السلفية، ظاهرة جديدة في الحياة الدِّينية والسياسية التونسية، بالرغم من كونها مدرسة عريقة في التاريخ الإسلامي. ولا يكاد يمُر أسبوع أو شهر، حتى يثور جدل في وسائل الإعلام حول أحداث مُتفرِّقة، أبطالها أشخاص يوصفون بالمُتشدِّدين ويصَنَّفون بكونهم من أنصار الجماعات السلفية. فقبل أيام قليلة، هاجموا أحد مقرّات حزب نداء تونس، الذي يقوده الوزير الأول السابق الباجي قايد السبسي، واستولوا على تجهيزاته الإلكترونية وطالبوا بإغلاقه نهائيا. المشكلة مع هؤلاء، تكمُن أساسا في لجوء بعضهم إلى العنف لفرض قناعاتهم أو للتعبير عن وِجهة نظرهم. فمَن هم ؟ وهل هذه ظاهرة عابِرة أم أنها مرشّحة لتُصبح قوة سياسية قادِرة على إرباك الانتقال الديمقراطي في تونس؟ البحث عن ثقافة دينية من خارج الحدود ولِد التيار السلفي في تونس قبل الثورة، وتعود نتوءاته الأولى، إلى أواخر التسعينات من القرن الماضي، عندما أدّت سياسة بن علي الاستئصالية لحركة النهضة ولمختلف أشكال الإسلام السياسي، إلى فراغ ديني عميق. هذا الفراغ، دفع بالتونسيين إلى البحث عن مصادِر توفِّر لهم الحدّ الأدنى من الثقافة الإسلامية من خارج حدود بلادهم، فوجدوها في الفضائيات السلفية القادِمة من مصر ومن دول الخليج، التي بدأ صوتها يرتفع في تلك المرحلة. لكن بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، جنح بعض الشباب المتأثِّرين بالخِطاب السلفي نحو العُنف، وأسَّسوا مجموعة سريا، قريبة من (تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي)، الذي درّب بعض التونسيين بمُعسكراته في الجزائر، وبذلك، هيَّأوا أنفسهم للدخول في مواجهة مسلحة مع نظام بن علي. لكن، تمَّ اكتشاف أمْرهم قبل الأوان وعن طريق الصُّدفة، مما أدّى إلى اندِلاع حادِثة مدينة سليمان الشهيرة، التي قُتِل فيها أبرز عناصر المجموعة. بعد الثورة، استفاد المئات من المساجين الذين حوكموا بموجب قانون مكافحة الإرهاب، من العفو التشريعي العام، وخرجوا إلى الفضاء، بعد أن أزيحت من أمامهم كل العوائق الأمنية والقانونية السابقة، ليبدؤوا الشَّوط الثاني من مغامرتهم. السلفية سلفيات يتَّفق السلفيون في مرجعِيتهم العقائدية والفِقهية، وذلك بالعودة إلى ابن تيمية في الأصول وابن حنبل في منهجية استصدار الأحكام، لكنهم في المقابل، يختلفون في السياسة، وفي كثير من الفروع الفِقهية. وعلى رأس المسائل السياسية الخلافية، الموقف من مسألة الخروج على الحاكم، وهي المسألة التي تمخَّضت عن أزمة الخليج الثانية، عندما استنْجد النظام السعودي بالقوات العسكرية الغربية، للتصدّي لتهديدات صدّام حسين، بعد غزوه للكويت، وهو ما رفضه شقّ من السلفيين السعوديين داخل المملكة وخارجها، لكي يتطوّر موقِفهم من ذلك، وخاصة بعد تحالُف بن لادن مع الظواهري وبقايا تنظيم الجهاد في مصر، ودخولهم في تحالُف إستراتيجي مع حركة طالبان، وتحويل أفغانستان إلى مُنطلَق لشنِّ حرب بلا هوادة ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها من الأنظمة العربية والإسلامية. بناءً عليه، اكتشف التونسيون تدريجيا، أن سلفيِّيهم ينقسمون إلى تيارات مُختلفة. منهم من عُرفوا بالسلفية العِلمية، وهم الذين لا يؤيِّدون مبدأ الدخول في صراع مع السلطة، حتى لو اختلفوا معها ولا يُقرُّون مبدأ اللجوء إلى العنف كوسيلة شرعية للدعوة. هؤلاء، شكّلوا جمعيات وينظمون حاليا دروسا لنشر الفِكر السلفي داخل المساجد وخارجها. لكن السلفيين الأكثر إثارة للجدل في تونس، هُم