ما إن أتمَّتْ عبارتها المصحوبة بابتسامتها الأخّاذة وغمزة من عينها اليُسرى، حتى انقدحت الفكرة في ذهني مثلما ينقدح اللهب في القدّاحة أو مثلما يحطّ لحن القصيدة على جبهة شاعر. فكرةٌ تملكتني تماماً لأغيِّر من نمط حياتي، وأنتقل من ضيق الحال وعسره إلى ملذات الغنى ومباهج المال. ستتهافت الحسناوات على بابي، وستهبط الدنانير الذهبية عليّ حتى تغطيني بالدفء والسرور. منذ عشرين عاماً، وأنا أمارس التعليم الجامعي: أبحث، وأعدّ الدروس، وألقي المحاضرات، وأصحّح دفاتر الطلاب، وأناقش رسائلهم وأطروحاتهم، وأشارك في اللجان الجامعية لوضع الخطط وتطوير المناهج التربوية، وأكتب الدراسات والبحوث بعشرات الصفحات، وما زلتُ أسكن شقّة صغيرة مستأجرة في حيٍّ شعبي، ولا أتمكن من التمتع بعطلة خارج مدينتي. وها هي تلميذتي تخبرني ضاحكةً أن إحدى زميلاتها من بنات الأغنياء دفعت حتى الآن أكثر من ألفَي دولار بالعملة الصعبة لساحرٍ من أجل أن يكتب لها تميمة تجعل زميلها يقع في غرامها. مجرّد تميمة في أقل من صفحة لقاء ألفي دولار. يا للحيف. لا شك في أن هذا الساحر، كائناً من كان، ليس له مثل ما لي من قدراتٍ ذهنية، ومؤهلاتٍ علمية، وشهاداتٍ جامعية، وملكاتٍ لغوية، واطِّلاعٍ على البحوث النفسية والتربوية. وها هو يتربَّع في قصرٍ جميل في أرقى أحياء العاصمة أطلقَ عليه اسم « قصر النجوم» لكثرة المصابيح الكهربائية الصغيرة الملوَّنة اللامعة المنتشرة كالنجوم على السور الخارجي وعلى الأشجار الباسقة في حديقة القصر الغنّاء، كما يُفهم من التسمية في الظاهر. ولكن باطن التسمية يلمِّح إلى «التنجيم» أو إلى الأبراج التي يزعم هذا الساحر أنه يستطيع كشف المخبوء من أسرارها. وقلتُ في نفسي إذا كان قد اغتنى بفضل معرفته بالنجوم والسحر، فإن أوَّل مَن درس النجوم وحركة الكواكب هم أجدادي السومريون، وإن السحر ترعرع على يد أعمامي البابليين ، وأنا، أنا ابن سومر وربيب بابل. أعملتُ الفكر في الأمر، فتبيَّن لي أن نجاح الساحر يقوم على ثلاثة أركان: أولها، وجود مجتمع يؤمن بالسحر ويربط بينه وبين الدِّين بصورة أو بأُخرى، وثانيها اعتقاد المريض أو الضحية بقدرات الساحر الخارقة، وثالثها فراسة الساحر وبراعته في الإقناع. بدا لي أنَّ جميع الشروط متوافرة. فالجميع هنا يعتقد بالسحر ويؤمن بالخوارق والكرامات، وأنا واثق من ملكاتي ونجوع تقنياتي وقدرتي على بيع الأمل لمرضاي، أمّا كيف أكسب ثقة المراجعين بي، فهذا هو موضوع الفكرة التي انقدحت في ذهني. لا يكفي أن أستقبلهم في غرفة معتمة، وأنا أعتمر خوذة غريبة يتهدل من مؤخَّرها شعري الطويل على ظهري، وألتحي لحية عظيمة تغفو على صدري مثل مخلاةٍ معلقة على رقبة حمار، وأتمتم بكلمات غامضة غريبة، وأهمهم بجمل منقوصة غير مفهومة. يجب أن أغرس في نفس الزبون ووجدانه الثقة بقدراتي الخارقة عن طريق كشف نتف من المعلومات الحميمة التي لا يعرفها إلا هو والمقربين منه. فالثقة أساس النجاح، تماماً مثل ثقة المريض بقدرة الطبيب المداوي على شفائه عندما يخبره ببعض أعراض مرضه. فطالب السحر هو الآخر مريض. قلتُ لتلميذتي التي أخبرتني عن صاحبتها: أتدرين أنني أمارس السحر، يا سميرة؟ قالت منبهرة: صحيح؟ نعم، ولكنّه سحر علمي، فأنا أزاول التنويم المغناطيسي، وأقوم بتحضير الأرواح ومحاورتها، وقراءة الكف، واستطلاع المستقبل. أنا مهتمة جداً. يمكنكِ أن تستفيدي شخصياً، أنتِ كذلك. فالسحر مهنة. ولكلّ مهنة أربابها وزبائنها، ووسطاؤها الذين يتقاضون عمولات محترمة لقاء خدماتهم. قالت وقد بدت على وجهها أمارات الاهتمام والتطلُّع: وكيف أستطيع أن أستفيد شخصياً؟ قد تتعلَّمين مني بعض تقنيات السحر، كما ستحصلين على عمولة سخيّة، كلما اصطحبتِ إحدى زميلاتك لجلسةِ سحر. سأفعل ذلك بكلِّ سرور. عليك، يا سميرة، أن تختاري الزميلة بعناية. أولاً ينبغي أن تكون من الموسرات اللواتي يؤمنَّ بالسحر، وثانياً أنَّها تواجه مشكلة ما كالحب، فالحب في بلادنا مشكلة، وثالثاً، أن تحدِّثيها عن قدراتي الخارقة دون أن تذكري اسمي. وقبل أن تصطحبيها إليّ عليك أن تخبريني بسرّية تامة عن اسمها، واسم والديها، وظروفها الاجتماعية، ونوع مشكلتها العاطفية، واسم المحبوب ومهنته، وجميع المعلومات اللازمة لتحضير السحر المطلوب. وستتقاضين عشرين بالمائة من كلِّ مبلغ أحصل عليه منها. أنا موافقة تماماً. ولدي صديقات كثيرات يرغبن في ذلك. اتفقنا. هيّأتُ المكان المناسب. غرفتان. الأولى للانتظار؛ تسمح أضواؤها برؤية الصور العلمية المعلَّقة على الجدران: صورة للفضاء الخارجي ويبدو فيها عدد من الكواكب، وصورة تشريحية لجسم الإنسان وخاصة دماغه وجهازه العصبي، وصورة لكائنات غريبة لها وجوه آدمية وأجساد حيوانية وتبدو قريبة من مركبة فضائية وكأنها قادمة من العوالم الأخرى، ولوحة زيتية عنوانها « الساحر» للرسام العراقي الراحل خالد الجادر وتبدو فيها سيدة تجلس مذعورة أمام ساحر يغرز فيها عينيه الواسعتين المرعبتين. وتصدح في هذه الغرفة موسيقى سيمفونية صاخبة من سيمفونيات بيتهوفن بعد أن فقدَ السمع وأُصيب بصمم دائم. والغرفة الثانية حيث أستقبلُ الزبائن، أو بالأحرى الطالبات الجامعيات، ذات أضواء خافتة تنبعث من شموع، ويعبق فيها خليط من روائح البخور والمسك والعنبر والصندل والفانيلا، بحيث يؤدّي الخليط إلى تدويخ مَن لم يتعوَّد عليه. فعلاً، بعد مدة قصيرة اتصلت بي سميرة لتخبرني عن فتاة اسمها أمل ترغب في الاستفادة من خدماتي، وأخبرتني أن مشكلتها تكمن في وجود فتاة منافسة لها على قلب الحبيب، المسمى جواد، فهو متردِّد بين الفتاتين، فتراه تارة في رفقة أمل وتارة في رفقة غريمتها. وزودّتني سميرة بمعلومات كافية عن أمل. فحددتُ لها موعداً لاستقبالها. في الموعد المحدَّد كانت سميرة ورفيقتها أمل في غرفة الانتظار في حين كنتُ أغلق النوافذ في غرفة الاستقبال وأوقد الشموع وأعدُّ البخور والعطور لتتصاعد الأبخرة المتعددة والروائح المختلفة لخلق جو هلامي. حينما دخلت أمل وحدها بعد نصف ساعة من الانتظار، وألقت التحية، لم أردّ عليها التحية، بل كنتُ غارقاً في همهمة أسماء عدد من الجنّ الذين