ربما هي المرة الأولى في تاريخ المغرب السياسي الحديث التي يصبح فيها "تقنوقراطي" مرموق حديث العهد بالسياسة وصغير السن نسبيا، ظل بعيدا عن صفوفها الأولى، أمينا عاما لحزب قيل ما قيل عن أسباب ميلاده ونموه السريع، ولكنه بات معطى سياسيا لا يجوز نكرانه وحقيقة لا يمكن القفز عليها في المشهد الحزبي المغربي الراهن. لم يشكل انتخاب، مصطفى الباكوري،أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة، وهو خريج القناطر والجسور من فرنسا، مفاجئا لأحد إذ ظل اسمه متداولا على مدى الأسابيع الأخيرة في بورصة" الحزب،كسهم رابح منذ الجولة الأولى بمجرد فتح جلسة الحصص. وفعلا فقد حصل الرجل على نسبة أصوات عالية،في حزب يقال إنه يضم في داخله تناقضات وانتماءات ومشارب فكرية متباينة موزعة بين اليسار المتطرف واليمين التقليدي، فضلا عن طموحات شخصية، يصعب جمعها والتوفيق بينها في بوتقة واحدة تجلت في كم الأصوات التي جمعها" الباكوري" بقدرة قادر، بعد أن رشح إلى جانبه أرنبي سباق. يمكن التعامل مع النتائج التي أسفر عنها المؤتمر الثاني للأصالة والمعاصرة، في مجملها على اعتبار أنها شكل من أشكال الحداثة الحزبية في المغرب. فقد انسحب من الميدان الأمين العام السابق محمد الشيخ بيد لله، ورئيس المجلس الوطني، حسن بنعدي، وهو ثنائي كان غريبا في حد ذاته. ولا ضرورة للتفسير أكثر. إنه التداول على الزعامة والقيادة التي تحاول بعض الأحزاب تجريبه على استحياء خوفا من اندلاع الصراعات. جرى التغيير في "الأصالة والمعاصرة" بسلاسة ظاهرية، وكأن قوة خفية وناعمة حركت الخيوط ورسمت الأدوار المحددة للاعبين والفاعلين،وفق مخطط مضبوط، فرض على الجميع أن يقنعوا بما رسم لهم من مهام . لذلك كان من الطبيعي أن لا تتسرب أخبار عن صراعات محتدمة على الزعامة وعلى الخط الإيديولوجي للحزب في الفترة الراهنة والمستقبلة وما هي ملامح التموقع الجديد في صف المعارضة .تلك قضايا يمكن إخفاؤها أو إغراقها في بحر قواميس الخطاب السياسي المتاح. هي كذلك أسئلة مؤجلة لا داعي لإثارتها في الظرف الحالي، كون الأسبقية بالنسبة لأصدقاء الوزير السابق، فؤاد عالي الهمة،تتمثل في المحافظة على الهيكل الإداري والتنظيمي للحزب وإثبات الجدارة للاستمرار في الحياة السياسية. يصعب توقع ما سيحققه "الباكوري" لحزب الأصالة والمعاصرة. سجله السياسي المعلن أبيض أو بكر كما يقال. وباستثناء نشاط طلابي فرنسا لم يفخر الرجل به، عاد بعده إلى المغرب ليجد نفسه وسط رجال المال والأعمال والمصارف، وليس رفقة المناضلين اليساريين الذين قاسمهم هوى الأفكار الاشتراكية اليسارية . وبالتالي فلا توجد سوابق في سجل "الباكوري" يمكن البناء عليها والتنبؤ بملامح الصورة التنظيمية التي سيضفيها على الأصالة والمعاصرة. ولعل السؤال الأكبر هو لماذا تم اللجوء إلى خدماته وهو المهندس الذي يوصف بالناجح والماهر، مع أن البلد في حاجة إلى كفاءته لإدارة أكبر ورش للطاقة في المستقبل؟ كيف سيوفق المهندس الذي لم يدخل بعد العقد الخامس، بين أعباء وظيفته على رأس الجهاز المديري لإدارة الطاقة المتجددة الذي يتقاضى عنه رتبا مجزيا مستحقا،و بين قيادة حزب تتقاذفه الألسنة عن حق أو باطل، بالسوء؟ كيف سيدبر الخلافات والصراعات الداخلية وينسج التحالفات مع أطراف المعارضة حتى يكون صوت الحزب مسموعا وفاعلا ومؤثرا وخاصة وأنه سيواجه بعد أشهر امتحان الاستحقاقات الجماعية التي حصل فيها على المرتبة الأولى؟ أية أدوات سحرية يخفيها "الباكوري" للمحافظة على وحدة الحزب وترسيخ الانتساب إلى معسكر الحداثة الذي يتعارض مع الاحتماء بمظلة الدولة؟ الواقع أن انتخاب الباكوري، لا يخرج عن احتماليين. إما أن الاستعانة بخدماته أملتها التطورات السياسية والاجتماعية التي تعرفها البلاد والمرشحة لمزيد من التصعيد والاحتقان، الأمر الذي استلزم اللجوء إلى عقل علمي هادئ وخبرة مدبر، طلب منه أن يحول تركة المؤسس "فؤاد عالي الهمة " إلى مقاولة سياسية عصرية وناجعة ، تحكمها الأساليب العقلانية في التدبير والتخطيط، ليتحول الحزب بفضلها إلى احتياطي سسياسي،ينمو بسرعة معقولة، يمكن اللجوء إليه عند الاقتضاء والضرورة. ويتوقف نجاح هذا الاحتمال على إطلاق يد" الباكوري" وسلطته في الحزب، بحيث يختار من يشاء من مساعديه على صعيد القيادة أولا،ممن يثق في كفاءتهم ونقاء سيرتهم، قبل أن ينتقل إلى المناطق التي يتواجد فيها الحزب خارج الرباط، لترميم ما خلفه الحراك الاجتماعي من انهيارات أصابت البناء في الصميم . ويعني هذا السيناريو أن المهندس الأمين العام، قد هيأ "برنامجه" المعلوماتي "لوجيسييل" وسيدخل معطيات الحزب في قالبه، ليتم التحكم عن بعد بمجرد لمس الأزرار الفائقة الاستجابة. هذا الاحتمال إذا صح، ستواجهه إرادة مضادة وقوى متمركزة ونافذة في الحزب، دخلت إليه على أساس أنه رديف للحكم، لا يمكنها العيش بعيدا عن خيمة السلطة الوارفة الظلال، فقد اعتادت العمل بالأساليب العتيقة بما فيها الاستفادة من كرمها وعطفها. وهذا واقع ولى جزئيا مع وجود العدالة والتنمية على رأس الحكومة. ستتضح الصورة بعد الإعلان عن أسماء قيادة الحزب، التي سينتخبها في اجتماع لم يحدد موعده، أعضاء المجلس الوطني الذي أصبح على رأسه مناضل يساري "حكيم بنشماش" قديم ذاق مرارة السجن بسبب معتقداته اليسارية الساعية خلال فترة النضال إلى قيام دولة الكادحين والفلاحين،بعد نجاح الثورة على النظام القائم. من المؤكد أن جميع التيارات والحساسيات سيكون لها نصيب في الجهاز القيادي للأصالة والمعاصرة، ولكن السؤال لمن ستكون الغلبة وكيف سيمكن التعايش بينها وإلى أي حد ومدى سيتمكن الأمين العام الجديد من فرض الطاعة والانضباط في حزب يضم عددا من محترفي السياسة العسيرين على الترويض؟ هناك إشكال آخر، يمكن أن يواجهه الأمين العام، يتعلق بماضيه الإداري على رأس صندوق الإيداع والتدبير لمدة ثماني سنوات، انتهت بإعفائه بواسطة رسالة نصية قصيرة "س مس" توصل بها ذات مساء يوم سبت وهو يتابع نتائج الانتخابات الجماعية في مقر الأصالة والمعاصرة. قرأ الرجل الرسالة وأعادها ولما تأكد من مصدرها، انسحب مذهولا من هول الصدمة. كيف أطيح بمن تربع على الإمبراطورية المالية للدولة وهو الذي ضمن المساندة والتأييد والعطف والرضى من قوة علوية. هل تمت إزاحة الباكوري من "السي دي جي" في أجواء صراعات خفية بين المقربين من دائرة القرار في البلاد وبالتالي فإنه ضحية قرار متسرع، أم أنه حسبما راج تسبب في خسائر كبرى من مال المتقاعدين واليتامى، نتيجة انخراطه في استثمارات غير محسوبة العواقب؟ التخوفات واردة أن ارتفاع أصوات قد نطالب بإجراء افتحاص أو تحقيق فيما جرى في صناديق الذراع المالية للمملكة، لبراءة الذمة للأمين العام أو محاسبة. في جميع الأحوال فإنه سيعرض نفسه للنقد الشديد وقد أصبح شخصية عامة. يوجد رأي آخر أكثر غرابة مؤداه أن شخصيات مؤثرة في الدولة، نصحت بفك الارتباط مع الأصالة والمعاصرة، والقذف به في بحر السياسة، يصارع أمواجها دون طوق نجاة منها، لينتزع حقه في العيش، أو يغرق كما غرق الذين من قبله.