نجح الإخوان: نجح الإخوان في تبديد الآمال بسرعة قياسيّة. مسيرة الإخوان امتدّت على نحو قرن من الزمن (أو أقل بقليل)، لكنّها تشير إلى استمراريّة تفتقدها أحزاب عربيّة أخرى (مات حزب البعث للمرّة الأخيرة في درعا عند اندلاع الانتفاضة في سوريا). لكنّ الإخوان استفادوا من صفة المعارضة الخجولة والمؤدّبة التي حالما تُتاح الفرصة لها ستقدّم «الحلّ الإسلامي». ما عاد حلّ الإخوان الموعود برّاقاً. وصعود الإخوان يترافق مع معركة شبه معلنة بينهم وبين السلفيّة (والصراع بدوره يعكس معركة صامتة غير معلنة بين الحكم الوهّابي القطري والحكم الوهّابي السعودي). وصل الإخوان إلى السلطة بعد طول عناء ونضال شُبّه بالجهاد الذي لهج الإخوان بحمده قبل أن يقعوا في حب «الاتفاقات الدوليّة». قنع الإخوان عبر السنوات بإطلاق شعارات عامّة ومبهمة عن «الحلّ الإسلامي»: لم نتبيّن تفصيلات الحلّ إلا من خلال وعود بتطبيق «اللباس الإسلامي» و«الطبخ الإسلامي» و«التحيّة الإسلاميّة» و«التعليم الإسلامي» و«الرياضة الإسلاميّة». ولا ينكر إلا الجاحد أنّ الإخوان نجحوا في استقطاب جمع كبير من الرأي العام وراءهم، وخصوصاً أنّهم شكّلوا فصيلاً كبيراً من المعارضة (الرسميّة كما في الأردن أو السريّة كما في ليبيا أو بين المعارضة نصف الرسميّة ونصف السريّة كما في مصر عبر السنوات). وبنى الإخوان التنظيم الإقليمي والعالمي منذ أطلق أنور السادات التنظيم من الجحور والسجون كي يضعف ويقضي على المعارضة اليساريّة والناصريّة. وحظيت الخطة الساداتيّة (التي اعتمدتها إسرائيل والملك حسين _ وهل يفعل الملك الهاشمي أمراً من دون التنسيق مع حليفه ووليّ نعمته في تل أبيب، وخصوصاً أنّه تربّى على جدّه يستجدي الرشى من الصهاينة؟) بدعم قوي من دول الخليج بالتوافق مع راعيهم الأميركي المشغول آنذاك بهموم الحرب الباردة. والإخوان وتنويعاتهم الإسلاميّة المتطرّفة خدموا السياسة الأميركيّة بإخلاص منذ الخمسينيات حتى الثمانينيات في أفغانستان. وقد أغدقت أميركا عليهم المساعدات (والسلاح في كثير من الأحيان) إمعاناً في خدمة القضيّة المشتركة. لكن الانتفاضات العربيّة والمال القطري الوفير أدّيا إلى وصول الإخوان بتنويعاتهم إلى السلطة. لكن من الضروري رسم أكثر من علامة استفهام حول صوابيّة أو جواز النظر إلى صعود الإخوان كنتاج صرف أو محض لعمليّة ديموقراطيّة _ والحديث عن الديموقراطيّة في العالم العربي بات أكثر الأحاديث قمعاً وتسلّطاً، على طريقة: أنت ترفض الخيار الديموقراطيّ؟ أنت ترفض خيار الشعب؟ أنت ترفض نتيجة الاقتراع؟ الجواب السهل هو: طبعاً، أرفض، وحسناً فعل الشيوعيّون في ألمانيا عندما رفضوا خيار الشعب الألماني قبل 1933 وبعدها. من قال إنّ الخيار الشعبي مُقدّس؟ ثم، في ظلّ تدخّل المال السعودي والقطري الذي يسيطر على كلّ انتخابات في العالم العربي، وفي ظلّ التدخّل السرّي («العسكري» والمالي) لأميركا وحليفاتها من الدول الغربيّة المُعادية للديموقراطيّة في منطقتنا (مثل الأم الحنون والإمبراطوريّة السابقة وصاحبة الإرث النازي، وغيرها من الدول التي تتمتّع بعلاقات عقود من العسل مع طغاة العرب)، فإنّ الحديث عن خيار الشعب هو باطل حتى إشعار آخر _ أو حتى إحداث تغيير جذري في القانون الانتخابي كي يُزال عامل شراء الأصوات _ أو شراء الطائفة على طريقة الأمير مقرن وعائلة الحريري في لبنان. لكن لدينا تجربة الإخوان ولدينا من الدلائل ما يكفي لإدانة هذه التجربة، خصوصاً في السياسة الخارجيّة. كان هناك مؤشّرات: كان الإخوان (و«النهضة» في تونس) يرسلون مندوبين سريّين إلى واشنطن لتقديم واجب الحج إلى الذراع الفكرية للوبي الصهيوني، أي مؤسّسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (برز وليد جنبلاط وغيره من نماذج الأمير مقرن في لبنان خطيباً فيها وصادحاً بعقيدة بوش). والداعي الإسلامي، راشد الغنوشي، قدم إلى واشنطن وقدّم أوراق اعتماده بذل _ لا يقدّم عربي أوراق اعتماده إلا بذلّ، لأنّ الصهاينة لا يقبلون غير ذلك، ولأنّ العربي لا يقدر على غير ذلك، ولأنّ معادلة عدم المساواة بين الطرفيْن لا تسمح بغير ذلك _ الغنوشي أكّد للصهاينة أن بند تجريم التطبيع لن يمرّ في مشروع الدستور الجديد. وكعادة الإخوان في استسهال الكذب والخداع _ نفى الغنوشي كلامه بعدما سرّبه الصهاينة لإذلاله _ كم يستمتع الصهاينة بإذلال العرب الذين يسجدون أمامهم _ والإخوان سجدوا. أما في الحالة المصريّة الأم، فإنّ السناتور الصهيوني العنصري جون ماكين (وهو اليوم عرّاب إخوان سوريا وإخوان مصر) تطوّع للعب صلة الوصل بين اللوبي الصهيوني (وهو أحد أبرز قادته) وحركة الإخوان المسلمين في العالم العربي (كان ماكين يعود من لقاءاته مع الإخوان مطمئنّاً إلى عدم نيّتهم شنّ أي عمل عسكري ضد العدو الصهيوني، وحتى إلى عدم نيّتهم إظهار العداء لإسرائيل. طمأن الإخوان أميركا (بإلإنكليزيّة) أنّهم سيحترمون ويقدّسون اتفاق السلام مع العدوّ الإسرائيلي على أنّه كلام مُنزل لا يُغيّر، إلا إذا ارتأى العدوّ ضرورة لتقديم المزيد من التنازلات لحماية حدود الكيان الغاصب. أكثر من ذلك، فإنّ الأسطى محمد مرسي عبّر في لقاء مع هيلاري كلينتون _ حسب رواية صحيفة «السفير» _ عن رغبته في التعاون مع إسرائيل في حربها على «الإرهاب». لكن ليس هذا بالأمر الجديد على الإخوان: هم كانوا في حرب إسرائيل على «إرهاب» المقاومة الفلسطينيّة في غزة وفي الأردن وفي مصر وفي أفغانستان ضد «إرهاب» النظام السوفياتي في صفّ أميركا وإسرائيل ومن عاونهما من الطغاة العرب. لكن المعيار الأساسي في الحكم على الإخوان يكمن في نفاقهم على صعيديْن: في تبيان المسافة بين الخطاب العربي والإنلكيزي (كما لاحظت السفارة الأميركيّة في مصر عندما دان نظام الإخوان الاعتداء على السفارات الأميركيّة