلامات الشوق، إلى درس اليوم، واضحة على وجوههم البشوشة رغم التجاعيد التي شقتها بعمق حياتهم البئيسة. بعد شرب الشاي تناول المدرس الكلمة التي ابتدأها بالبسملة والحمدلة كما هي عادة أصحاب الاتجاه الأصولي، ثم قال: * أيها الإخوة درسنا اليوم في العقيدة حول التقوى .. و شرع في شرح مفهوم التقوى مستندا ثارة إلى الآيات القرآنية وأخرى إلى الأحاديث وثالثة إلى قصص الصحابة وحياتهم ولم يفته الحديث عن سيد قطب وحياته وأفكاره. وأكد لهم فيما أكد أنه لا تغيير بدون إيمان وعقيدة قوية لا يشوبها شيء لأنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. واشتشهد لهم بقول محمد قطب من كون الشجاعة قد تطير مع أول طلقة إن كانت مبنية على الحماس دون الإيمان العميق، وبأنه لا قدرة لمخلوق على آخر إلا بما قدّر الله لذك الخوف يكون منه سبحانه وتعالى لا من خلقه، وأنّ الشهداء ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.. وتابع شرحه والقوم ينصتون إليه باهتمام وشغف، حتى ختم درسه بالدعاء. ساعتها فقط نظر إليهم بعين القائد التنظيمي ونطق: - أيها الإخوة لا بد لكم من مقاومة شيخ القبيلة لاسترجاع ما نهب من خير أراضيكم، شرط أن تقفوا وقفة رجل واحد. فأنتم اليوم قد جمع بينكم الإسلام بعدما كانت تجمع بينكم المصالح والجورة فقط. إنكم إخوة في الله وهذا أقوى رباط يمكن أن يربط الناس في المجتمع إن رغبوا في التغيير فما قولكم؟ ردّ عليه أحدهم بأنّ الأمر صعب لكون شيخ القبيلة الجديد، على خلاف من سبقه في المشيخة، واحد منهم وأبوه شهيد الظلم وأنّ الأراضي المسلوبة، ظلما، والتي بحوزته اليوم إنما قد ورثتها زوجته عن أبيها ولا دخل له بها. كما أنه كان فيما مضى قائدهم في معركتهم ضد الحاج وأعوانه. لذلك يعز عليهم الدخول في صراع معه وإن كان قد خان العهد واصطف إلى جانب المحظوظين. بالرغم من أنّ كلامهم أثار غضبه إلا أنه تمالك نفسه وأرغمها على ابتسامة عذبة كالتي يواجه بها الأب أبناءه المغفلين وقال: * عظيم أنكم تحترمون التاريخ وتحافظون على العادات والتقاليد، لكن لماذا لا تسألون أنفسكم: أ من الحكمة أن تكون الأخلاق الحميدة من جانب واحد فقط؟ فرد عليه الجمع متسائلين: * ماذا تقصد؟ فكان رده: * أقصد الله سبحانه وتعالى، وأقصد توعيتكم بأنّ هذا الذي تسمونه بابن الشهيد إنما هو انتهازي ووصولي استغلكم وآباءكم ليصل إلى هدفه وعند بلوغه مراده تخلى عنكم وخان قضيتكم. وتابع كلامه شارحا لهم أنه لا يجب الإلتفات إلى تاريخ ابن الشهيد بقدر ما يجب التمعن والتفحص في حاضره المليء بالخيانة اتجاه القرية وأهلها. كما ذكرهم بأنه كان من الممكن جدا أن ينجحوا في مقاومتهم للحاج لولا تخاذله وبيعه لآخرته بدنياه. وأكّد لهم أن الله لا يحب الخانعين وأنّ الدفاع عن الحقوق المشروعة هو درجة من الإيمان بالله من تركه فقد فرط في جزء مهم من إيمانه به تعالى.. وقع كلامه منهم موقعا حسنا، لكن غياب الجرأة لديهم جعلهم في حيرة من أمرهم. و لاحظ المدرس ترددهم، فبادرهم بقوله: * ما بكم تترددون وناقض العهد هو لا أنتم؟.. أيها الإخوة إنّ ذاك الذي تعتبرونه واحدا منكم خارج عن الجماعة، فأنتم قد