تعرف التونسيون منذ خلع بن علي الى العديد من الظواهر والأسماء الجديدة نسبياً. من أبرزها الصعود اللافت للتيّارات السلفيّة، التي استقطبت سريعاً اهتمام الاعلام، ما قطع مع أحاديّة الصورة النمطيّة، السلبية، التي طالما حصرتها فيها سرديّة المنظومة الاعلاميّة/ الأمنية لنظام بن علي. ويوماً بعد يوم، وحادثة بعد أخرى، بدأ التونسيون يكتشفون بأنفسهم "المارد" الجديد المنفلت للتوّ من قمقمه. لكن، في ظلّ تراخي القبضة الأمنية للدولة و"الانفلات الاعلامي" السائد، يصعب التثبّت من دقّة كلّ الاحداث المنسوبة للسلفيين. وممّا يزيد في عسر الفهم الموضوعي للظاهرة، تحوّلها الى ورقة على طاولة الحسابات والسجالات السياسيّة. جذور تاريخيّة ضعيفة يتّفق الباحثون على أنّه لم يكن للفكر السلفي أيّ تأثير سياسي قبل الثلاثين سنة الاخيرة، وانّه ظهر فعلياَ في أواسط تسعينيات القرن الماضي، متزامناً مع قمع بن علي ل"حركة النهضة" (ذات التوجّه الاخواني "القُطبي" المتأثّر بالثورة الايرانيّة)، وهي القوّة السياسيّة الأكثر تهديداً لنظامه. وبدأ ذلك عبر التيّار "العلمي" من السلفيين، غير المهتمّ بالسياسة والمركِّز على المسائل العقائدية المرتبطة بالسلوكيات والمظهر. ولم تهتمّ النخب التونسيّة جدياً بالظاهرة قبل الهجوم الانتحاري على معبد "الغريبة" اليهودي العام 2002. ثم تحديداً أواخر2006 حيث شهدت أوّل اشتباك مسلّح بين سلفيين تونسيين وقوّات الأمن. وما بين الحدثيْن وبعدهما، اكتفى النظام بمقاربة المسألة أمنياً تحت عنوان "التعاون الدولي في مقاومة الارهاب"، خاصّة مع تزايد عدد المتطوّعين التونسيين للقتال في العراق اثر احتلاله. بعد الثورة: الخروج من تحت الأرض بدأ ظهور السلفيين، بشكل متفرّق وغامض أسابيع قليلة بعد خلع بن علي، عندما حاول ملتحون اغلاق بعض المواخير بالقوّة. وقد عرفت البلاد في تلك الفترة، تراجعاً واضحاً للأجهزة الأمنيّة واضطرابا كبيراً في سدّة الحكم. وكان من نتائجه اطلاق كافّة المُعتَقَلين في اطار قضايا "قانون مكافحة الارهاب" (قُدّر عددهم بأكثر من ألفي متهمّ بالانتماء ل "السلفيّة الجهاديّة"). وسُنّ "قانون العفو" دون اجرائهم أيّة مراجعات نظريّة لمنهجهم العنفي، على عكس ما جرى في أقطار عربيّة أخرى، وتحديداً في مصر. ومع اندلاع الانتفاضات في هذه الاخيرة، وبعدها في ليبيا المجاورة، صار من الصعب مراقبة الحدود الغربيّة، بل وحتّى تلك الشرقية مع الجزائر. ويبدو انّ تنظيم "القاعدة في المغرب الاسلامي"، المتمركز عادة في الصحراء الجزائرية، رأى في ذلك فرصة لتحويل تونس الى ساحة "جهاد" جديدة. إذ تسلّلت مجموعة مسلّحة تابعة له في حزيران/يونيو 2011، قبل ان ترصدها فرقة عسكريّة اشتبكت معها. فسّر الكثير من التونسيين ما جرى على أنّه "فزّاعة أمنيّة" ابتدعتها السلطات الجديدة للسيطرة على حالة الغليان الثوري. بدأ هذا الانطباع في التراجع نسبياً مع تتابع الأحداث التي كان "السلفيون" طرفاً فيها، وكان من أبرزها الاحتجاجات العنيفة، عشيّة انتخابات المجلس التأسيسي، على بثّ قناة خاصّة فيلم المخرجة الايرانية الاصل، مرجان ساترابي، الذي رأوا فيه "مساً بالذات الإلهيّة". وتواصَل الأمر بعد الانتخابات وفوز حركة النهضة، إذ اعتصم شبان سلفيون أسابيع طويلة بجامعة منّوبة مطالبين بالسماح لطالبات منقبّات باجتياز الامتحانات. وتتجدّد من حين لآخر محاولات لإدخال السلاح عبر الحدود، تنتهي باشتباكات مع الأجهزة الأمنيّة، مثلما جرى في منطقة بئر علي بن خليفة في