كنت قد جلست خلفها ونحن نتابع مبدعا يغزل كلماته موئلا لضياعه، ويغازل بها أطياف متاهته، وجْهُهَا إليه وشَعْرُها الأسود اللامع إلي، كان فوق المنصة يئن مشتعلا، ثم يتطاير دخانا أسود فيملأ الجو حنينا وغربة وأسى، وكنت خلفها ألملم دهشتي وأحاول عبثا ركوب أرجوحة كلماته الجريحة فتعلق نظرتي بصهيل شعرها الجامح الموغل في سواده، ثم تتدحرج الذات في سفح السواد المتماوج. بين كلماته النازفة والتماع الشعر الأسود الجارح كان مركبي المتهالك يفقد أشرعته مع آخر شعاعِ سرابٍ لإطلالة خضراء. أمضي في الأزرق اللامتناهي، وأنا أستنجد صارخا بالأسود، الأسود الأصيل الشامخ، الأسود المتعالي في كبريائه ودلاله، الأسود في جبروته وغوايته. ظللت متأرجحا بين أدخنة المنصة وعواء الأسود المخيف بداخلي، قامت فجأة واتجهت نحو الباب: طلعة أربعينية تحتفي بنفسها في زهو بالغ، وتشرع أبوابها للريح بلا تحفّظ، قامة قصيرة وجمال صارم مهيب، بشرة بيضاء ونظرة بعيدة تخترق كثافة الوجود، حذاء جلدي يصَّاعد لمنتصف الساقين، «روب» أسود منحسر فوق الركبتين، يضم فخدين مشدودين ومشعَّين كفضة صقيلة، ويتدثر بمعطف أسود طويل ومشرع للهبوب.. أخذتني دوخةُ أسودٍ عاتية فخرجت بدوري، رأيتها تعب من سيجارتها بنهم وهي تقتعد كرسيا خشبيا أمام أحدهم، ورأيت غمامتين حزينتين تحطان على عينيها الدامعتين، فقرأت عناوين فجائع لا تحتمل، حاولت جاهدا تسلق جدران حيائي كي أطل على ارتباكي أمام توهجها فازددت ارتباكا. كنت أسير بجانبها ونحن ننزل في شارع يفضي إلى شاطئ خريفي هائج، اشتبكنا في دردشة حول سؤال الكتابة فوجدتها تزفر لهيب اغتراب حارق، دنوت منها وقد وضعَتْ هذه المرة نظارات سوداء حجبت عني الغمامتين الحزينتين وعناوين الفجائع. قالت: - لماذا يُعطَى النقابيون التفرّغ ويُحْرَمُ منه الأدباء؟ ظللتُ واجما، أو مدثّرا انجرافي الهائل بوجوم مصطنع. قالت أيضا: - قراءاتي فرنسية في الأغلب، لكنني أفضل ألمي مسكوبا في فناجين عربية. (صمتت قليلا ثم أضافت) لأنني أحب اللغة العربية.. صوتها دافئ وموجع كأنها تجلبه من غور عميق، تتمازج فيه بحة حزن مع شغف ظاهر بالاكتشاف ومراودة الحرائق من جديد، كان الأسود يجللها ببهائه ويجعلها ناذرة كبشارة، وعميقة كلوعة أم، وتائهة كقبلة مسروقة.. نظرت إلي لأول مرة بإمعان ثم قالت: - الكتابة معاناة حقيقية.. أريد أن أتفرغ، ولكن هذا الوطن لا يساعد. كنت حينها ضائعا تماما ومنخطفا في متاهات الأسود الموحش، تقلَّصتُ، تضاءلتُ كثيرا قبل أن أتشكَّل من جديد كائنا هوائيا صرفا، ومع ذلك كان ثمة تماوج أسود لعين يسحبني في خدر لا يقاوم إلى العمق أكثر. أوشكت على البكاء، وحاولت أن أهرب دون أن أستطيع، جلسنا حول مائدة بمطعم تقليدي ضمَّنا بحفاوة بالغة، حاولت أن أتشاغل عنها بأشياء تافهة، لكنني لم أستطع الفكاك من الأسود الساحر الذي صار يحتلُّني عن آخري دون أدنى مقاومة، رأيتها منتعشة وراقصة بعنفوان كسمكة سلمون أُعِيدَتْ إلى حوضها الأصلي، كانت تغوص وترقص، تزهو وتزداد سوادا وغموضا، صارت غاوية ومخيفة، صارت وجعا أكابده بلا توقف، صارت كلمة حارقة تستهلكني تماما، حينها قالت صديقتها بعفوية ماكرة: - لا أريد أن أصير سمكة.. لا يهمني ما تعنيه، غير أنني لم أعرف لحظتها هل تحولت صيادا شرسا تجننه شهوة السواد، أم أنني مصطاد في شبكة سوداء لا ترحم.