ذات يوم من أيام الشتاء القاسية ، و كان الوقت بعد الظهيرة، شمس جميلة كانت تزين ذلك اليوم، تهب الحياة بهاء و زينة كأنها امرأة ساحرة الجمال و الروح . لفت الجميع بالبيت صياح المعزاة، و كانت باسطبل صغير ملحق بالبيت.. في العادة كان هنالك معزاتان أو ثلاثة على الأكثر نتخذها للحصول على حليب طازج كل صباح، تعده أمي مع القهوة و أشياء أخرى على مائدة الفطور الصباحي . تزايد صياح المعزاة ، و كأن بها جزعا أو ألمت بها مصيبة ، فلم يكن عاديا ذلك الصراخ في صوتها كأنه العويل ، نغمة من الحزن و التألم ، و كأن مصابا يصرخ و يستصرخ الآخرين لإغاثته و نجدته. ذهبت لأرى ما الأمر .. فإذا بجديها الصغير ممدد بجانبها ، لم يعد يقوى على الحركة ، و فقد ذلك النشاط و الحيوية ، فقد كان يملأ البيت و المكان مرحا ، يتنطط هنا و هنالك ، و يتشاقى .. يلاحق هذا و يهرب من ذاك لست أدري مالذي أصابه الآن ، فهو طريح مازال به بعض الحركة و المقاومة و لكنه لا يستطيع القيام . جاءت أمي و رأت ما رأيت ، تفحصت الجدي ، حاولت أن تساعده و تقربه من ضرع أمه ليرضعها و يتغذى ، و لكنه لم يتمكن أو لم تعد لديه رغبة أو قدرة على ذلك .. احتارت أمي في الأمر ، ثم أرادت أن تجرب معه شيئا آخر ، تعده كخلطة من زيت الزيتون و نبات حار ، و عمدت إلى أن تدفع بذلك إلى جوفه ، و ربما نجحت في ذلك ، و انتظرنا .. استأنفت المعزاة بعد ذلك صياحها ، و هي التي كانت قد سكنت قليلا و هي ترى أمي تعالج جديها و تحاول مساعدته . تدهورت حالة الجدي ، و همد جسمه و سكن من كل حركة إلا حركة عينين كبيرتين و جميلتين ترمقان بحزن يعبر إلى القلب فيمزقه و يدميه و يسكن في النفس ألاما و أوجاعا . لم أستطع مغادرة المكان ، تسمرت قدماي ، ثم جلست بجانب المعزاة و جديها ، و ظللت أتلمسه و أمرر يدي على كامل جسمه كأنما أداعبه ، فقد كان شعره البني و الأبيض أملس ناعما جدا ، يشعرني بطراوة هذا الكائن الصغير . كانت المعزاة الأم بين حين و آخر تنحني و تتشمم جسمه و تتحسسه بلسانها و تتفحصه بعينين حزينتين جزعتين يوشك أن تنهمرا دمعا ، و قد خفت صوتها إلا من أنات متقطعة و همهمة ، كأن الوجع قد قطع صياحها و هد قوتها و ذهب بكل طاقتها التي كانت ترسل بها الأصوات العالية ، أو كأنها قد شعرت الآن بقرب النهاية ، و أنها تودع وليدها و هو في لحظاته الأخيرة . جثم الليل بظلمته و برده ، قمت و جلبت حطبا و أعشابا يابسة و أضرمت نارا بالقرب من مركننا ، أردت ألا يزيد البرد الوضع سوء ربضت المعزاة الأم قريبة من جديها في ضوء النار المتخافت و قد امتدت به خيالاتنا باهتة كأشباح تراقصها النار بضوئها ، اقتربت من الجدي وو ضعته بين رجلي و قد قعدت متقرفصا ، أمسكه بكلتا يدي ، فقد تهالكت كل قوته و أصبح لا يتماسك أبدا .. كان بعض من لفح النار يصل وجهي فيشع دفئا في كامل أنحاء جسمي فلم أبال بذلك البرد الذي كان يشتد مع مرور الوقت . نظرت بعسر إلى ساعتي فإذا بها الثانية صباحا .. خمدت النار إلا من جمرات تتقد و تشع ..و تعطي بعض الضوء الضعيف ، بينما المعزاة تمددت بجسمها المتطاول و قد وضعت رأسها في حجري ملامسة رأس جديها كأنها تقبله و قدأسلم نفسه للموت و فارق الحياة. ........................ العيد بن منصور ، كاتب من الجزائر