بعد طول ترقب وانتظار، جاء دور الحاجة الحمداوية لتعانق جمهورها بمنطقة الرحامنة الذي تحظى لديه بشعبية خاصة وحب كبير تجلى منذ الوهلة الأولى لظهورها على خشبة مهرجان أوتار ، بالهتاف وحرارة الاستقبال لتشكل بحضورها اللافت ، مسك الختام في ليلة الأحد آخر ليالي مهرجان أوتار ربيع الحوز الثقافي بمدينة ابن جرير. و بطيبوبتها المعهودة وعنادها العصي عن الزمن بصموده في وجه تعاقب الأيام والأعوام ، أطلقت الحمداوية العنان لمخزون دفين من طاقتها لتتحف عشرات الآلاف من الجماهير بأغانيها التي لازالت تحرك وجدان الشغوفين بفنها من الكبار قبل أن تلهب حماس اليافعين والصغار. وتعتبر الحاجة الحمداوية التي أثارت حفيظة المستعمر الفرنسي عندما غنت عيطتها الساخرة " وايلي آشيباني " في مطلع الخمسينيات ، عن ابن عرفة كسلطان بديل مرفوض للمغفور له محمد الخامس الملك الشرعي للبلاد ، ذاكرة تراثية حية ، لكونها عاصرت جيلا كاملا من رواد الحركة الوطنية في الكفاح والثقافة والسياسة والفن. وفي هذا السياق خبرت في وقت مبكر من حياتها روح الكفاح الوطني وعايشت فنانين كبار اختاروا النضال على الساحة الفنية عندما التحقت بمجموعة البشير العلج المسرحية ثم المجموعة الموسيقية العصرية للفنان المعطي البيضاوي، لتنضم فيما بعد الى مجموعة سليم الهلالي قصد أداء فن المرساوي باعتباره أحد الألوان الشعبية المفضلة لدى الجمهور البيضاوي. وبعد المضايقات الاستعمارية آنذاك هاجرت الى فرنسا للعمل هناك بمساعدة أحد الوطنيين المغاربة في باريس حيث شكلت هذه الفترة نقلة نوعية في مسارها الفني إذ صادفت فنانين مغاربة يقيمون هناك من بينهم أحمد جبران ومحمد فويتح مما ساعدها على نسج علاقات مع فنانين آخرين من المشرق والمغرب العربيين. لكل هذه الأسباب وقف جمهور مهرجان أوتار لتحية هذا الرمز الشامخ من رموز التراث الشعبي المغربي الأصيل بعد أن استمتع بمقطوعات خالدة من رصيد الحاجة الحمداوية التي وصفها البعض ب " شحرورة المغرب التي لا تشيخ ". واستكمالا للفرجة المتعددة الأنماط والأساليب في النهل من التراث الشعبي شارك الفنان عبد المغيث المتميز بأسلوبه الخاص في أداء فن العيطة والذي اكتسب من خلاله جمهورا واسعا داخل المغرب وخارجه ، بأداء مجموعة من أغانيه في إحياء هذا العرس الفني وسط تجاوب شعبي حاشد. وقبل ذلك انطلق الحفل الختامي الساهر بباقة من الأغاني المغاربية يعود تاريخها الى ما بين أربعينيات وسبعينيات القرن الماضي، أداها مطربون شباب من المغرب والجزائر وتونس ، كان لها وقع عميق في نفوس المتتبعين لكونها ظلت على مر السنين راسخة في الأذهان وأبانت عن عبقرية الرواد في اختيار الكلمة الجميلة والنغمة الأصيلة التي ساهمت في إثراء الساحة الفنية بوفاء وإخلاص وفق ما تقتضيه مبادئ الذوق الرفيع ورسالة الفن النبيل. وتوج الحفل بأداء جماعي لكل المطربين الشباب المشاركين في المهرجان ، للقطعة الغنائية " يا إبن الإنسان " التي لحنها الموسيقار عز الدين منتصر خصيصا بهذه المناسبة ، وهي تتغنى بالحب والإيخاء بين الأديان وتنبذ الحرب والعدوان، وذلك إيمانا من صاحبها بأن " هذا الجمع الشبابي المبارك سوف يظل محطة تاريخية في مشوار هؤلاء الشباب عساهم أن يبقوا أوفياء لنهج الرواد". وأكد المنظمون في ختام هذا الحفل الذي جمع أكثر من 50 ألف متفرج ، أن مهرجان أوتار في دورته الثانية نجح بكل المقاييس في تبليغ رسالته ،على اعتبار أنه حقق نوعا من التواصل بين ساكنة المنطقة وجيل المبدعين المغاربيين الشباب من جهة، وبين الساكنة وتراثها العريق من جهة أخرى، ناهيك عن الأبعاد الثقافية والحضارية والتنموية الكامنة وراء ابراز ماتختزنه ذاكرة منطقة الرحامنة من كنوز في العديد من الميادين.