لا يكاد يمر يوم وأسبوع دون أن يوقع سعدي يوسف قصيدة جديدة، يسعف بها رئة الحياة، وتدعونا إلى التأمل والإنصات لتجربته. وبمناسبة حصوله على جائزة الأركانة، نقدم قراءة أولى لجغرافية عوالمه الشعرية. سعدي يوسف (1934 / العراق)، الشاعر العربي الكبير، تُوجتْ تجربته هذه الأيام، بنيل جائزة الأركانة العالمية للشعر، التي تقدمها مؤسسة بيت الشعر في المغرب. فالجائزة، بعد أن نالها، في دوراتها السابقة، كل من بي داو(الصين)، محمد السرغيني(المغرب)، ومحمود درويش(فلسطين)، تكون قد ذهبتْ هذه السنة، في دورتها الرابعة، إلى شاعر عراقي نذر حياته للشعر، فعثر في استعاراته العميقة وومضاته الوجودية الملتهبة، على مستقر للروح والجسد، وهما يخوضان في متاهة العالم لامتصاص نسوغها وتحويلها إلى ضرب من الشعر، لا يكتفي بالحلم بالفردوس، وبالتوثيق لتفاصيل الحياة، وإنما يستشف أيضا ما يربض في أعماقها من اختلاجات المعنى وإشراقات الفكر وومضات الحس، المراهن على إبداع عالم آخر من الحياة الشعرية، الشفافة والبلورية، التي تنهض كبرهة من الجمال، تخترق قشرة الحياة، فتجعلها أقل وطأة، أكثر احتمالا، وأوسع مدى. رحلة سعدي يوسف الشعرية تجاوزت الآن ستة عقود كاملة وملتهبة من الشعر، ضرب فيها الشاعر في كثير من أصقاع الأرض، هروبا من الدكتاتورية، وبحثا عن سماء تُسعف قصائده بأوسع حظ من زرقة الحرية، التي نهض متخيله الشعري، في البداية (منذ ديوان «القرصان»/1953)، من رماد العراق، ليدافع عنها من زاوية بناء فردوس الفقراء على الأرض، قبل أن يكتشف الشاعر، مع الأيام، استحالة هذه اليوتوبيا، التي كلفته عمرا كاملا من التيه، لكنها جعلت قلب قصائده ينبض بالحب وشغف الإنسان الذي يعرقُ ليبني بيته الطيني على الأرض (مثل السنجاب، الحيوان الأثير لدى سعدي يوسف)، كما جعلتْ قلب الشاعر يسهر، ليوقظ الجمال الغافي، الكامن في أنفسنا، في أرواحنا وأجسادنا، وفي الأشياء المؤثثة للعالم من حولنا. إنه شاعر حركة الحلم المتوثب، الذي لم يجعل القصيدة تنكفئ على ذاتها، وهي تقف على حدود الاستحالة، وإنما جعلها تنتشر في العالم، تسري في جلده وخلف مسامه، لتوقظ وتوشوش، تحلم وتضحك، تحفر وتتلذذ، تتأمل وتصطاد، تنشرح وتيأس، ترسم وتغني، تكتب وتمحو، تثرثر وتصمت، تصفع وتصفح. إنها أفعال متعددة لقصيدة تتجه عموما نحو التكثيف، البناء الشذري أو المقطعي، عبر الإنصات لإيقاع ذات كاتبة ترتق مزق الحياة، لتنسج منها أشف لباس في الشعر العربي والعالمي المعاصر. جائزة الأركانة ذهبتْ أيضا إلى شاعر مُثابر، يبحث باستمرار عمَّا يوسع بيبليوغرافياه الشعرية المذهلة، التي ربت على الأربعين ديوانا، فضلا عن تأملاته وكتابته لليوميات والسرود وترجماته في الشعر والرواية. وقد دعم الشاعر هذه البيبليوغرافيا الخاصة، بإصداره الجزء السادس من أعماله الشعرية عن دار الجمل(2009)، والذي يتضمن الدواوين الجديدة التالية: «صلاة الوثني»، «حفيد امرئ القيس»، «الشيوعي الأخير يدخل الجنة»، «أغنية صياد السمك»، «قصائد نيويورك»، «قصائد الحديقة العامة». وهي أشعار وُقعت بين 2003 و2008، بكل من لندن، باريس، فورتَيسا، نيويورك، وقصيدة بدمشق. إنها تفاصيل توثيقية يحرص الشاعر على تدوينها، في كل نص، ليكشف عن الجغرافيات الروحية التي استضافت قلبه وقدميه، فحركت بداخله رياح الشعر الباردة. وهي جغراقيات انضافت إليها هذه السنة جغرافيا المغرب، (الدارالبيضاء، الرباط، مكناس) التي ننتظر قصائدها منشورة في ديوانه القادم. في قصيدة «خديعة؟»