أنعم الله تعالى عليكم بنعمة الإيمان وهداكم للصراط المستقيم بينما هو يعيش في ظلال وجاهلية.. وتابع خطابه الاستقطابي حيث شرح لهم أنّه لا يجب أن يعتبروا أخا من كان خارجا عن جماعتهم المسلمة، وأنّه يجب عليهم أن يكونوا في جماعتهم بنيانا مرصوصا لبعضهم البعض.. وأنه من الواجب عليهم نبذ كل من لا يتبع طريق الجماعة، لأنها هي الإسلام الحق والباقي خروجا عن السنة والكتاب، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، أوصى بالجماعة: "..إنما الذئب يأكل من الغنم القاصية".. واستطاع إقناعهم بأنهم الجيل المسلم الجديد الذي سيحيي الإسلام اجتماعيا وإقتصاديا وسياسيا.. وأنّ الله قد اصطفاهم لإحياء شريعته في الأرض بإقامتهم للخلافة الإسلامية من جديد.. خرج الجمع من بيت المدرس الجديد ليلتها مشحونا بأفكار التكافل الاجتماعي والإقتصاد الإسلامي وعدالة العمرين.. مما جعلهم مصممين على مقاومة المرتد ابن الشهيد. 2 بعد صلاة الجمعة خرج أهل القرية، متوجهين نحو بيت شيخ قبيلتهم، في تظاهرة مطالبين بأراضيهم التي انتزعت منهم من غير حق مرددين شعارات دلت على اتجاههم السياسي. وقف أعوان الشيخ أمام مدخل البيت مشكلين خلايا ومن ورائهم قائدهم الذي ما إن رأى جماهير الفلاحين يقتربون حتى أصدر أوامره بالتسكير من وسط والاستعداد للتحرك.. على بعد بضع عشرات الأمتار توقف المتظاهرون مرتبكين بين الكر والفر، لكن صوت المدرس، الذي أدرك ارتباكهم نتيجة عدم خبرتهم بالميدان، ارتفع بنشيد حماسي سرعان ما تداولته الحناجر بفتور، الواحدة تلو الأخرى، ثم تلاحمت واشتدت فدوت كالرعد في ليلة ممطرة.. انفتح باب البيت وظهر الشيخ الجديد على عتبته مبتسما وكأن هذه الجماهير حضرت لتهتف بحايته لا لتطالبه بحقها. رفع يده للسماء فتلاشات أصوات تلك الحناجر المدوية من هنيهة كصدى حملته الريح بعيدا عن القرية. تقدم الشيخ نحو الفلاحين وبعد التحية خاطبهم: - يا جماعة ما هكذا يكون الحوار.. ارتفع صوت صارخا: - عن أي حوار تتحدث؟ رغم أن الشيخ عرف صاحب الصوت إلا أنه تجاهله واستمر في كلامه: - أنا ابن القرية مثلكم وأبي شهيد وأنتم تحقون ذلك.. والله شهيد علي بأنني أود مساعدتكم، لكن ما باليد حيلة.. فالأرض أرض صاحبتها.. هنا قاطعه أحدهم: - إنها زوجتك.. - نعم.. هي كذلك.. لكن لا حق لي في مالها وأرضها.. هذه أحكام الشريعة يا مسلمون.. وحدّوا الله.. ردّ عليه أحدهم: - تتذكر الله حين يكون الأمر في صالحك وتنساه عندما يتعلق الأمر بإنصافنا.. - يا جماعة.. ما هكذا.. إن الأمر ليس كما تعتقدون.. لا الشريعة ولا القانون يمنحاني حق التصرف فيما ليس ملكا لي.. - لكنهما يمنحاك الحق في استغلال غلة أرضنا.. حاول إقناعهم بأن لا ذنب لزوجته، فهي لم تأخذ منهم مترا ولا شبرا، وأن كل ما لديها هو حق لها بالوراثة والقانون يحميها وملكيتها، لكن أهل القرية لم يتأثروا بكلامه وتشبثوا بحقهم في استرجاع ما سلب منهم. وانتهت المعركة الأولى دون نتيجة تذكر. ليلتها اجتمعوا مرة أخرى ببيت المدرس الجديد لاستشارته في الخطوة التالية مع شيخ القبيلة. وبعد مداولات ونقاش ساخن استقر الجمع على قرار موحد من وحي المدرس