الذين يُعرفون بالسلفية الجهادية ويتحرّك معظمهم تحت يافطة «أنصار الشريعة « ويقودهم شخص يحمل كنية «أبو عياض»، المعروف لدى الشبكات السلفية الدولية، حيث سبق له أن كان نشِطا بأفغانستان، قبل أن يتم اعتقاله بتركيا، بحُكم أن اسمه كان متداولا في سجلاّت المخابرات الأمريكية. أما اليوم، فهو يُعتبر من بين الرموز المِحورية للتيار السلفي، المعادي للائتلاف الحاكم، وبالخصوص حركة النهضة. حركة النهضة في الفخ السلفي أوقع السلفيون، وبالخصوص أكثرهم تشدّدا وميلا للعنف، حركة النهضة في مأزق لم تكن تتوقّعه من قبل. كان السيد راشد الغنوشي يرى في انتشار ظاهرة التديُّن الشبابي في تونس مع أواخر التسعينات وبدايات الألفية الثانية «صحوة دينة ثانية»، بعد الصحوة الأولى، التي كان هو أحد مؤسسيها الرئيسيِّين في مطلع السبعينات. واستمر موقفه هذا بعد الثورة، حيث حاول أن يحتوي الظاهرة بشكل هادِئ، رغم ضغوط وسائل الإعلام، إذ بقي رافضا إدانة التيار، مفضّلا الحوار مع قادته، خاصة قبل الانتخابات، وحتى بعدها، داعيا إلى نقل السلفيين من «صندوق الذخيرة إلى صندوق الديمقراطية»، على حد تعبيره. وقد أسفرت تلك السياسة عن الاعتراف بثلاثة أحزاب سلفية من قِبَل ما يسمّى بالسلفية السياسية أو الإصلاحية، لكن هذه الأحزاب لا تزال في بداية طريقها، كما أن تأثيرها على الظاهرة، بقي محدودا جدا، ولم يؤدِّ إلى اختراق الظاهرة أو إضعافها. ثلاث رجّات فاجأت الغنوشي تمثَّلت الرجّة الأولى، في حادثة قرية سيدي علي بن خليفة، عندما اكتشفت الأجهزة الأمنية عملية تهريب أسلحة من قِبل مجموعة من السلفيين، تمّ قتل اثنين منهما. وجاء في تصريحات وزير الداخلية يومها، أن من أهداف المجموعة التي تقِف وراء أولئك الشباب، إقامة إمارة إسلامية، أي أنها تشكِّك في الشرعية الدِّينية لحركة النهضة. ثم كانت الرجَّة الثانية، عندما شن «أبو عياض» هجوما عنيفا على وزير الداخلية وأحد الكوادر الرئيسية لحركة النهضة علي العريض، متحدِّيا له بلُغة غير مسبوقة، ومعلنا في حوار صحفي بما يفيد بأنه وجماعته يتخذون من تنظيم القاعدة وفِكرها، مرجعية أساسية. أما الرجّة الثالثة، فقد جاءت مع الاعتداء الذي تعرّض له الشيخ عبد الفتاح مورو، على يد أحد أنصار هذا التيار، الذي قذفه بكأس كاد أن يخلِّف له أضرارا جسيمة، وهو ما أدانه الغنوشي بشدّة، لكنه في المؤتمر الصحفي، الذي عقدته قيادة حركة النهضة مؤخرا، رفض تجريم السلفيين كتيار أو جماعة، قائلا بأنه «لا يمكن تجريم مجموعات بأكملها بسبب تصرّف بعض الأشخاص، مثلما كان يفعل النظام السابق». وألَحّ بالخصوص، على عدم وصف هؤلاء بالسلفيين، لأن «السلفيين في الحقيقة، هُم أهل السُنة الذين يتَّبعون السلف الصالح». أما مَن يستعمِل العنف «ينبغي وصفه بالمتشدِّد أو المتطرّف»، وهو ما جعل عبد الفتاح مورو يتدخّل في نفس المؤتمر الصحفي، بصفته نائب رئيس الحركة وممثله الشخصي، ليؤكِّد على أن «ظهور مجموعات تكفيرية في تونس، أمر مرفوض ومن غير المسكوت عنه». وأضاف «لقد تأخرت الحكومة في معالجة مسألة التكفير ولا مبرِّر لهذا التأخير، ولتعلَموا بأن الدولة أو حركة النهضة، إذا قبلت أن يستشري فينا الفكر التكفيري، فإنه لا موجب لوجودها». ليس صوت مورو هو النَّشاز الوحيد داخل الحركة، وإنما هناك أصوات أخرى عديدة ارتفعت، مُطالبة بموقف حازم في التعامل مع مجموعات التشدّد الدِّيني، من بينهم وزراء الداخلية والعدل وحقوق الإنسان. لكن ذلك لم يمنع نشطاء المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، من المطالبة بتفعيل ذلك على أرض الواقع والعمل جدِّيا على حماية حرية الفِكر والتعبير والإبداع والسلامة الجسدية، للأشخاص المختلفين مع هذه المجموعات التكفيرية. حرب بالوكالة كشف الهجوم المسلَّح على مهرجان القُدس بمدينة بنزرت، الذي استضاف السجين اللبناني السابق لدى إسرائيل، سمير قنطار، وقبْله حادثة تعطيل سهرة الإنشاد الرّوحي بالقيروان، بقيادة الفنان المبدع لطفي بوشناق، عن رغبة السلفيين الشديدة في مقاومة عدُو ثالث لهم ? إلى جانب الفنانين والمثقفين العِلمانيين - يتمثل في الشيعة من التونسيين الذين يصِفونهم بالروافض، في محاولة فقهية قديمة لإخراجهم من دائرة الإسلام، استنادا إلى فتاوى سابقة صدرت في ظروف تاريخية مغايِرة، موقعة من الشيخ ابن تيمية، وهذه معركة أخرى مرشَّحة لكي تبقى مفتوحة، وقد تحتدّ خلال المرحلة القادمة. معركة يُصرّ السلفيون وبعض غُلاة الشيعة على إعادة إحيائها، بعد أن هدأت في تونس منذ قرون، على إثر انهيار الدولة الفاطمية، وقيام بعض الأطراف السياسية والدِّينية باستِئصال أتباع المذهب الشِّيعي من البلاد، عن طريق التصفية الجسدية الجماعية، كردِّ فعلٍ على قتل العديد من شيوخ المالِكية في مطلع تأسيس هذه الدولة، أي يوجد حاليا تمهيد لتغذِية حرب بالوكالة على الأرض التونسية، تكون انعِكاسا للمعركة الإقليمية الدائرة منذ سنوات بين وإيران والسعودية. وفي هذا السياق، دعا أحد رموز السلفية إلى ترحيل كلّ التونسيين الذين تشيَّعوا خلال العشرين سنة الماضية، والذين يُعدّون بالآلاف. تونس في قلب المخطَّطات «السلفية» من خصائص هذه المجموعات، نموّها العددي المتزايِد وانتشارها بالخصوص في الأحياء الفقيرة والمُدن المهمَّشة، وهي موجودة حاليا في كل المدن والقرى التونسية. كما أنها تسعى إلى التنظيم في صِيَغ متعدِّدة، مثل الجمعيات، وبالرغم من أن حرية التنظيم أصبحت مكفولة في تونس، إلا أن بعض هذه الجماعات، لا تزال تجمع بين العلَنية والسرية، وهو ما يُثير الشكوك في نوايا بعضها وأهدافها وارتباطاتها. ولا يمكن فصل ظاهرة السلفية الجهادية في تونس عن الامتدادات الإقليمية والدولية لهذه الظاهرة. فما يجري في ليبيا، لا يمكن فصله عمّا يحدث في الجزائر وموريتانيا وسوريا والصومال واليمن ولبنان. كما أن توجُّه الحركات المسلَّحة الموالية للقاعدة، نحو إقامة دولة «إسلامية» في شمال مالي، من شأنه أن يُثير القلق في تونس، وذلك لسببين على الأقل: الأول، أن هذه «الدويلة» ستكون مُطلّة مباشرة على الجنوب التونسي. وثانيا، بحكم أن عددا لا يُستهان به من المقاتلين في مالي، يحملون الجنسية التونسية، مثلما هو الشأن في دول عديدة، مثل سوريا واليمن. وذلك يعني، أن تونس مرشَّحة في هذه المرحلة على الأقل، بأن تُصبح ممرّا هامّا لتهريب الأسلحة القادِمة من ليبيا، ومُصدِّرة للمقاتلين، وأن تكون عُرضة لأية تداعِيات أمنية مُحتملة، في صورة اشتداد الصِّراع الإقليمي والدولي في منطقة الصحراء، المحيطة بمالي. ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن الظاهرة السلفية بكل فروعها، ليست مسألة عرضية أو مؤقتة، بقدر ما هي حالة دينية وسياسية، مرشَّحة لمزيد من التمدّد والتعقيد، وهو ما يجعل منها إحدى التحدِّيات الرئيسية للانتقال الديمقراطي في تونس، سيضطرّ الجميع على التعامل معها أو مواجهتها، سواء أكانت حركة النهضة أم أي طرف سياسي آخر قد تدفع به الانتخابات القادِمة إلى مواقع السلطة.