، يكشف الشاعر سعدي يوسف عن رؤيته للشعر، وعن جسور المكر الفني التي تصل بين الشعر والواقع، بين الشعر والحياة. جسور يَسِمها الشاعر ب «الخديعة»، لأنها لا تحتفظ من خامة الحياة، إلا بتلك الخيوط الرهيفة، التي تسمح للخيال بالاشتغال والنسج، على نحو يحول العناصر والخامات إلى عمل فني، قابل للعيش في هيأة مبتكرة، مفارقة لطبيعة الأشياء، بما تنطوي عليه من بذرة السمو، المخترقة لكل عمل جمالي. تتنامى القصيدة في أربعة مقاطع، ينهض الأول ببناء أساسها: «أنا أسكن، حقا، في مأوى لكبار السن/ (لقد جاوزتُ السبعين)/ ولكنَّ مُقامي يُقرأ: Sheltered House / ليس تماما ما كان يُسمَّى «دار العجزة...»/ أعني أني في منزلة بين المنزلتين!/ عجيب!!!»(ص233). من هذا المقام الملتبس، يبدأ الشاعر في رصد حركة الحياة، مُخضعا مشاهدها، وخاماتها إلى تحويل فني، يجعلها تعيش تجربة الميلاد الفني: «إن كان مُقامُك هذا، فلماذا تخدعُنا؟/ تكتبُ عن بيتٍ في الريف (كأنك من عائلة مالكة!)/ وتُداعبُ غفْلَتنا إذ تحكي عن مَرج وحدائقَ/ عن ثعلب فجرٍ/ وغزالٍ بريٍّ عبْر سياج/ وسناجيب/ وتكتب عن شُرُفات ونوافذ/ عن أشجارٍ غامضةٍ/ وخيولٍ تقتطفُ الزعتر عِلْفاً/ وبُحيراتٍ يترقرقُ فيها سمكٌ ذهبيٌّ، وحصا/ ومراعي أشناتٍ، و...إلخ...أنا أسكنُ، حقا، بين المرئيّ وما ليس يثرى./ أسكنُ في اللحظة، حيثُ الشيء سواه/ وحيثُ المرأى لستُ أراهُ»(ص233/234). ثم يتساءل الشاعر، بلسان فضولي، يريد معرفة المبدأ الكامن وراء هذا التحويل، الذي يجعل الأشياء تغادر هيأتها الأصلية: «هلْ لي أن أسألكَ؟/ الناسُ، جميعا، من أدنى البصرة، حتى أقصى المغرب/ أدرى بك منك.../ إذا، فيمَ خديعتهم؟/ ولماذا تمنح كلَّ نحاسٍ صدءٍ لوناً ذهباً»(ص234). يُجيب الشاعر، في المقطع الأخير، مؤكدا على الفعل الشعري كنوع من الكيمياء المُحوِّل لتجربة في الحياة، إلى تجربة في الفن المختَرق باستعارة هيراقليطية أصلية: «أنا أسكنُ، حقا، في ما لا يُسكنُ أكثر من يوم.../ وأنا إن شئتَ الحقّ أغادر ما أنا فيه، اللحظة تلو اللحظة./ أي أني أحمل تربة هذي الأرض إلى أرض أخرى/ أرض لا تخدعُنا،/ أرضٍ فيها ألوان مجراتٍ/ وخيولٍ/ وبحيراتٍ يترقرق فيها سمكٌ ذهبيٌّ.../ يترقرق فيها الناس!»(ص234/ 235). في قصيدة «الليلة أقلِّد باوزوليني»، يكتُب سعدي يوسف بلغة ساخرة، متمزقة ألمَ مقاومة شعرية، في حياة فقد فيها الشاعر كل سند: «لستَ المتصوّف / لستَ السريالي/ ولستَ النادم عما أحببتَ: النخلَ، ورايتكَ الحمراء،/ ولستَ المتوسل بالصحف الصفراء.../ إذا... كيف ستمضي في هذي المذأبة الكبرى...؟/ مَن سيُتَرجم أشعارك عبر لغات السوق الأوربية؟/ مَن سيُرشِّحُك، الليلة، في المطعم، للجائزة الألمانية، أو تلك الكرواتية؟/ من سيسجّل عنوانَك والهاتفَ والإيميلَ، على قائمة المدعوين إلى كل جهات الأرض؟/ وأيّ امرأة تُمسّدُ خصلةَ شعرك، هذا الأشيب، من عينٍ في هاتفها النقال؟ ومؤصدةً، ستكون الباب أمامَك/ مؤصدة، وحديدا...»(ص.36). ومهما كانت شراسة المذأبة التي وقع الشاعر في شباكها فإنه يحتفظ بزوادته من الحلم، بالرغم من انجلاء كل الأوهام: «كم قلتُ لك: انتبه! الدنيا ما عادتْ تُقرأ مثل الكفّ.../ ولكنكَ، ما زلتَ المأخوذ بما أتوهم أنك لم تَعد المأخوذ به: مثلا، بعراقٍ مركون في زاويةٍ من ميثولوجيا وشيوعيين!/ إذا سأصدقُ: لستَ المتصوفَ/ لستَ السرياليَّ/ ولستَ النادمَ عمَّأ أحببتَ: النخلَ، ورايتكَ الحمراء»(ص.37). لا يكاد يمر يوم أو أسبوع، دون أن يوقع سعدي يوسف قصيدة جديدة، يُسعف بها رئة الحياة. إنه يُشخِّص بعمق، ذلك الاستسلام التام لهبات النسائم البعيدة، التي تحرك صفحة الوجدان والفكر، فتجعل ماء الخيال يدفق في أرض القصيدة، راتقا الانطباعات العميقة بخيط رفيع من الحس، الذي يجعلنا نشعر بحركة القصيدة الشبيهة بموسيقى أفعى الماء، وهي تنساب بين القيعان، أو بخشخشة ثعبان البراري، وهو يخترق الأعشاب اليابسة، ليجوس روح المكان، وما يثوي في جحوره البعيدة من طرائد الفتنة والجمال.