بعضهم يعيد بناء الدولة المصرية الحديثة إلى محمد علي باشا. بعضهم يعيدها إلى العصر الفاطمي. (في المناسبة بدأ تمرد الفاطميين في تونس وانتقل إلى مصر ومنها إلى ليبيا وبلاد الشام عندما ضعفت الخلافة العباسية في بغداد). مهما يكن فالمؤرخون يعتبرونها أقدم دولة في الشرق الأوسط، وأشدها رسوخاً. تعرضت خلال مسيرتها التاريخية لقليل من الثورات. تحولاتها كانت من خلال الصراع بين الطبقة السياسية على السلطة (ثورة عبدالناصر مثالاً). أما الشعب فكان دائماً إلى جانب الدولة. من هنا ديمومتها، وتصور حكّامها لأنفسهم أنهم أزليون. للمرة الأولى الشعب المصري «يريد». وللمرة الأولى يفرض رؤيته على الذين يولِيهم شؤونه، ويكون مؤثراً في تشكيل نظام يتناسب وطموحاته. ولكن الوصول إلى هذا الطموح ما زال في بدايته. ها هي الثورة المضادة بدأت. وها هم الإسلاميون المتحالفون مع الليبيراليين بدأوا يميزون أنفسهم. هي مرحلة الصراع على السلطة بين الحلفاء. ومن الطبيعي ان يتصارع المنتصرون. في تونس لا يختلف الوضع كثيراً. الشعب الذي أراد تغيير النظام استطاع خلعه. الحكومة التي خلفت سلطة زين العابدين بن علي لم تستطع الصمود، ولم ترضِ طموحات المنتفضين المطالبين بالتغيير. هؤلاء لم تنطلِ عليهم حيلة الحزب المخلوع. خاضوا صراعاً وما زالوا مصممين على فرض برنامجهم الذي تبلور خلال التظاهرات. أقالوا رئيس حكومة ما بعد الثورة (الغنوشي) ووزراء من الحزب الحاكم. فرضوا برنامجهم في التحول إلى الديموقراطية، وفي محاسبة الذين أذلوهم لعشرات السنين. في تونس بعض الفوضى، لا بأس في ذلك. في الجارة ليبيا الوضع مختلف. الديكتاتور يزعم أنه أفاد من التجربتين المصرية والتونسية. يرى أن مبارك وبن علي هربا. وكان نصحهما بالصمود. لذا قرر المواجهة. بدأ حملة هستيرية من القتل المنظم، مراهناً على عدم تدخل أحد لوقف المجزرة. رهانه في مكانه لأنه لم يترك دولة مؤثرة في الغرب إلا وعقد معها صفقة «تجارية». (تبرع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، بالعمل لتحسين صورته ونجح).أما العرب فلم يحسب لهم أي حساب. هم أعجز من أن يعالجوا مشاكلهم فكيف إذا طلب منهم التدخل لوقف المجازر في دولة أخرى. والآن ها هو الغرب في انتظار جلاء الصورة كي يقرر ما يفعل. فإذا انتصرت الثورة انتصر. وإذا انتصر القذافي حصد ثمن وقوفه على الحياد نفطاً ومشاريع لإعادة إعمار ما هدمه المتحاربون. وإذا قسمت ليبيا حاول السيطرة على المناطق الأكثر ثراء. الفوضى في ليبيا محزنة. لكنها ستفرز وضعاً أفضل. في اليمن، قدم الرئيس علي عبدالله صالح تنازلات كثيرة. قرر عدم توريث إبنه. حاول إرضاء المعارضة بالإحتكام إلى صناديق الإقتراع. قراراته لم تلبّ مطالب المتظاهرين الذين ما زالوا يتعرضون للإعتقال والتنكيل يومياً. الوضع القبلي يتيح له المناورة. بسبب هذا الوضع قد يتوصل إلى تفاهم مع المتظاهرين، تفاهم لن يتعدى في أفضل الحالات نوعاً من الديموقراطية القبلية البدائية. الفوضى في اليمن ستطول. من اليمن إلى بلاد الشام. لبنان أكثر الدول عرضة للفوضى. غداً يجتمع الألوف، رافعين شعار «لا للسلاح»، أي سلاح المقاومة و»حزب الله»، مقابل شعار آخر «إسرائيل أيضاً تقول لا للسلاح». حرب الشعارات هذه تؤكد عدم قدرة المعسكرين المنقسمين على التعايش. الحرب الأهلية ليست مستبعدة بعد قرارات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. كان ماو تسي تونغ يقول: «في الجنة فوضى... الوضع ممتاز». في العالم العربي فوضى ... «الوضع ممتاز».