بالإنكليزيّة وتعاطف مع المحتجّين بالعربيّة، وفي تبيان المسافة بين وعود الإخوان وممارستهم في السلطة. هؤلاء الذين هدّدوا وتوعّدوا بكلام مقيت عن «أحفاد القردة والخنازير» وعن ضرورة الجهاد ضدّهم، استكانوا بمجرّد أن وصلوا إلى السلطة وأطاعوا الحكم الأميركي والتزموا السكينة حول احتلال فلسطين من دون زيادة ولا نقصان. صحيح أنّ مرسي والإخوان يذكرون فلسطين عرضاً، لكنّهم يفعلون ذلك بخطاب مُستعار من التصريحات اليوميّة للناطقة باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة. أصبح كلام الإخوان عن إسرائيل شديد التهذيب والتهيّب والبلادة القانونيّة. والأسطى محمّد مرسي يهاجم النظام السوري (وعن حقّ) بكلام لا يجرؤ على التفوّه به ضد العدوّ الإسرائيلي. وقد بدأ الإخوان تقليداً جديداً في الحكم يكمن في التعبير عن «احترام الاتفاقات الدوليّة» (وهم لا يعنون بهذه العبارة التي وردتهم من واشنطن بالأمر إلا احترام إسرائيل) عند الإدلاء بالشهادتيْن. ولا يفوّت إخوانجي فرصة إلا يغتنمها للتعبير عن الإجلال والاحترام والتقديس للاتفاقات الدوليّة. وها هي غزة تعيش تحت الحصار في ظل حكم الإخوان. يمكن أن يُقال إنّ حصار غزة اشتدّ في حكم الإخوان، خصوصاً بعد التدمير الهائل للأنفاق الحيويّة. والحملة العسكريّة في سيناء لم تكن ذات علاقة بأمن الشعب المصري، بل كانت من جملة تقديم أوراق اعتماد الإخوان للعدوّ الصهيوني. إنّ الحركة التي كانت ترسل الوفود إلى غزة وتنظّم تظاهرات هزيلة لدعم أهل غزة باتت اليوم شريكة مع العدوّ في إحكام الحصار على الشعب الفلسطيني في غزة. والحصار هو جزء من السياسة الخارجيّة لنظام مبارك، التي يلتزم بحذافيرها حكم الإخوان لإرضاء أميركا. وفي السياسة العربيّة، لم يحد حكم الإخوان عن مسار حكم مبارك _ السادات. بقي النظام في «جيبة» الحكم السعودي، وقد أسهمت الحكومة الإخوانجيّة في قمع الغضب الشعبي ضد ظلم آل سعود نحو مواطنين ومواطنات مصريّات في السعوديّة. توجّه الإخوان في وفد عرمرمي (عبّر أيمن نور بزهو أنّ مباردة التملّق لآل سعود كانت من بنات أفكاره) من أجل استجداء عودة السفير السعودي إلى مصر. وقد تغاضى الإخوان قصداً عن الاحتضان الحديدي الذي لقيه مبارك قبل الانتفاضة الشعبيّة في مصر وبعدها من لدن آل سعود. لم يخف على الإخوان أنّ آل سعود كانوا يضغطون على إدارة أوباما للحفاظ على نظام مبارك مهما كان الثمن العنفي الدموي. لا يعني ذلك أنّ إدارة أوباما كانت تختلف مع مقاصد آل سعود وإسرائيل في ضرورة الحفاظ على حكم مبارك، لكنّها قدّرت أنّ مصالحها تتضرّر لو هي حافظت عليه بعدما فقد الشرعيّة الشعبيّة بالكامل (أميركا، كما في اليمن، أرادت الحفاظ على النظام من دون رأس النظام، وهي لهذا اختارت عمر سليمان، لكن الخطة فشلت بسب الغضبة الشعبيّة ضدّه). هنا قرّرت الإدارة الأميركيّة عقد صفقة مع الإخوان