سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اتهمني سيف الإسلام بأنني من الخائفين عندما أبلغته بأنني تلقيت تهديدات من والده الصواني ل «الشرق الأوسط»: القذافي أصيب بالجنون بعد أن سربنا مسودة الدستور.. وسيف الإسلام طلب مني سحبها (3 3)
يتابع الدكتور يوسف محمد الصواني، المدير التنفيذي السابق المستقيل لمؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية، التي ترأسها سيف الإسلام، النجل الثاني للعقيد الليبي الهارب، شهادته ل«الشرق الأوسط»، في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة.. ويلقي المزيد من الضوء على شخصية سيف الإسلام ومشاريعه وحقيقة ما تردد عن طموحاته في إحداث «تغيير» في بلاده، ووضع دستور انتهى إلى اعتبار القذافي الأب «القائد التاريخي الذي لا يتكرر، وملهم الشعب وباني ليبيا الحديثة».. ثم يتناول علاقته بمحمود جبريل، المسؤول في مجلس التخطيط آنذاك، ورئيس المكتب التنفيذي في المجلس الليبي الانتقالي الحالي، ويتحدث عن ظروف استقالته من مؤسسة القذافي، بعد تلقيه تهديدات، وبدايات خروجه على النظام، وموقفه من ثورة 17 فبراير (شباط) منذ بدايتها، ورؤيته للمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد اليوم. * كيف ومتى أطلقتم فكرة مبادرة المنابر السياسية؟ - في أواخر عام 2007 جرى حوار بيني وبين سيف الإسلام القذافي وعبد الله عثمان وآخرين، حول إمكانية القيام بمبادرة تفسح المجال أمام درجة من التعددية السياسية. كان من الواضح أنه يريد أحداث حراك ذي طابع سياسي لا يماثل الأحزاب تماما، وإن كان يحقق بعض دورها في العملية السياسية. كان سيف مهووسا بالرغبة في خلخلة ميزان القوة التقليدي، وإنهاء احتكار اللجان الثورية للسياسة. لذلك كان تفكيره يتمحور حول إيجاد روافع جديدة في العمل السياسي تفك الاحتكار وتكون مرتبطة بأجندته وطموحه السياسي، وتفيد في لعبة التفاوض على السلطة. كانت المهمة هي محاولة إلباس الفكرة لباسا فكريا وتنظيميا لا يثير غضب القذافي الأب وعداوة اللجان الثورية. لذلك عملت أنا وآخرون على التمهيد للموضوع بعقد سلسلة لقاءات مع ممثلي الحراك السياسي والمدني، بمن فيهم اللجان الثورية، لسبر غور وآفاق المسألة لديهم. عقدنا سلسلة لقاءات وكانت الفكرة التي قدمناه هي أن المنابر ليست بديلا للمؤتمرات الشعبية، ولا تستهدف إلغاءها. واعتقدت وقتها، أنه يمكن تقديم مقترح لمقاربة جديدة. هذه المقاربة تنطلق من الوعي بمشكلات الواقع والحاجة إلى القيام أولا بسلسلة تدخلات. ذلك كان ضروري للمزيد من إنضاج التجربة وعقلنتها. * متى اختمرت لديكم فكرة مبادرة مركز الديمقراطية؟ - كان لفشل عدد من المبادرات المتعلقة بالإصلاح السياسي الأثر في قيادة التفكير نحو تأسيس مركز للديمقراطية يتولى تجذير الفكرة وترسيخها في الثقافة كمنظمة غير حكومية، من خلال الدراسات والبحوث وبرامج التربية المدنية. كانت هذه الفكرة أضعف حلقات سلسلة التغيير السياسي التي أمكن التفكير فيها. كان التحدي هو إقامة هذا المركز بما لا يثير حفيظة آيديولوجية أيضا. لذلك قمت بصياغة ورقة المفهوم بشكل لا يثير العداء. كانت الورقة تنطلق من إيمان بأهمية الديمقراطية قيمة وممارسة وتجسيدها ثقافة وسلوكا. تمت الدعوة لاجتماع تأسيس حضره أكثر من عشرين شخصا من مدن ليبية مختلفة بطرابلس، في أوائل ديسمبر (كانون الأول) عام 2007 للدراسة والإعلان. واتفق المشاركون على تأسيس مركز بحثي ليبي مستقل يسمى مركز الديمقراطية يُعنى بإجراء البحوث والدراسات التي تهدف إلى تعميق مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون وتطبيقها العملي في ليبيا، وتطوير المؤسسات السياسية بما يحقق هذه الأهداف. * كيف حصلتم على الموافقات المطلوبة لبدء العمل؟ - بتدخل مباشر من سيف الإسلام القذافي، وأثناء وجود والده خارج البلاد تمكننا من الحصول على شهادة التسجيل أو الترخيص من السلطة المختصة، بعد جدال مع الأمن الداخلي الذي اعترض على عضوية عدد غير قليل من المؤسسين. لم نتمكن حتى من عقد الاجتماع الأول، إذ قررت السلطة بتعليمات مباشرة من القذافي، إلغاء الترخيص. لقد ذهب القذافي إلى أبعد من ذلك بأن أرسل تهديدات بأن من يمارس أي عمل من هذا النوع سيعرض نفسه لأشد العقاب. * من هددك؟ وكيف؟ - كنت في زيارة لبريطانيا، وذات صباح رن جرس هاتفي، وكان المتحدث على الطرف الآخر بشير صالح، السكرتير الخاص للقذافي بمكتب معلوماته. كانت رسالة القذافي التي نقلها لي بشير، هي أن أقطع أي صلة بالمركز، وأن أنسحب من عضويته كيلا أعرض نفسي للاعتداء. كان هذا أقوى تحذير على الإطلاق تلقيته في حياتي؛ إذ جاء من القذافي نفسه، وجدتني مضطرا للعودة بسرعة وقمت بإبلاغ سيف الإسلام بالأمر. غير أنني فوجئت به يقول لي إنني ضمن الخائفين، وإننا لن نستطيع أن نصل للديمقراطية أو لأهدافنا، قلت حينها إنه إذا كان التهديد من الأب فليس هناك من يملك الرد سوى الابن. لم يفعل سيف الإسلام شيئا وذهب للخارج ليغيب فترة، يعود بعدها ليبدأ في مبادرة جديدة. شخصيا، جاءني صالح عبد السلام بورقة تحوي رسالة موجهة للقذافي من ابنه سيف. كانت الرسالة تشير إلى واقعة تهديدي بصفتي مديرا لمؤسسة القذافي ومن مؤسسي مركز الديمقراطية. لم يقل سيف الإسلام في رسالته إلى أبيه شيئا عن المركز ولا عن أهدافه، ولم يكلف نفسه عناء الدفاع حتى عن فكرته. * لماذا؟ - بالنسبة لي، كانت حقيقة مجرد أن سيف الإسلام يخاطب والده عن طريق رسالة إلى مكتبه شديدة الوقع على نفسي، وأيقظت فيها التساؤل المتواصل عن كنه العلاقة بينهما، وهل نحن أمام لعبة أم أمام مواجهة غير متكافئة. * فهمت أن سيف الإسلام طرح في هذه الفترة فكرة الدستور مرة أخرى. - نعم، ظل سيف الإسلام يلعب بورقة الدستور حتى بعد أن قررت اللجنة المشكلة بالمؤسسة التوقف عن العمل. أصبحت الوثيقة ملكا لسيف الإسلام القذافي الذي كان في كل فترة يطلب مني إدخال تعديلات عليها تتناسب مع آخر ما قد يكون قرأه أو سمعه. خضعت الوثيقة لعشرات التعديلات غير المتجانسة وغير المترابطة. في أوائل صيف 2008 طلب مني سيف الإسلام أن أسرب نص الوثيقة لمواقع إعلامية على شبكة المعلومات، حاولت إثناءه عن عزمه، ولكنه بدا ملحا ومصرا. * لماذا التسريب بدلا من النشر الطبيعي والمعتاد؟ - كان واضحا لي أنه يريد استخدام الورقة مجددا لأغراض شخصية، لذلك لم أقم بتسريب العمل الأصلي الذي أنجزته اللجنة، بل النسخة التي أمطرها هو بوابل من تعديلاته. كان أسوأ ما في المشروع مادته الرابعة التي نصت على أن القذافي هو القائد التاريخي الذي لا يتكرر، وأنه ملهم الشعب والتحولات، وباني ليبيا الحديثة. كانت هذه أسوأ مواد «الدستور» على الإطلاق، كونها تؤسس لقيادة روحية للقذافي تجعله خارج الدستور ومؤسسات الدولة الرسمية. كان واضحا أن مادة كهذه تطيح بأي طموح للديمقراطية، ولذلك كانت بمثابة إهانة لليبيين عموما، ولكل من حلم بالإصلاح. لكن الأسوأ من ذلك هو أن القذافي الأب أصيب بالجنون لمجرد نشر الوثيقة، ولكونها تشير إليه بصفات معينة، فهو في تقديره، دائما فوق كل القيم. جرى التهديد مرة أخرى، ووجدت سيف الإسلام يطلب مني وبشدة بأن أسحب الوثيقة التي كانت وقتها جزءا من فضاء المعلومات. * وكيف تصرفت في هذا المأزق؟ - كل ما أمكنني فعله هو ترتيب سحبها من مواقع مرتبطة بالمؤسسة فقط، ولتبق هذه الوثيقة شاهدا وحيدا على المشروع وعلى صلته بأي مزاعم للديمقراطية والإصلاح. * هل دفعتك هذه الفترة من الإحباط لطلب الاستقالة؟ - كان للإحباط الشديد الذي شعرت به أثناء عملي فيما كان يعرف بمبادرات الإصلاح السياسي أثره النفسي البالغ علي وعلى المحيطين بي من الأصدقاء والمشتغلين بالموضوع. غير أنني أدركت أن المسألة برمتها غير ممكنة لأسباب كثيرة. * يبدو أخيرا أنك اكتشفت أنه لا فارق بين القذافي الأب والابن؟ - عرفت عن شخصية سيف الإسلام وقناعاته واهتماماته الكثير، بدرجة جعلتني، أحيانا، لا أشعر بفرق بين الابن وأبيه. لم أعد آبه لما كان يبرز على السطح أو تحته من خلافات أو صراعات بين الإخوة أو مع قوى أخرى. تأكد لي أن المسألة هي صراع من أجل أن يحوز كل طرف على رضا ومباركة الوالد، وأن يسهم ذلك في رفع أسهم وفرص الفائز لنيل الحكم عند اختفاء الوالد أو قراره بالتنحي. اعتبر الوالد دائما أنه الأكثر ذكاء بإدارته لأبنائه ولمصير البلد بهذه الطريقة، ويبدو أنه لم يكتشف خطأه حتى اليوم. * هنا أتذكر أن نجل القذافي هدد بالاستقالة وسافر إلى بريطانيا؟ - كانت فكرة أن سيف الإسلام القذافي لا يتمتع بالعمق أو بالمثابرة، وأنه كان يستخدم المبادرات للمفاوضة مع الآخرين بدأت تسيطر علي تماما. كانت حادثة إعلان سيف الإسلام الاستقالة والابتعاد عن السياسة، دليلا آخر عزز من قناعتي بأنه لا فائدة أو أمل يرجى، وأن علي أن ألتفت لشأني وأغادر المؤسسة. * هذا وجه آخر غير معروف عن سيف الإسلام! - نعم، لقد كان سيف الإسلام بعد استقالته المناوراتية أقرب إلى السلطة والحكم أكثر من أي وقت مضى، وكان يصدر تعليماته للوزراء ويكيل لهم السباب والشتائم أحيانا. كان ينسق مع رئيس الحكومة وخاصة فيما يتعلق بالمشاريع والعقود والاستثمارات. لم تكن هناك شفافية أو محاسبة تذكر، وفي كثير من الحالات ضاعت المصلحة الوطنية في سياقات غير قانونية وغير شفافة أو ديمقراطية. * في هذه الفترة تعززت علاقتك مع الدكتور محمود جبريل، رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الآن؟ - نعم، لقد قادني العمل مع د. محمود جبريل في المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي، في مسائل الحوكمة والحكم المحلي وبناء القدرات، إلى تأكيد ما تكون لدي من قناعات بأنه لا جدوى من الاستمرار، علاوة على أنني كنت دائما أشعر بالغربة وسط جماعة سيف الإسلام، ولم أكن يوما محسوبا عندهم واحدا منهم. حواراتي المتوالية مع د. جبريل أماطت اللثام عن حقائق أخرى عززت من صدق فهمي للأوضاع والمستقبل أيضا. * يبدو أنك هنا فكرت بالاستقالة والابتعاد. - تماما، أصبحت أفكر جديا في الاستقالة من العمل في المؤسسة والعودة تماما للتدريس الجامعي والبحث العلمي. اتخذت قراري بالخصوص وأصبحت لا مباليا، وطلبت إعفائي أكثر من مرة. كنت في كل مرة أزداد إصرارا على ذلك، على الرغم من محاولة من يحيطون بسيف الإسلام إغرائي بشتى الوسائل. * عندما بدأت ثورة تونس ثم مصر كيف كان موقف نجل القذافي؟ - ما إن بدت تباشير الربيع العربي انطلاقا من تونس، حتى بدا سيف الإسلامي القذافي في استدعائي في جلسات حوار متكررة. عندما اندلعت الثورة في تونس تحاورنا، وكان رأيي أنها تمثل جرس إنذار للجميع من دون استثناء، وأن على النظام في ليبيا أن يتدارك المسائل المعلقة قبل فوات الأوان. كان سيف الإسلام يقول إن الثورة ستقتلع النظم الهشة، وربما كانت تلك إشارة إلى أن نظام القذافي أقوى من أعاصير الثورة، غير أن ما قاله الأب عن الثورة والشعب التونسي كان كارثيا بجميع المقاييس. شعر سيف الإسلام بوطأة ما قاله، وربما ما كان يفعله أبوه في تونس؟ أراد توجيه النصح لوالده وإخوته لكن ذلك لم يسفر عن شيء، خاصة أن القذافي في خطاب ألقاه في ذكرى المولد النبوي، اكتفى بتجاهل ثورة تونس تماما. لم تفلح محاولات سيف الإسلام ترقيع خطأ أبيه، وحتى محاولته استغلال علاقته بحركة النهضة ورئيسها، راشد الغنوشي، لم تفلح عندما صرح الأخير مستهجنا موقف القذافي. * متى اتخذت قرارك النهائي بالاستقالة؟ - كان يوم 16 فبراير (شباط) حاسما للغاية؛ كنت على اتصال بأصدقائي في بنغازي، الذين كانوا ينقلون لي صورة دقيقة عما يجري هناك. جلست مساء ذلك اليوم مع سيف الإسلام القذافي، وكنت في قرارة نفسي أقول: ليكن هذا آخر لقاء. جرى الحوار حول ليبيا وحول الثورة المقبلة، لم يكن سيف الإسلام يدرك تماما الذي يجري أو لم يكن يرغب في إدراكه. بذلت كل جهدي لأبين الحاجة إلى خطوات مباشرة، أو أن عليه إعلان إخلاء ذمته من النظام. ضغطت عليه لمناقشة الأمر مع والده وإخوته؛ فهم أصحاب القرار، وأمام إلحاحي، ضرب بقبضته ثلاث مرات على الطاولة التي أمامه، قائلا إن والده لا يرغب في أي إصلاح، ولا يريد أن يقدم أي تنازل للشعب. حينها أيقنت حدود ما أمامي من فرص، وانتهى الحوار الذي حضر جانبا منه الشيخ علي الصلابي. خرجت لأجد بالغرفة المقابلة كلا من عبد الرحمن الكرفاخ وصالح عبد السلام. كانا يتناقشان حول ما يمكن أن يحصل وما الذي يمكن عمله، وجدت أنهما يتحدثان بلغة رجال الأمن، وليس مساعدي «قائد مشوار الإصلاح». قلت لهم مستغربا: لماذا تفكرون في القيام بالدفاع عن النظام؟ استغربوا الأمر، فأجبت بأنهم يحملون سيف الإسلام وزر أخطاء النظام، وأن من ارتكب الأخطاء يتحمل مسؤوليتها. لم يوافق حديثي هوى الرجلين اللذين كانا يتداولان أمر توفير زي وقبعات صفراء وغير ذلك. وقتها لم ألقِ للأمر اهتماما، إلا أنني تبينت بعد اندلاع الثورة أنهم كانوا وراء أصحاب القبعات الصفر، الذين تحملوا مسؤولية إلحاق الأذى بالمتظاهرين في بنغازي. بدأت تتضح أمامي معالم صورة جديدة لسيف الإسلام ومعسكره. إنها الحقيقة الدامغة. لقد كانوا يسعون لوأد الثورة في مهدها. * ما الذي طرحه سيف الإسلام في هذه اللحظات التاريخية الحرجة؟ - أراد أن يتم إعداد مذكرات يوقع عليها أعداد كبيرة من الناس تطلب من القذافي اعتماد مبادراته؟ فوجئت بالطلب وأعربت عن موقفي الرافض. قلت له إن المطلوب هو اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة من القذافي نفسه لكي لا يغرق الجميع. تدخل صالح عبد السلام، كعادته الدائمة في تنفيذ كل ما يطلبه سيف الإسلام القذافي، ووعد بإنجاز المهمة على الفور. قام سيف الإسلام بإبلاغي بأن أعضاء أمانة مؤتمر الشعب العام في طريقهم إليه، وأن علي الحضور لأعرض أمامهم الحزمة المطلوبة من إجراءات للإصلاح. انتابني في البداية قدر من الارتياح، وأحسست أن ذلك قد يؤذن بتساهل القذافي مع مطالب الشعب، غير أنني كنت واهما، بعد برهة قصيرة استقبل سيف الإسلام اتصالا هاتفيا أخذه بعيدا عنا ليخبرني بأن علي الذهاب للقاء أمانة مؤتمر الشعب العام.. بدا واضحا أن شيئا لن يحدث، وأنه لا مجال لأي تغيير أو إصلاح أو ما شابه من إجراءات. قلت له إن هؤلاء ليسوا سوى موظفين مثلي ولا يملكون شيئا، وإنه لا معنى للحوار معهم، وإن الأمر عائلي بالنسبة له في المقام الأول. أبلغته أن الأمر يحتاج لقرارات سريعة حاسمة وعاجلة، وانتهى الحوار عند هذا الحد لأبلغه أن يدعني وشأني. * وماذا فعلت أنت؟ - خرجت من المكان لا ألوي على شيء سوى الاستقالة الفورية. عدت للبيت، وأبلغت زوجتي وأطفالي بأن يستعدوا في الغد للانتقال إلى سكن العائلة بمسقط رأسي بالزهراء ومنطقة الصواونة، التي تبعد عن طرابلس نحو 40 كيلومترا في الجنوب الغربي. شرحت الأمر لزوجتي وأولادي البالغين باختصار، منهيا إليهم عزمي القاطع على فك ارتباطي بسيف الإسلام ومؤسسته. كنت دائما أقول لأفراد أسرتي أن يتجنبوا أي مظاهر أو سلوكيات تجعل الناس تضعنا في خانة زبانية النظام، الذين كانوا ينظرون إلي على أنني طابور خامس في أحسن الأحوال. * سمعت عن صدامك مع أتباع القذافي؛ كيف؟ ولماذا؟ - حين بدأت الأخبار تتوارد عن أعمال حرق وتدمير لمراكز الأمن والمثابات الثورية والمؤتمرات وغيرها، تكلم حسني الوحيشي، ووصف من يقوم بذلك بنعوت غير لائقة، فرددت عليه مطالبا باحترام الشعب، وقلت له: «أنت من المفترض المسؤول عن حقوق الإنسان، لكن كلامك هذا يجعلني أجزم بأن دراستك للقانون كانت بلا معنى». ثم جرى حوار بيني وإبراهيم أبجاد، الذي كان يتلقى المكالمات الهاتفية التي تخبره بأعمال المتظاهرين. كان من الواضح أنهم أسقط في أيديهم وبدوا عاجزين عن فهم ما يجري. قلت لأبجاد هازئا، إنه يمكنه مواجهة «المخربين» (حسب قوله) بأفواج الرفاق وأبنائهم وجحافلهم، الذين كان يشرف عليهم هو شخصيا، أم أن مهمة أولئك هي مجرد الحصول على الامتيازات المادية؟ أجاب مرتبكا بأنه ليست لديهم تشكيلات من هذا النوع في بنغازي والمنطقة الشرقية عموما، فرددت عليه بأن تلك هي مشكلة النظام الذي يصر على تجاهل نصف البلاد. بدا واضحا أنه لا فائدة من الحوار، فطلبت من محمد الزوي أن يبلغني الموقف بشكل قاطع. عندها قال الزوي إن التعليمات التي لديه تقضي بعدم تقديم أي خطوات، وإن كل ما عرضته أمامهم مرفوض. أجبته بأن إلحاح سيف الإسلام على اللقاء هذا أعطاني انطباعا بأن هناك موافقة من القذافي، فرد نافيا مؤكدا أن على سيف الإسلام التفاهم مع أبيه. * كانت هذه إذن رصاصة الرحمة على النظام والمشهد السياسي برمته. - نعم، خرجت من اللقاء وأنا أكثر حنقا ويأسا من قيام