شباط/فبراير الماضي. إلاّ انّ بعض الأحداث الأخيرة اتّسمت بطابع "طائفي" ضدّ كلّ ما له علاقة، حقيقيّة أو مزعومة، بالتشيّع. كان من أبرزها إفساد مجموعة سلفيّة لمهرجان خطابي للأسير اللبناني السابق سمير القنطار واعتدائها على منظّميه. بيئة اجتماعية وظروف سياسية مناسبة تفّتفت الذهنيّة الأمنية البحتة للجنرال بن علي، في سياق مواجهته الشرسة لحركة النهضة الاسلامية، عن سياسة "تجفيف المنابع". ولم يقتصر الأمر على الفكر الديني المُسيّس، بل امتدّ ليجرّف الساحتين السياسيّة والثقافيّة. وانتهج النظام سياسية لبرَلَة اقتصاديّة، عمادها تحرير التجارة مع أوروبا. فتعزّزت القيم الاستهلاكيّة مع غزو سلع، كانت تُعدّ من الكماليّات، للأسواق. وكان من مظاهر "الانفتاح"، الذي رأى فيه بعض منظّري النظام فرصة لابعاد الشباب عن السياسة، اكتساح الأصحن اللاقطة أسطح بيوت التونسيين من جميع الشرائح الاجتماعيّة. والى جانب فشلها في الحد من الفواق الاجتماعيّة وفي تحقيق التنمية لكّل المناطق، نتجت عن السياسة "المنفتحة" في الاقتصاد ووسائل التواصل، والمنغلقة في السياسة والثقافة، "آثار جانبيّة" غير منتَظرة. إذ يرى د. عبد اللطيف حنَّاشي، الباحث الاجتماعي المتخصّص في الحركات الاسلامية، انّ محاولة النظام "مصادرة الفضاء العام دفع بالشباب الى الانزواء في فضائهم الخاص، الذي يشكّل البيت جزء مهماً منه". هناك تحوّلت دروس الدعاة المتشدّدين عبر الفضائيات الدينيّة الى مراجع أعاد على أساسها الكثير منهم صياغة فهمهم للعالم والحياة. ويبيّن بحث سوسيولوجي نادر، تناول ملفّات 1208 من المحكومين سابقاً في قضايا السلفيّة الجهاديّة، أنّ 89 في المئة منهم شباب، وأنّ 70 في المئة منهم إمّا عمّال (ذو دخل محدود) أو تلاميذ وطلبة (لا دخل ثابت لهم عموما). ويشير حنّاشي الى انّ أغلب المشاركين في "عمليّة سليمان" أتوا من المناطق الداخليّة الفقيرة. وهو ما أكّده أيضا أبو عياض التونسي (أبرز قادة الجهاديّة السلفيّة الذي يَعترف ضمنياً بارتباطه ب "القاعدة") في مقابلة له قبل سنة مع الصحافي هادي يحمد، عندما زعَم أنّ 2500 جهادي في عهد بن علي كانوا من منطقة سيدي بوزيد، مهد الثورة. وإجمالاً، تُؤكّد الأحداث الواقعة بعد سقوط بن علي حقيقة تركزّ الثقل الديمغرافي للسلفيين في الأحياء الشعبية للعاصمة وفي الجهات الداخليّة المحرومة. وهي المناطق نفسها التي طالما مثّلت معاقل لحركة النهضة أيضاً. إلاّ انّ عوامل جديدة ساهمت في تعزيز الحالة السلفيّة الراهنة. ولعلّ أخطرها تدفّق التمويل الخليجي (السعودي تحديداً) لجمعيات دينيّة. إذ تشير دراسة بعنوان "التونسيّة في تونس: الواقع وآفاق التطوّر"، أعدّها مؤخّرًا ثلاثة باحثين شبّان، الى وجود حوالي 120 جمعيّة اسلاميّة. والأهمّ انّ 24 منها تحمل خلفيّة "سلفيّة علميّة"، فيما تتعامل "ما لا يقلّ عن 10 منها مباشرة مع مؤسّسات وشخصيات رسميّة سعوديّة". كما كشف عبد الفتّاح مورو، أحد القياديين المعتدلين في حركة النهضة، عن وفود دعاة خليجيين متشدّدين لتلقين الشباب التونسي المذهب الحنبلي في دورات تكوينيّة تمتدّ لأشهر، مع التكفّل بمصاريف المتكوّنين. النهضة والسلفيون: اللعب بالنّار أحد أهمّ الأسئلة الراهنة في الساحة السياسية التونسيّة هو عن علاقة السلفيين بحركة النهضة. إذ لا يتردّد الكثير من معارضي هذه الاخيرة في اتّهامها بأنّها تستعمل السلفيين كقوّة رديفة تحاصر بها معارضيها، وتُحرّكها عند الحاجة لالهاء الرأي العام عن قضايا بعينها. أمّا