أستعين بهم وعيناي غائرتان في سقف الغرفة والزبد يتدلى من فمي، وكفاي تلامسان بشكل دائري متلاحق الكرة البلورية أمامي: حبزبوز، غمزبوز، قمرموز، بزبوز بزبوز، حبزبوز، غمزبوز، قمرموز، بزبوز، بزبوز... وبعد دقائق طويلة غرزتُ عينَي في عينيها، وبإشارة من حاجبَيّ طلبتُ منها أن تتكلّم. قالت بعد تردِّد وبصوت واهن: أتيتُ لمعرفة طالعي ومستقبلي. تسارعت حركة يديّ حول الكرة البلورية أمامي وأغمضتُ عينَيّ وراح رأسي يترنّح يميناً وشمالاً وأنا أستنجد بجنيي وأناديه وأناشده وأتوسل به وأناغيه، ثمَّ خفضتُ رأسي قليلاً وغرزتُ عينَيّ المتَّسعتين بعينيها، وقلتُ لها: ثمَّة قلبُ رجلٍ يخفق لمرآك، وفكره منشغل بهواك. قالت وجِلةَ: هل لي أن أعرف مَن هو: قلتُ بعد تردّد طويل وزيغ بصر عليل: شكله شكل إنسان فهيم، واسمه اسم حيوان وسيم، ولفظه يبتدئ بحرف الجيم. وأضفتُ وكأني أتهجى الغيب: جَ، جَ ، جَمَل، لا ، لا، جَ، جَ، جَو ، جَو، جواد، نعم جواد. وهنا تهلّل وجهها بانبهار، وعلته ابتسامة خفيفة. فعاجلتُها قائلاً: بيدَ أني أرى شبح امرأة تقتفي خطاه، وتبتغي أن تكون مُناه. وهنا علتْ وجهها غمامةٌ وكآبة، وقالت: نعم، نعم، أعرفها، وكيف أتخلّص منها؟ قلتُ: هذا أمرٌ في حُكم المتمانع، ويستلزم أكثر من قراءة الطالع. ويتطلّب مني جهداً في المختبر والمصانع. قالت: أرجوك افعل، وأنا أسدّد التكاليف. قلتُ : إذن التقطي بهاتفك المحمول صورتَين لها، ولو من بعيد: إحداهما من الخلف والأخرى من الأمام، وضعيهما مع رقم هاتفك في غلاف ملصق، واتركيه في صندوق البريد في باب منزلي، وبعد أن أُهيّئ المعمول في المختبر، سأتصل بك هاتفياً لأُحدّد لك موعداً. قالت بحماسة: سأفعل. وأخرجت محفظتها وسألت: كم تريد؟ قلتُ: خمسمائة درهم لقاء هذه الجلسة. أما تكاليف المعمول فسأخبرك بها في حينه. في اليوم الثاني جاءتني سميرة ودفعتُ لها عمولتها ومقدارها مائة درهم، أي عشرين بالمائة بالضبط. فنجاح المهنة يستلزم الإتقان في العمل، والصدق في المعاملة لتحتفظ بالزبائن والأصدقاء والوسطاء. أو كما يقول المثل الفرنسي « Les bons comptes font les bons amis « بالحسابات الصحيحة تكسب الأصدقاء الطيبين «. وصلتني الصورتان بعد أيام قليلة. تمعّنتُ في قوام المرأة، غريمة أمل. فوجدتها تميل إلى الطول، ممتلئة الجسم، طويلة الشعر. ودخلتُ في ما أسمّيه بمختبري الصغير، وأخذتُ أصنع لها تمثالاً صغيراً من الشمع بطول الكف المبسوط، مستفيداً من تقنيات هوايتي في النحت. انتهيتُ من صنع تمثالٍ يضاهي الصورة والأصل. واتصلتُ هاتفياً بالآنسة أمل. لتوافيني في منزلي، أو عيادتي كما يحلو لي أن أسميّه. بعد أن مرّت أمل بطقوس مقابلتي من جلوسٍ طويل في غرفة الانتظار، وانتظارٍ في غرفة الاستقبال وهي تستمع إلى هلوساتي وتنظر إلى وجهي المُربد المُرعد المُزبد ورأسي المترنح يميناً وشمالاً، أخرجتُ من كيسٍ أسودَ تمثالَ غريمتها، وأمسكتُه بيدي اليسرى، ومن الكيس الأسود أخرجتُ بيدي اليمنى دبوساً له رأسٌ أسود، وغرزته في رأس التمثال، وفززتُ وأنا أصرخ متألماً: « آخ». وقلتُ لأمل: كلّما غرزتِ هذا الدبوس في طرف من أطراف التمثال، ستحسّ غريمتك بألمٍ في ذلك الطرف من جسدها. إنه السحر الأسود. احرصي على غرس الدبوس في طرف واحد فقط كلَّ ليلة وأنتِ وحيدة في الظلام، دون أن يعلم أحد بذلك لئلا يفسد مفعول السحر. وبمرور الزمن ستزداد آلامها الجسدية حتى إن حاولتْ إخفاءها عن الآخرين، فيؤثِّر ذلك في صفاء روحها وجمال وجهها، ويقلّ اهتمام جواد بها، فينصرف إليك كليّاً. وكلّما يطلب منك جواد موعداً، حاولي أن تمانعي قليلاً. تعززي. تناولتْ أمل التمثال والدبوس بتوجُّس ووضعتْهما بتؤدة في الكيس الأسود. وأودعت الكيس في حقيبتها اليدوية الجلدية. ثم قالت: شكراً... كم؟ قلتُ: ألفا درهم فقط. وبعد شهرين أخبريني عن مفعول المعمول، وسنرى. وفي اليوم التالي اتصلتُ بسميرة فوافتني في المنزل وأنقدتُها أربعمائة درهم، عمولتها مما دفعته أمل في زيارتها الثانية، أي عشرين بالمائة بالضبط. وازدهرت مهنتنا أو تجارتنا يوماً بعد آخر وازداد دخلنا شيئاً فشيئاً، ولم تواجه سميرة أية صعوبة في إيجاد زبونات جديدات، بل على العكس سرت بين كثير من الطالبات الجامعيات أنباء مهاراتي العجيبة وقدراتي الخارقة، فتهافتت الطالبات على سميرة يُرِدن الاستفادة من خدماتي، فقد كنتُ أرفض استقبال أية طالبة تأتيني وحدها. استقبلتُ كثيرات، إحداهن تريدني أن أصنع لها تميمة تزيدها جمالاً في عينَي صديقها، وأُخرى تبحث عن سحرٍ يجعلها تنجح في مادة العلوم الطبيعية، أو بالأحرى يجعل أستاذها يستحسن كلامها ويهبها علامة عالية، وثالثة مغرورة أو مصابة بالفصام، تؤمن بأن جميع زميلاتها يغرن من جمالها وذكائها، وأنهن يسحرن لها وتريد إبطال سحرهن، وأخرى تتوهم أن جنيّاً وقع في غرامها فهو يسكنها ولا يفارقها. في جميع تلك الحالات، كنتُ أوهمهن بأنني عملت السحر المطلوب، وأستخدم الطريقة الإيحائية التي وضعها العالِم البلغاري جورجي لوزانوف، وأزودهن بتعليمات ضرورية ليفعل السحر مفعوله، فمن تريد الجمال أنصحها بالرشاقة والأناقة واللياقة في السلوك والحديث، ومن تطلب النجاح في مادةٍ ما أنصحها بتخصيص وقتٍ كافٍ لتلك المادة، ومن تخشى سحر الأخريات أنصحها بالتواضع والتقرب من صاحباتها، ليفعل سحري مفعوله. ذات يوم، أخبرتني وسيطتي سميرة أن طالبةً تُدعى وصال تروم الاستفادة من خدماتي. أعطتني بعض المعلومات عنها وأضافت قائلة: إن مشكلتها بسيطة تستطيع أن تتعامل معها بنجاح تام. وصلت وصال في الموعد المضروب، وأخضعتها لطقوس الانتظار ثم دخلت غرفة الاستقبال بقوامها الرشيق الفارع الطول الذي بسط سلطانه على المكان كلِّه، وجلست مقابلي وقد وضعت ساقاً على ساق، وانسدلت خصلات شعرها الذهب على كتفيها العريضتين العاريتين فغطتهما. في اللحظة التي التقت فيها عيوننا، أحسستُ في أعماقي برعشة تسري في أوصالي، كما لو أنها سحرتني بعينيها النجلاوين. حاولت أن أتمالك نفسي وأنا أوجه الكلام إليها، بيدَ أن كلماتي خرجت مرتجفة متقطعة متهافتة لا معنى لها، كأن فكري قد شلّ عن الحركة. بصعوبة بالغة سألتها عن حاجتها. قالت: إنني لا أعرف ما أريد. هذه هي مشكلتي. سأتخرّج هذا العام في الكلية ولكني لا أدري ما الذي ينبغي أن أفعل. حالما فتحت شفتيها الخمريتين، أسكرتني بحلاوة لهجتها، كانت تتحدث بلثغة محبَّبة. قلتُ: وما هي البدائل المطروحة أمامك؟ قالت: كثيرة. هل أذهب إلى أمريكا لمواصلة دراستي؟ هل أتزوج من شابٍّ محترم تقدّم لأهلي يطلب يدي؟ هل اشتغل بشركة عرضت عليَّ عملاً طيباً. وهذا ما يحيرني. قلتُ: وماذا تريدين مني: قالت: لعلك تستطيع مساعدتي، فقد ترى طالعي وترشدني إلى الأفضل. أثارت حبَّ الاستطلاع لدي. أردتُ أن أعرف كلَّ شيءٍ عنها وعن أهلها. ولم أكتفِ بالمعلومات التي زودتني بها سميرة عنها. فسألتها عن عاداتها وهواياتها وأنواع الطعام المفضّل لديها والألوان المحبَّبة في عينيها، وعن كل شيء يمت بصلة إليها. أحسستُ أنني منجذب نحوها وأريد أن أمتلكها. فعندما تعرف الشيء تماماً فأنتَ تمتلكه، لأنه يصبح جزءاً من كيانك. أليس كذلك؟ لا أدري ما الذي دهاني، فقد أحسستُ بأنني وقعت في غرامها من أول نظرة وأن حبَّها سيطر على عقلي وروحي ووجداني، وأنني بحاجة إلى أن تحبني هي الأُخرى. لم أكن أصدق مقولة الحبِّ من أول نظرة. ولكن هذا ما وقع لي. المشكلة هنا تكمن في أنه حبٌّ من طرف واحد. كيف تحبني وأنا أعتمر هذه الطاقية الغريبة وألتحي هذه اللحية المخيفة؟ لهذا قررتُ أن أخضعها لجلسة تنويم مغناطيسي، وأعمد إلى إعطائها تعليمات بََعدية. وهذا النوع من التنويم المغناطيسي هو أكثر الأنواع تطوراً وأصعبها. إذ يعطي فيه المنوِّم المغناطيسي تعليمات للنائم، لا لينفذها في الحال، وإنما لينفذها بعد أن تنتهي جلسة التنويم ويخرج الفرد من تأثيره ويعود إلى حالته الطبيعية. ففي التنويم المغناطيسي يكون ذهن النائم في حالة هدوء واسترخاء ويتقبّل الاقتراحات والإيحاءات بشكل كبير. كنتُ آمل أن أوحي إليها وهي نائمة بأنها تحبّني وأنها متعلِّقة بي وأن اختيارها في الحياة سيقع عليَّ والارتباط بي دون غيري، مهما كان شكلي، معتمراً طاقية غريبة أو حاسر الرأس، بلحية طويلة أو حليق الذقن. فالحبّ الحقيقي الذي أحلم به هو أن تحب الإنسان مهما تغيّر مظهره بمرور الأيام والزمان، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر، في الفرح والحزن. في كل حال يجدك هناك قريباً منه، واقفاً إلى جانبه، تعضده وتشد أزره. ولكن نجاح التنويم المغناطيسي يتوقَّف على التعاون بين المنوِّم والمنوَّم. ولهذا قلتُ لها: لكي نعرف ما تريدين أن تفعليه حقيقة، يجب أن نستمع إلى رغباتك الكامنة في أعماق قلبك. إذ ينبغي أن يستمع الإنسان إلى نبض قلبه ورغبات روحه، لا إلى ما يشير به عليه الآخرون. وهذا يتطلَّب استخدام التنويم المغناطيسي، إذا كنتِ راغبة في ذلك. قالت: لا مانع لدي إذا كان ذلك هو ما تراه. طلبتُ إليها أن تعود إليّ بعد يومين. وعلى غير عادتي، لم أطالبها بأي أجر. بل على العكس، ذهبتُ حال مغادرتها إلى سوق الذهب، واشتريتُ هدية لها عبارة عن قلادة ذهبية عُلّق في وسطها