يبدو أنّ فهمي هويدي احترف الدفاع عن الحكم الإخواني في تونس، ولو حتّم عليه ذلك تحوير الأحداث الجارية في هذا البلد بما لا يتلاءم والموضوعية المطلوبة من كاتب في مثل مقامه. ما أشدّ خيبتي، وأنا أكتشف في مقالين له نُشرا أخيراً عن اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد ما يُعد بعضُه مزاعم صريحةً وبعضُه الآخر دليلاً على أنّه لا ينظر إلى الوضع التونسي بغير نظارة «النهضة» الخضراء. في مقاله الأول بعنوان «فيلم قديم» (10 فبراير/شباط 2013، «الشروق» المصرية)، يقول فهمي هويدي إنّ هذه الجريمةَ تذكره بجرائمَ مماثلة دبرتها في إيران استخبارات الشاه، واتهمت بها الحوزة العلمية وخطّط لها في تركيا غلاةُ العسكر العلمانيون ثم نسبوها إلى حزب العدالة والتنمية. ويضيف: «القصة ليست جديدة إذاً، لكنّها في الحالة التونسية ساذجة أيضاً. فبشاعة الجريمة لا جدال فيها، لكن توجيه الاتهام إلى حركة وحكومة «النهضة» يبعث على الدهشة والارتياب، لأنّ الحركة التي عرفت باعتدالها وبرفضها الدائم للعنف، مع حرصها الشديد على التوافق الوطني، لا يصدق أي عقل رشيد أن تكون لها أية علاقة بجريمة القتل ولا بتفجير الموقف الداخلي، حيث يفترض أن ينصب جهد حكومتها على إشاعة الاستقرار والانتقال بتونس إلى عصر جديد». وفضلاً عن أنّ هذا الكلام بروباغندا ليست لغتُها أقل «خشبية» من لغة المنافحين عن الأنظمة العربية البائدة، فهو ينمّ في أحسن الأحوال عن عدم إلمام بالوضع في تونس، لسببين اثنين. الأول أنّ الحديث عن مسؤولية الإسلاميين لم يأتِ من فراغ، فاغتيال شكري بلعيد كان تتويجاً مرّاً لاعتداءات أخرى عليه، كمحام (يوم مرافعته عن قناة نسمة بعد عرضها فيلم «برسيبوليس»)، وكزعيم سياسي (يوم 2 فبراير/شباط الماضي في مدينة الكاف، مثلاً)، وهي اعتداءات لا يسع أيّ قاض نزيه سوى اعتبارها قرينة قد تنير طريق التحقيق. السبب الثاني أنّ الاتهامات التي وُجهت إلى «النهضة» لم تنصبّ على ضلوعها في الجريمة بقدر ما انصبت على مسؤوليتها ومسؤولية حكومتها الائتلافية عمّا تعرفه الحياة السياسية من عنف أبطالُه دون منازع إسلاميون. فهمي هويدي يقرّ بذلك في موضع آخر، قائلاً إنّ هذه الاتهامات «تراوحت بين تحميل (هذه الحركة) المسؤولية عن قتل الرجل (...) وبين تهيئة الأجواء التي أدت إلى وقوع الجريمة»، لكنّه يبني استدلاله على «مزعم» اتهام جميع المعارضين للنهضة بالتورط مباشرة في قتل شكري بلعيد. «فيلم قديم» حقاً أن نقوّل الخصم ما نشاء ليسهل علينا نقضُ كلامه. الاتهامات الموجهة إلى الحزب الحاكم في تونس هي إذاً بالأساس اتهاماتٌ بتساهله مع طرفين مهمين في الساحة السياسية التونسية: السلفية «الدعوية» و«روابط حماية الثورة». السلفية (ولا نتحدث هنا عن المنظمات الجهادية، فذلك أمر آخر) تصول وتجول منذ قرابة سنتين مرهبة خصومها من يسار ويمين دون وازع من وزارة الداخلية (اللهم إلا إذا طالت أيديها المصالح الأجنبية، كالسفارة الأميركية