وجدتني وسط هوة ملأى بالأسئلة المتناسلة المرعبة والمحرجة وأنا أطرح السؤال أعلاه على نفسي: هل مرور فتاة بيضاء مع فتى أسود البشرة بالشارع يبدو أمرا مألوفا للعيان؟ هل يمكن لأب أن يقبل بسهولة تزويج ابنته لشخص ببشرة سوداء؟ لماذا يخلو إعلامنا العربي وخصوصا المغربي من وجوه سوداء؟ هل اللون كاف لتحديد هويتك وانتمائك ووضعك العملي والأسري بغض النظر عن الكفاءة وحسن التصرف؟ لماذا نبتهج ببطلات سوداء منعشة في قنوات وفي أفلام ومسلسلات غربية في حين تغيب هاته الوجوه عن قنواتنا العربية؟ لماذا ظل الجمال العربي مرتبطا بالبياض المهفهف؟ مهما حاولنا التنصل من غمد هاته الأسئلة، ومهما حاولنا التظاهر بمظهر المنفتح الموقع على كل المواثيق والمعاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان، وبحضر دستورنا المغربي لكل أشكال التمييز العنصري، ومهما حاولنا التلطيف من نصاعة هاته الهالة السوداء التي تلتصق بجلود بعض العرب باستعمال كلمة أسمر التي غالبا ما نلوذ بها كلما أحسسنا بالذنب تجاه الآخر الأسود، ومهما حاولنا التلميح بمنزلة السواد بسكنه في بؤبؤ العين، يظل للأسف أصحاب البشرة السوداء في وضع اجتماعي ينضح بالإقصاء والتمييز. ربما لم نعد نسمع بالجواري والعبيد وعن الرق الذي منع في المغرب من طرف الحماية الفرنسية في العشرينات من القرن الماضي، لكن أصحاب البشرة السوداء ظلوا أسرى إرث عبودي لا فكاك منه، وقاموس لغوي عنصري مغربي ثري «عزي بالالا، حرضاني، عنطيز، كلاوي (وهي كلمات قدحية بالدارجة المغربية ينعت بها أصحاب البشرة السوداء بالمغرب)»، وأسرى مخيال جماعي يجعل السود كحرس وخدم وعمال في الحدادة والحمامات... وأسرى إعلام عالمي يصورهم كآكلي لحوم البشر وكحلبة للفتنة الإثنية والطائفية وكمصدر للأوبئة والمجاعات والأمراض، الإيدز مثلا، وكأن سوادهم لعنة تاريخية ظلت تطاردهم كما تطارد الأقدار القاسية أبطال التراجيديا الإغريقية، وأسرى إعلام مغاربي وعربي يتنصل من أفريقيته ومن أفلامه الأفريقية ومن وجوه سوداء سواء في أفلامه أو أخباره أو إشهاره، أسرى لون قد يحدد هويتهم وانتماءهم الاجتماعي والعملي والأسري، لون قد نلبسه ونتفاخر بأناقته، قد نسهر الليل وننتشي بسمره لكننا نظل ننفر من هذا اللون كرمز للخبث وكثوب للحداد عند بعض العرب وكمصدر للشرور ولكل الآثام. ظللنا «عنصريين»، لكن بشكل أخف حدة ووطأة طبعا مما كان يحدث في أميركا وجنوب أفريقيا، لكن خطورة «عنصريتنا» أنها تحولت من سلوك واع إلى سلوك وتصريحات وتعابير لاواعية قد تختبئ أحيانا في جبة النكتة والتهكم والمثل الشعبي.. عنصريين ولكن نرفض الاعتراف ب«عنصريتنا»، لأننا لا نقبلها ولا نستسيغها، بل تربيتنا ووعينا الجمعي وبعض تاريخنا القديم هو من كرسها في لاوعينا. لا بأس من بروز جمعيات تحسيسية بوضع أصحاب البشرة السوداء في مجتمعنا العربي، وأذكر جمعية مغربية «أفريكا» لحقوق الإنسان، تستنكر الإقصاء الذي يتعرض له بعض المواطنين المغاربة ذوي البشرة السوداء، فدور هاته الجمعيات أساسي للتحسيس والتوعية، ما لم تخرج من دائرة تجييش المشاعر وزرع بذور التفرقة والعداء والفتنة بين المغاربة. وقد سعدت كثيرا بأعمال إبداعية رائعة شكلت من هذا السواد مدادا لبياض مضيء ظل يموج ويضج بعوالم الخدم والعبيد والسود، وخاصة في رواية المبدع اليمني علي المقري «طعم أسود... رائحة سوداء»، بحيث يكشف هذا العمل المتميز عن الخدم السود في اليمن، ليكشف بعمق مدى الامتهان للكرامة الإنسانية لدى بعض أفراد هذا المجتمع، وهو عمل إبداعي جريء وصادم ومؤلم في الآن نفسه. وهناك رواية عميقة للكاتبة الكويتية سعداء الدعاس بعنوان «لأني أسود» هي أيضا تكشف عن الألم الذي يعتري أصحاب البشرة السوداء بسبب لون يسكن جيناتهم، من خلال حكاية جوان الأميركية التي أحبت فوزي الشاب الكويتي، لكنه ألم يتضاءل بالضوء الذي يسكن مساربهم الخفية. وهناك رواية «ريحانة» للشاعرة الإماراتية ميسون صقر، عمل إبداعي متميز يحكي حكاية ريحانة النفس الحرة الأبية التي تسكن جسد جارية. كلها أعمال انطلقت من تيمات السواد والعبودية والخدم، لكنها سرعان ما انعتقت من أسرها لتسكن فضاءات أكثر جمالا وبهاء وإبداعية. كلنا أسرى صور نمطية وأفكار مسبقة جاهزة وذاكرة جماعية، أسرى مرآة لا تتسلل إلى أغوارنا وتعجز عن اكتشاف كنهها الحقيقي وملامحنا الخفية، لكن قوتنا أن نغرف من وهجنا الكامن فينا كي نستضيء ونضيء من حولنا، أن نزيح بكفاءتنا وإصرارنا «هويتنا السلبية» ونلبس «هوية إيجابية» أكثر رحابة بغض النظر عن لوننا أو جنسنا أو ديننا أو عرقنا أو لغتنا، هوية يفخر بها العالم حولنا، فمارتن لوثر كينغ، وأوبرا وينفري، وتوني موريسون، ولويس أرمسترونغ، وسيدني بواتيه، وبيليه وباراك أوباما، وغيرهم كثيرون... وسمهم السواد بميسم الاختلاف الإيجابي والدهشة والتميز والتألق والنجومية. قبح الأغوار هو السواد الوحيد المشترك بين البشرية جمعاء، وإن تدثر بملامح بيضاء، يظل سوادا خبيثا، ما لم نلبسه معطف الجمال والبهاء والصفاء والصدق والكفاءة.