النهضة، فتوّزع اتّهاماتها بين "أزلام النظام البائد"، لوقوفهم المفترض وراء أعمال العنف المنسوبة للسلفيين الجهاديين، و"اليسار المتطرّف" الذي ترى أنّه يستفزّهم من حين لآخر. وإنْ يصعب الجزم بمدى دقّة هذه الاتّهامات، فإنّه يمكن ملاحظة بعض الأمور، أهمّها : التحالف الواضح بين النهضة والتيّارات السلفيّة "العلميّة". فإلى جانب ضمّ نور الدين الخادمي، المحسوب على السلفيين، كوزير للأوقاف، نجحت النهضة ايضا في اقامة تحالف وثيق مع الشيخ السلفي بشير بن حسن (كان في فرنسا قبل الثورة ثمّ عاد الى تونس حيث صار نشطاً جداً)، الذي تتلمذ في السعوديّة على يد مشايخ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة. لم يشهد هذا التحالف سوى هزّات نادرة، لعلّ أبرزها الخلاف الحاد بين الخادمي وحسن العبيدي، الامام الجديد لجامع الزيتونة. وبالتالي يمكن وصف العلاقة الراهنة بين النهضة والمجموعات السلفيّة العلميّة (بما في ذلك "حزب التحرير" برغم اختلافه النظري النسبي مع السلفيين) بتحالف وثيق تهمين عليه الأولى. إلاّ انّ العلاقة الأكثر غموضاً واشكالية هي بين النهضة و"التيّار السلفي الجهادي". إذ لا يتردّد أبو عياض التونسي، في وصفها ب"الهدنة غير المُعلَنة ". ويتميّز الرجل بلهجته السجاليّة الحادّة ضدّ حركة النهضة. فهو يتّهمها بالخضوع ل "السفارة الأميركيّة" وب"إنبطاحها للعلمانيين". كما لا يتردّد، من يُنسَب اليه تدبير اغتيال أحمد شاه مسعود (من كتاب القاضي جان لوي بريجير، المتخصّص في "مكافحة الارهاب" والقريب من المخابرات الفرنسيّة والأمريكيّة)، في اطلاق تهديدات مبطنة لوزير داخليتها، علي العريّض، كلّما وقعت مواجهات بين سلفيين جهاديين وقوّات الأمن. وبالمقابل يمكن ملاحظة التقاء في بعض المواقف بين أبي عياض والنهضة. إذ حمل الأوّل على اتّحاد الشغل، المنظّمة النقابية الأكبر والقريبة حالياً من المعارضة، داعياً الى تأسيس "نقابة اسلاميّة" تنافسه. كما يلاحظ حضور بعض القيادات النهضويّة مؤتمرات الجهاديين من حين لآخر. أمّا العلاقة على الأرض فتتّسم كذلك بالتذبذب. فتواصل صراعهما للسيطرة على المساجد (120 مسجداً من 5000 ما تزال تحت سيطرة السلفيين حسب وزارة الأوقاف) لم يمنع قواعدهما من الالتقاء في التحرّكات المطالبة بالنصّ على "الشريعة" في الدستور أو المحتجّة على "المسّ بالمقدّسات". وكان لافتًا تصريح أبي عياض، مطلع السنة الحالية، أنّ النهضة تعرف "المطلوب منها لترضيته" وأنصاره، في اشارة الى طلبه التصدّي للمسّ المفترض بالدين من "العلمانيين". وقدّمت كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي مؤخّراً، إثر احتجاجات عنيفة على لوحات فنيّة قيل انّها مسيئة للاسلام، مشروع قانون لتجريم المسّ بالمقدّسات الدينيّة. هذه المعطيات قد تسمح بوصف العلاقة ب"محاولة الاحتواء المتبادَل" الحذِر من قبل الطرفين. وختاماً، يصعب التوقّع الدقيق لأفق تطوّر الظاهرة السلفية، خاصّة في ظلّ عدم توضّح طبيعة علاقة مختلف تيّاراتها بالقوى الاقليميّة والدوليّة ذات النفوذ في تونس. كذلك لا يبدو مستقبل علاقة هذه التيّارات بحركة النهضة واضحاً بعد. ففي حين يرى البعض، مثل حنّاشي، أنّ السلفيين سيضعَفون مع الوقت، يتخوّف آخرون من ان يؤدّي توجّههم الى التخطيط المستقبلي وبناء مؤسّساتهم الجمعياتيّة والتعليمية الخاصّة الى ازدياد قوّتهم. لكنّ كلا الرأيين يتّفقان في ربط مستقبل السلفيين بنتيجة حركة النهضة في الانتخابات المقبلة بعد حوالي نصف عام من الآن.