مثلاً). أما روابط حماية الثورة، فهي تحديداً ما يعسّر اعتبارَ النهضة حركة «عرفت باعتدالها وبرفضها الدائم للعنف». لن نجافي الحقيقة كثيراً إن قلنا إنّ هذه التنظيمات ميليشيات شبه رسمية، تتمتع بقدر معتبر من الاستقلالية عن الحزب الحاكم (مردُّه انغراسُها في الشرائح الشبابية الشعبية) ويُصوَّر لها المعارضون، سواء يمينيين كانوا أم يساريين، ككيان واحد «كافر»، يكره الشعب ويحتقره، بل ويحنّ إلى النظام القديم. أتُرى فهمي هويدي يجهل أن جهدَ روابط حماية الثورة انصب على تفريق تظاهرات المعارضة لا على «حماية مكتسبات» الانتفاضة التونسية (ومنها حق التظاهر السلمي بطبيعة الحال)؟ ألا يعرف أنّ الحكومة الائتلافية سعت إلى حلّ فرعها في تطاوين بعد ضلوعه في أحداث عنف يُعتقد أنها تسببت في مقتل لطفي نقض، ممثل حركة نداء تونس في هذه المدينة، يوم 18 أكتوبر/تشرين أول 2012؟ ألا يدري أنّها (بشهادة وزارة الداخلية النهضاوية) حاولت، يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2012، اقتحامَ مقر الاتحاد العام التونسي للشغل في العاصمة في الذكرى الستين لاغتيال فرحات حشاد، شهيد الحركة النقابية والوطنية التونسية، وكانت قد هاجمت قبل ذلك مقارّه في مدن أخرى ودنستها بأكوام الزبالة؟ عكس منفذي مؤامرات «السافاك» وغلاة العلمانيين الأتراك، قادةُ هذه الميليشيات معروفون اسماً وسناً ومسكناً، يظهرون في وسائل الإعلام مكشوفي الوجوه ويصعب القول إنهم «مندسون» في صفوف التيار الإسلامي، اللهم إلا إذا «اندسوا» بمعرفة النهضاوي علي العريض، وزير داخلية حكومة الائتلاف، وبتواطؤ زميله نور الدين البحيري، وزير العدل. وفي مقال آخر بعنوان «اللعب على المكشوف في تونس» (11 فبراير/شباط 2013، «الشروق» المصرية) ورغم أنّه يعيب على غيره الخلط بين الجهاديين و«الدعاة» المسالمين يواصل فهمي هويدي هجومه على ما يصوره «معارضة تونسية» واحدة متحدة، لا فرق بين فلول انتهازية ومناضلين شرفاء، بين الوزير الأول السابق، الباجي السبسي، رئيس حزب نداء تونس (ورئيس البرلمان المخلوع في 1990 1991)، ووجوه اليسار ممن كادت أن تفنيهم «السلخانات البنعلية» ولم يتذرعوا بعلمانيتهم لمناصرة السلطة على النهضاويين والسلفيين. في هذا النص، نقرأ بريشة من استحق عن جدارة لقب «مثقف الإخوان العضوي» أنّ «القوى المعارضة سارعت إلى اتهام النهضة بعد ساعات قليلة من الحادث، وقبل أن تؤدي التحريات والتحقيقات إلى أية نتائج. كأن الاتهام كان جاهزاً والقتل كان مطلوباً». إذا كانت «التحريات والتحقيقات لم تؤد إلى أية نتائج» فمن أين أتاه اليقين بأن قتل شكري بلعيد من تدبير خصوم الحزب الحاكم لتشويه صورته، كما حاول غلاة العلمانيين الأتراك تشويه صورة حزب العدالة والتنمية؟ ألا يُحتمل أن يكون من تدبير الجهاديين أو بعض أعضاء «روابط حماية الثورة» ممن يُشحنون ويشحنون الناس ضد اليسار والعلمانيين منذ قرابة سنتين؟ ولم يتوخ مقال فهمي هويدي الدقة في مواضع كثيرة، منها قولُه إن السلفيين، بعد هروب بن علي، «انقسموا إلى فريقين، فريق تبنى فكرة الدعوة، وآخر انحاز إلى العنف. والأولون أتيح لهم أن يتحركوا في العديد من الساحات، أما الآخرون، فقد رفضت الحكومة ممارساتهم، ولا تزال تلاحق من ارتكب منهم أيّ أفعال مخالفة للقانون». هذا الكلام غير دقيق: انقسمت الحركة السلفية، لكن شقها الذي لم يحمل (بعدُ؟) السلاح لا يدعو إلى «سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة». هل من الدعوة في شيء محاصرةُ كلية منوبة طيلة شهور وإحراقُ الأضرحة ومهاجمةُ معارض الرسامين والاعتداءُ الجسدي على الخصوم السياسيين، ومنهم وجب التذكير أحدُ آباء النهضة المؤسسين، عبد الفتاح مورو، الذي تعرض له السلفيون بالضرب مرتين: في القيروان، يوم 5 أغسطس/آب 2012، لدفاعه عن المفكر التونسي يوسف الصديق، وفي المنستير، يوم 23 يناير/كانون الثاني 2013، لا لسبب سوى لكونه محسوباً على «الإسلاميين المنفتحين»؟ يعاقَب مهاجمو السفارة الأميركية أشدّ عقاب، ولا يعاقَب من يعتدون على الاجتماعات والتجمعات السلمية ويغلقون الجامعات باسم «حق التنقب»، ويدمرون تراث تونس الثقافي والروحي باسم «التوحيد»، وباسم الدين، يحلمون بتحويل بلدهم إلى مجهل قاحل لا فن فيه سوى فن تغطية رؤوس السيدات؟ ويجانب الكاتب المصري الحقيقة، إذ ينسب دعوةَ مواهب مصباح فرنسا للتدخل في تونس إلى «بعض الأصوات الديمقراطية والعلمانية التونسية»! من طالب بالتدخل الأجنبي غير هذه الناشطة المريخية التي تبرأت من موقفها كلّ القوى المعارضة؟ لا أحد. والحقيقة أنّ من يسهم في النيل من السيادة التونسية هو الحكومة الائتلافية التي تقتفي أثر حكومتي محمد الغنوشي وباجي السبسي، مفضلةً الاقتراض من الخارج (رغم أنف «الاقتصاد الإسلامي») على إعادة توزيع الثروة في الداخل، مثقلةً كاهل البلاد بالديون بدل البحث عن المال عند رجال الأعمال (وكثيرون منهم بنوا ثرواتهم في ظل التجمع الدستوري وبفضله). مزعم آخر في مقال فهمي هويدي، هو القول إنّ اليساريين «كان لهم نشاطهم الشرعي» تحت حكم غير المأسوف عليه، ما يختصر اليسار التونسي قبل 14 يناير 2011 في حزبين، هما التجديد والديمقراطي التقدمي، لم يحمهما الاعترافُ الإداري بهما من المضايقات البوليسية. ماذا عن حزب العمال الذي أمضي زعيمُه حمة الهمامي، وكثير من رفاقه ورفيقاته، جزءاً لا بأس به من حياتهم في المعتقلات وذاقوا الأمرّين على يد ذات الداخلية التي آلت، بقدرة قادر، إلى علي العريض؟ ماذا عن التيار الوطني الديمقراطي الذي كان شكري بلعيد أحد رموزه؟ ماذا عن الاشتراكيين الثوريين وما قاسوه سجناً وتعذيباً ونفياً؟ كل هذه التيارات كانت محظورة، وإن لم يمنعها القمع من النشاط السياسي والحقوقي. ولولا دفاع كثير من مناضليها ومناضلاتها عن كلّ المظلومين بغض النظر عن آرائهم ومعتقداتهم لقضى كثير من القادة الإسلاميين نحبَهم في السجون، ولما كُتب لهم أن يصحبوا اليوم رؤساء ووزراء.