وذلك بالتفاهم مع العدوّ الإسرائيلي. والإخوان يعملون في السرّ ويبعثون برسائل تنفي في ما بعد أنّها أرسلتها. محمد مرسي بعث برسالة إلى شمعون بيريز، وقام الأخير مغتبطاً بنشرها، لكنّ مرسي عاد ونفى أن يكون قد أرسلها. هناك أحاديث في الصحافة الإسرائيليّة عن نيّة مرسي استقبال دبلوماسي إسرائيلي عمّا قريب. ومدير الاستخبارات المصريّة الجديد له باع في التعاطي والتعاون مع إسرائيل. والصحافة الإسرائيلية تحدّثت أيضاً عن نيّة مرسي لقاء شمعون بيريز بعد الانتخابات الأميركيّة. ولا يختلف الأمر مع إخوان تونس أو إخوان ليبيا. فالغنوشي قاد حملة التفاهم مع واشنطن ومع لوبيها الصهيوني قبل أن يصل إلى الحكم. ومادة تجريم التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي تبخّرت بفعل ساحر (وفي جلسات الاستماع في الكونغرس وفي الحلقات النقاشيّة في واشنطن، كان الصهاينة دوماً يقلّلون من أهميّة بند تحريم التطبيع في مشروع الدستور التونسي لعلمهم بما لا نعلمه نحن حول استعداد «النهضة» للاستمرار بسياسة بن علي. كما أنّ إخوان ليبيا ينافسون القذّافي في تحالفه مع الدول الغربيّة الذي استمرّ عقداً من الزمن _ في الحقبة العلنيّة فقط من هذا التحالف). والإخوان منسجمون مع أنفسهم في السياسة الاقتصاديّة. إنّ الحركة رجعيّة يمينيّة في رؤيتها الاقتصاديّة، وهي لا تختلف أبداً مع وصفات البنك الدولي وصندوق النقد العالمي. على العكس، فإن وصفات المؤسّسات الماليّة الغربيّة تتواءم مع الحلول الإسلاميّة للإخوان. وحركة «النهضة» في تونس أرادت الحفاظ على الفريق الاقتصادي لبن علي لسببيْن لا لسبب واحد، يتعلّق بطمأنة الدول الغربيّة حيال النيات المُعادية للاشتراكيّة والليبراليّة المُعاصرة (لا النيو _ ليبراليّة). وفي مصر حيث وقفت حركة الإخوان المسلمين مبكّراً ضد اشتراكيّة النظام الناصري وتحالفت مع آل سعود والإقطاع الملكي، بات جذب الرساميل الأجنبيّة وفتح مصر أمام السياحة الغربيّة أهم من هدف تطبيق الشريعة _ والشريعة ليّنة ومطواعة عند الإخوان وتخضع للتعديل بناءً على أوامر أميركا وإسرائيل. قبع الإخوان في الظلّ وفي الطبقة السفلى وفي السجون لسنوات وسنوات. وعدوا بتغيير جذري في الحكم في مصر وفي كل البلدان. اتضح ما يجب ألا يكون مفاجئاً: أن الإخوان كانوا منذ الخمسينيات إلى الآن جزءاً من النظام العربي الخليجي الرسمي المحافظ، والمتعاون مع أميركا. لكن الرأي العام العربي يرى اليوم الإخوان على حقيقتهم من دون تجميل مصطنع ومن دون خطب مجانيّة غير مثقلة بتجربة السلطة. لعلّ انهيار سحر الإخوان يجب أن يمرّ عبر صندوق الاقتراع. لعلّ الديموقراطيّة ستكون قاتلة لهذا التنظيم ذي التاريخ الطويل. مرّت ذكرى جمال عبد الناصر قبل أيّام. تتذكّر الرجل وتقيّمه سلباً وإيجاباً، وتقول في إنصافه إن قمعه للإخوان لم يكن نقيصة، بل كان واحدة من فضائله. بحقّ.