لا يكاد يخبو لهيب قضية ما، يسيل حولها مداد غزير وتبح لها حناجر عديدة في لبنان، حتى تطفو على السطح قضية أخرى لا تقل عنها حساسية تثير من الغبار الشيء الكثير، مما جعل البلد يعيش على إيقاع سجالات متواصلة، واتهامات واتهامات مضادة تطاول عددا من الأحزاب والتيارات والهيئات والأفراد بل وتمس أيضا أعلى مركز في هرم السلطة السياسية. فلم تكد تجف دماء ضحايا اشتباكات برج أبي حيدر (ضواحي بيروت)، ولم يكد يجف المداد الذي سال على صفحات الجرائد مبررا أو معللا أو مخونا أو متشفيا، ولم تكد تهمد، ولو إلى حين، قضية تجريد بيروت من السلاح، وتتراجع أصداؤها إلى الصفحات الداخلية للجرائد اللبنانية بعدما احتد حولها النقاش لأيام، حتى برزت قضايا أخرى أثارت الأقاويل الكثيرة، والأخذ والرد، والشد والجذب، بين أطراف متباينة في المشهدين السياسي والإعلامي بلبنان. ولعل آخر المواضيع، التي أثارت الجدل الواسع، واعتبرتها جريدة (السفير) "قنبلة من العيار الثقيل"، هي تبرئة رئيس الوزراء سعد الحريري لسورية من دم والده رفيق الحريري واعتذاره، في تصريح لجريدة (الشرق الأوسط) نشرته يوم الاثنين المنصرم، عن الخطأ الجسيم المتمثل في توجيه أصابع الاتهام سابقا لدمشق، والذي ساهم في صنعه "شهود الزور" حسب تعبيره. وهو اعتذار اعتبر الرئيس السابق العماد إميل لحود، في بيان أصدره مكتبه الإعلامي أول أمس الأربعاء، أنه "يجب أن يترافق مع اعتذار من الدولة اللبنانية والشعب اللبناني اللذين تم أسرهما سنين طويلة في حالة من الانقسام الحاد وسجن الأبرياء وضرب الكيان والميثاق والقضاء، بصورة مبرمجة غير عفوية". وأشار لحود، في هذا البيان الذي عممته الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام، إلى أن "هذه العبرة يجب أن تعمم فائدتها كي لا تتكرر مثل هذه الأخطاء الجسيمة في التقويم والتهور والاتهام السياسي داخل البيت اللبناني الواحد وتبرئة العدو الإسرائيلي". وفي هذا السياق، صبت تحليلات عدد من الصحف في اتجاه فهم تبرئة رئيس الوزراء اللبناني سورية في قضية اغتيال رفيق الحريري داخل سياق الدفء الذي تعرفه العلاقات السورية السعودية، والتي توجت بزيارة مشتركة للرئيس السوري وللعاهل السعودي إلى لبنان يوم 30 يوليوز، والدفء المماثل الذي تعرفه العلاقات اللبنانية السورية، والتي توجت ب`"السحور الدمشقي" الذي حضره سعد الحريري بدعوة من الرئيس بشار الأسد ليلة 29 غشت المنصرم. كما تعرف الساحة اللبنانية هذه الأيام، وعلى عادتها، مبارزة كلامية حامية أخرى بطلها هذه المرة العماد المتقاعد ميشيل عون، رئيس التيار الوطني الحر ورئيس تكتل التغيير والإصلاح الذي دعا إلى استقالة وزراء الداخلية والدفاع والعدل والإعلام ملوحا بإمكانية إسقاط الحكومة، ومتسائلا "أين أموال الدولة .. أين رئيس الجمهورية ? (...)". ورد الرئيس ميشيل سليمان على عون دون تسميته قائلا "على كل من يتعاطى الشأن العام أو السياسي، وأتيح له منبر إعلامي أن يبتعد عن كيل الاتهام وإلقاء اللوم على الآخرين، والتعالي عن الأنانية، والمصلحة الخاصة في النظر إلى الأمور، واعتماد الخطاب الهادئ والمتزن والبناء والاقتراحات المفيدة". وفي هذا الإطار، أكد