الجديد. تلخصت فكرته في الإعلان عن تظاهرة سلمية تتزامن وموعد المعرض الدولي للمنتوجات والآليات الزراعية لإحراج الشيخ أمام الضيوف الأجانب والسلطات فيضطر لإرجاع الأراضي لأصحابها. هكذا وبسذاجة الأطفال ودعوا بعضهم البعض وقلوبهم كلها حماس وأمل في نجاح ما عزموا عليه. 3 كان يوما حارا وكأنه ينذر أهل القرية، الذين توجهوا نحو المدينة، بمعركة دامية تنتظرهم. عند وصولهم مكان المعرض لاحظوا حركة غير عادية لم يستطيعوا تحديدها، لكن مفعولها سرى في أطراف بعضهم فارتجفت راجية العودة إلى من حيث أتو. وانتبه البعض الآخر لما يجري داخل صفوفهم فشد على أيدي بني قريته المترددين وزحزحهم من مكانهم ليتحركوا جسما واحدا كفرقة مشاة للإمبراطورية الرومانية. وبعد أن دبت السكينة في قلوبهم ارتفعت أصواتهم بالأناشيد والشعارات المطلبية منددين بخيانة الشيخ الجديد، ابن شهيدهم، واغتصابه لحقهم في استرجاع أراضيهم. التف الجمهور حولهم متسائلين عما يجري، فجاءت الخطبة التي ألقاها المدرس في الحضور جوابا على استفهامهم. وما هي إلا دقائق حتى وصلت شاحنات وأجهضت هراوات آلية تتحرك بأوامر جهاز تحكم خفي. أسفرت المعركة عن ضحايا تراوح عددهم بين ما هو رسمي وما أعلن عنه أهل القرية وأبحرت الساحة، الشاهد الوحيد عن عدد الضحايا الحقيقي، في صمت رهيب من هول ما رأت. في الليلة التالية، تحركت بعض الأشباح في حلكة ظلامها الدامس تتحسس طريقها نحو بيت المدرس. لم يفتح من أول طرقة الباب وانتظر ثانية وثالثة، هذه هي كلمة السر بين أعضاء الجماعة، ثم فتح بسرعة فاندست الأشباح كالتعابين في الجحور. - خير.. ما الذي أتى بكم الليلة.. إنها مجازفة منكم.. ردّ أحدهم، وكان أكثرهم جرأة، بالقول أنه لا بد من متابعة المواجهة ما دام الأمر وصل بشيخ القبيلة إلى هذه الدرجة، وأنّ عليهم هذه المرة الاستعداد التام لأي عنف قد يأتي من رجاله. عندها فهم أنّه آن الأوان لإنجاز المهمة التي من أجلها قدم إلى قريتهم. تفحصهم لحظة كأنه يريد التأكد من أنهم فعلا جاهزين لما سيعرض عليهم، ثم طلب منهم مغادرة بيته على أن يلتقوا بعد يومين في الجبل بعد صلاة الفجر دون الإفصاح لهم عن الهدف. في الجبل ألقى عليهم خطبة قصيرة استهلها بالآية التي تقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم.."، ثم شرح لهم الآية كما يفهمها هو وبيّن لهم أنه لمواجهة الشيخ لا بدّ من لياقة بدنية جيدة والتمرن على أساسيات الدفاع عن النفس. وبعد أول حصة لهم اتفقوا على متابعة التداريب كل سبت وأحد بعد صلاة الفجر. هكذا دخل أهل القرية في تنظيم سري دون علم لهم بذلك. 4 كان الوقت صباحا عندما اجتمع الشيخ الجديد، ابن الشهيد والمناضل السابق، بأعوانه في مكتبه. كان يرتدي جلبابا أبيض من فوقه برنس بنيّ اللون وعلى رأسه عمامة صفراء ملفوفة على الطريقة الجبلية. جلس هو على مكتبه بينما جلس أعوانه على الكراسي الموجودة بالمكتب. نظر إليهم بحزم، ثم توجه إليهم: - أريدكم أن تأتوني بمعلومات عن المدرس الجديد: أصله وفصله.. أريد أن أعرف ما بأمعائه وعدد شعرات رأسه، مفهوم؟ ردّ عليه الجميع بالسمع والطاعة. بعد انصرافهم لتنفيذ المأمورية كل في اتجاه، فكر قليلا ثم مدّ يده لهاتفه وضرب رقما سرعان ما ردّ عليه: - آلو.. الحاج.. مرحبا.. يا مرحبا.. اشتقت لك يا أخي.. لا والله، أنت دائما في بالي.. إنما هي متاعب الحياة.. عيب يا رجل نحن إخوة.. نعم..؟ وصلك الخبر إذا!.. لا.. لا تخف علي.. مجموعة صعاليك بقيادة مدرس لن يستطيعوا لي سبيلا.. واصل مكالمته مع الصوت الآتي من هناك في ودّكبيروعندما سنحت الفرصة طلب منه أن يساعده في جمع المعلومات عن المدرس الجديد. في المساء حضر أعوانه وأخبروه بأن المدرس كان يشتغل في مدرسة مرموقة بعاصمة الإقليم، وأنه قد اشتهر بكفاءته وإخلاصه لعمله وأن مدير المدرسة كان راضيا عنه، لكنه فجأة ومن دون سبب واضح طلب انتقاله إلى قريتهم معللا طلبه بكون المدرس القديم قد أحيل على المعاش وأن أغلبية المدرسين رافضين لتعينهم بالقرية وأنه يعز عليه أن يضيع أبناء الفلاحين بسبب عدم توفر مدرس يعلمهم. لم يعلق الشيخ بل ولم يعر تقريرهم أي اهتمام وكأنه معهم بجسده لا بفكره،وبعد هنيهة شكرهم على مجهودهم وطلب منهم الانصراف بينما بقي هو في مكتبه مركزا نظره على جهاز التلفون. فجأة رنّ التلفون فنطّ من مكانه إلى السماعة: - نعم..أخبرني عن ابن الكلب.. فأخبره الصوت الآتي من هناك بأن المدرس ليس بالرجل السهل وأنه ينتمي إلى تنظيم سري محظور وأنّ انتقاله من المدينة إلى قريتهم ليس من باب الصدفة بل مهمة كلف بها من قيادة تنظيمه. لكن الأمر ليس خطيرا وعسيرا كما قد يتوهم لأن المدرس رجل طموح وأنه إذا عرف كيف يستغل طموحه جلبه إلى صفه. 5 كانت المفاجأة قوية عندما فتح المدرس باب بيته ليكتشف أن الطارق هو شيخ القبيلة. وقف حائرا على عتبة بابه لا يدري ما يفعله إلى أن خلصه من ارتباكه الشيخ بابتسامته وتحيته. ردّ التحية وأفسح له الطريق للدخول. قدّم الشاي للشيخ وجلس أمامه ينتظر إفصاحه عن لغز زيارته له. هنا كانت المفاجأة الثانية إذ الشيخ أتاه ليعرض عليه الترشيح في انتخابات الجماعة القروية لا ليهدده كما توقع. حاول في البداية رفض العرض، لكن الشيخ بذهائه عرف كيف يقنعه بقبول الترشيح. وفي صباح اليوم التالي اجتمع المدرس بأهل القرية وبعد سجال أقنعهم أن في ترشيحه فرصة للدفاع عن استرجاع أراضيهم بطريقة سلمية ومشروعة ستجنبهم التعرض لبطش أعوان الشيخ. هنا عرفوا مرارة الخيانة للمرة الثانية، بعد أن خانهم ابن الشهيد الشيخ الحالي، إذ ما إن نجح في الانتخابات وحصل على مقعد بالجماعة القروية حتى بات يعلل تخاذله باحترام القانون وما شابه ذلك من تعليلات واهية. حاولوا مرارا تذكيره بخطبه ودروسه، لكن دون جدوى. ففي كل مرة كان يتستر وراء المشروعية واحترام القانون. بعد هذه الخيانة الثانية التي حلت بهم على يد المدرس المؤمن الورع عزف أهل القرية عن النضال والمناضلين ونذروا الصمت على أنفسهم لأجل غير محدد.. ربما قد تكون هذه فترة نقاهة ومراجعة الذات، وربما قد تكون نار الخيبة التي أفقدتهم الثقة بالنضال والمناضلين.. فلا أحد يعلم سر صمتهم هذا رغم أن الكثيرين يحاولون تأويله كل حسب ما تشتهيه نفسه.. لكن الشيء المؤكد هو أن البركان مجبول على الحركة من تحت لفوق ومهما خمد لا بد له من الاستيقاظ.