تمثال ذهبي صغير للالهة عشتار ربة الجمال والحب والخصب لدى البابليين، كنتُ أزمع أن استخدمها في عملية التنويم المغناطيسي. عادت إليّ وصال بعد يومين، فأجلستها على كرسي وثير بقصد تنويمها مغناطيسياً. وبعد حديث قصير قصدت منه أن تكون مرتاحة نفسيّاً، أخرجتُ القلادة الذهبية، وطلبتُ منها أن تركز بصرها على التمثال الذهبي الذي كنتُ أحركه ببطء من أعلى السلسلة، تماماً مثل حركة البندول، يميناً وشمالاً وشمالاً ويميناً، وأنا أخاطبها بصوت يوحي بالثقة وبنبرة هادئة: لا تفكري بشيء. ركّزي نظرك على التمثال، استرخي تماماً، أغمضي عينيك، ها أنتِ تنامين، نعم، نعم، تنامين، تستغرقين في النوم. عندما أخذتُ أطرح عليها الأسئلة، جاءت إجاباتها مدروسة تنمّ عن تفكير وذكاء وليست عفوية. فخامرني شكٌّ في أنها كانت تتظاهر بالنوم، وأخذتُ أتساءل ما إذا كانت وصال من ضمن العشرة بالمائة من الناس الذين لا يمكن تنويمهم مغناطيسياً، كما تقول الدراسات العلمية. ومع ذلك فقد أخبرتها وهي نائمة بأنني أحبّها، وهي تحبّني بلا ريب، وطلبت منها أن تزداد غراماً بي. لم أطالبها بأية أجرة. بل على العكس، وضعتُ القلادة الذهبية في علبتها المخملية الصغيرة وقدمتها إليها. فتقبّلتها بابتسامة رأيتُ فيها نوعاً من الاستخفاف بتلك الهدية بل ازدرائها. توالت هداياي لها، وانصرفت بكليتي إليها، وأهملت دروسي مثلما أهملت استقبال زبونات جديدات. أصبح عالمي يدور في فلكها، وكانت متقلبة متمنّعة. وكلما ازدادتْ تمنعاً ازددتُ انجذاباً إليها وتعلُّقاً بها. كنتُ أدرك في قرارة وجداني أنها لا تصلح لي، وأعي في صميم عقلي أنها فتاة لعوب تتصيد القلوب لتحرقها على مشواة الانتظار وسفود الصدود. فهاهي راحت تخلف مواعيدها بعد أن طلعت شمس الشوق في قسماتي وقرأت محرار اللهفة في عيني. كم مرة قررتُ أن لا أفكر فيها، ولكنني أجد نفسي منساقاً لمهاتفتها، وكأن خيوط الاتصال قد تقطّعت بين عقلي وإرادتي، أو كأنني وقعت تحت تأثير جاذبية لا خلاص منها. أخذت أشتري ابتساماتها ورضاها بالهدايا التي تضاعفت قيمتها، وصارت أغلى فأغلى. وتضاءلت مُدخراتي حتى أمست صفراً. وذات يوم وجدتني أشتري سيارة صغيرة لها، وكلي أمل بأنّها ستحبني. واضطررت أن أسحب شيكاً على المكشوف، أي أن الشيك بدون رصيد. وذات ليلة، سمعت طرقاً عنيفاً على الباب، ثم ضربة قوية انفتح الباب بعدها, ودخل رجال الشرطة، لاعتقالي وحجز ومصادرة شعر رأسي الاصطناعي ولحيتي الكثة والشموع، وجميع المواد في غرفة الاستقبال بوصفها مواد ثبوتية. وبعد أن أمضيت أياماً طويلة في المعتقل، وأُخضِعت لجلساتٍ مرهقة مع قاضي التحقيق، اقتادوني ذات يوم إلى المحكمة، ليصدر القاضي حكمه علىَّ طبقاً للمادة المائة والسابعة والعشرين من قانون العقوبات الجنائية، التي تجرّم الاحتيال والشعوذة بثلاث سنوات سجناً نافذاً وغرامة مقدارها عشرون ألف درهم، وكذلك المادة الثامنة والخمسين من القانون نفسه التي تعاقب مَن يصدر شيكات بدون رصيد بسنتين سجناً نافذاً، على أن أمضي فترتي العقوبة بالتعاقب.