عضو "كتلة القرار الحر"، النائب سيرج طورسركيسيان، في حديث لمجلتي (الأسبوع العربي) و(ماغازين)، رفضه "القنص" على رئاسة الجمهورية، قائلا "نحن مع رئاسة الجمهورية وزيادة صلاحياتها، وكان يفترض بالجنرال عون أن يكون أحد المطالبين الأساسيين بحقوق الرئاسة". وفسرت جريدة (الديار)، في عددها الصادر أمس الخميس، أسباب الهجوم غير المسبوق للعماد عون على رؤوس رسمية كبيرة في الدولة، وعلى رئاسة الجمهورية للمرة الأولى، إضافة إلى وزارتين سياديتين، بكون الوقائع التي رافقت التحقيق مع العميد فايز كرم القيادي في التيار الوطني الحر والموقوف بتهمة التجسس لصالح إسرائيل أخذت مسارا مختلفا عبر طرح أسئلة عن مدى معرفة العماد عون بالعلاقات التي نسجها كرم مع الإسرئيليين. وأضافت (الديار) أن الجنرال عون "أدرك أن الأمور تأخذ مسارات أخرى تريد النيل منه شخصياً ومن تياره السياسي، عندها قرر فتح النار بطريقة غير مسبوقة"، مشيرة إلى أنه "ما زاد في قناعة شكوك العماد عون هو التسريبات المنظمة التي كانت تستبق أو ترافق التحقيق". ثالث هذه المعارك حامية الوطيس، وليس آخرها، إدلاء النائب سامي الجميل (ابن الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل) بتصريحات جاء فيها "لسنا خجولين من دعم إسرائيل لنا في مرحلة سابقة، فالمهم دعم لبنان". فقد تعالت الأصوات مطالبة برفع الحصانة البرلمانية عنه تمهيدا لملاحقته قضائيا "بتهمة الترويج للعمالة مع العدو الصهيوني، والسعي إلى خلق البيئة الحاضنة للعملاء باعتبار ذلك جرما جزائيا يعاقب عليه القانون ومخالف للدستور والميثاق الوطني" كما قال لقاء الأحزاب والشخصيات الوطنية والإسلامية اللبنانية، في بيان له أول أمس. ورأى اللقاء أن "ما أدلى به النائب سامي الجميل من إقرار واعتراف بتعامل حزب الكتائب مع العدو الصهيوني، والمفاخرة بذلك أمر خطير"، مشيرا إلى أن "هذا الإقرار يأتي في وقت يجري فيه اكتشاف الكثير من شبكات العملاء واعتقالهم حيث أظهرت التحقيقات معهم حجم الجرائم التي ارتكبوها في حق لبنان واللبنانيين لمصلحة الكيان الصهيوني". وردا على هذه الحملة، وصف سامي الجميل، في مؤتمر صحافي عقده في دارة الجميل ببكفيا، منتقديه "بالأوركسترا المكونة من شخصيات وأسماء من أيام الزمن السوري". وقال الجميل "إن الكتائب والمقاومة اللبنانية حملت السلاح عندما تلكأت الدولة عن القيام بواجباتها، وكانت هناك محاولة فرض مشروع الوطن البديل للفلسطينيين في لبنان، ولن نخجل بأننا دافعنا عن أنفسنا بكل الوسائل المتاحة عندما كان السكين على رقابنا". وأضاف سامي الجميل، منسق اللجنة المركزية في حزب الكتائب، قوله "إذا أرادوا فتح تاريخ تلك المرحلة فليفتح كله، والمحاسبة تبدأ بعد عام 1990 وليس خلال الحرب اللبنانية". هذه النماذج الثلاث غيض من فيض عن المنازعات الكلامية القوية التي لا يزيدها إلا تأجيجا مقال أسبوعي في جريدة (الأخبار) يوقعه كل سبت أسعد أبو خليل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، والذي يلقب نفسه في موقعه الإلكتروني ب(عربي غاضب)، وينشر عبره مواقفه غير المهادنة التي تثير حنق عدد كبير من أصحاب القرار ورجال السياسة وغيرهم في لبنان.