النظام بأي خطوة، وأيقنت أنهم مقبلون على مواجهة الشعب. أبلغت صالح عبد السلام أن ينقل لسيف الإسلام ما حدث، وأن رأيي هو أنهم يحرقون كل مراكبهم. كما طلبت منه إبلاغه بأنني منسحب وأن لا يبحث عني؛ فلن أعود للعمل. تطورت أحداث ثورة الشعب بعدها تطورات درامية، وباشر النظام في الاستخدام المباشر للقتل في بنغازي وغيرها، أبلغني زاهي المغيربي وعلي البرغثي أن ما يجري في بنغازي هو عنف غير مقبول. يوم السبت 19 فبراير توالت المعلومات المقلقة من الشرق الليبي عن المذابح، وأبلغت أصدقائي قراري بالاستقالة، وهو الحد الأدنى لما يمكن القيام به. * دعنا نتوقف عند خطاب نجل القذافي العنيف الذي فاجأ الجميع. - كان خطاب سيف الإسلام القذافي، الذي ألقاه مساء يوم 20 فبراير، قد أزاح عنه ورقة التوت، ومثل آخر فصول كوميديا الإصلاح. أصابني بكمد شديد، وتحسرت كثيرا على الزمن الذي قضيته خدمة لما اعتقدت أنه مشروع صادق للإصلاح. غير أن عزائي أنني قمت بما قمت به خدمة للوطن ورغبة في التغيير. نجح سيف الإسلام القذافي في توظيف المؤسسة واستغلالها كمنصة انطلاق نحو تحقيق طموح جارف للسلطة، مثلما نجح في استغلال النيات الصادقة للمنادين بالإصلاح في صراعه على السلطة والتفاوض عليها مع مكونات النظام، لينتهي به الأمر طرفا في صراع دموي ضد الشعب، الذي باع له وعود الإصلاح لزمن. * هل تعرضت لتهديدات مباشرة بعد الاستقالة؟ - كان لقرار استقالتي، وهو الأول من نوعه في البلاد، وقعه القوي على سيف الإسلام وجماعته؛ فقد اعتبروه صفعة مباشرة لكل ما قيل عن الإصلاح وعن مبادرات سيف. لا شك أن تطور الأحداث ألهاهم عني وعن متابعتي. لم أفكر في تبعات الاستقالة، أو الخطر الكامن في المعارضة بهذه الطريقة إلا فيما بعد. الأكثر من ذلك أن حماستي للثورة الشعبية جعلتني أصعد المنبر في مسجد القرية في جمعة يوم 26 فبراير، حيث خطبت في المصلين وأبلغتهم باستقالتي وتحدثت لهم عما يجري. كانت هذه الخطوة سببا في منعي من السفر، خاصة بعد أن بدأت قيادات سياسية وسياسيون ومسؤولون يقدمون استقالاتهم. عدد غير قليل من هؤلاء هم ممن تربطني بهم علاقات الأخوة والمودة والعمل المشترك، وهو ما جعل النظام وأجهزة الأمن تضع اتصالاتي وتحركاتي تحت المراقبة الشديدة. كانت مزرعة العائلة مربضا لأربع دبابات وجهت فوهات مدافعها نحو بيوت عائلتي، وامتلأت المنطقة بالعسكر، خوفا من ثورة الشعب. ووصل الأمر يوما ما لحد إقامة نقطة تفتيش في الطريق الفرعي المؤدي للمزرعة. كانت إحدى سيارات التنصت متوقفة أمام المزرعة لعدة أيام، بينما تولى أتباع النظام بالمنطقة المراقبة المستمرة وإعداد التقارير عني وعن تحركاتي اليومية. لقد وصل الأمر لدرجة أن فكرت قيادات النظام بالمنطقة في تصفيتي أو وضعي في المعتقل على الأقل. ولقد أفادني الأخ جمعة السائح، وهو الذي التحق بركب الثوار في بنغازي، بأن العميد عمر تنتوش، وهو قائد كتائب القذافي بالمنطقة، كان يدبر لي أمرا قد يصل لحد القتل أو الاعتقال على الأقل.. لم أكن أدرك كل هذه الأمور، ولم أعرف ببعضها إلا لاحقا، وبعد تحرير طرابلس من قبضة القذافي. غير أنني كنت أحظى بحماية نفسية من أفراد عائلتي، الذين كانوا يتناوبون على البقاء معي تقريبا في كل الأوقات. * لكنك مع ذلك تلقيت تحذيرات مباشرة؟ - نعم, ذات يوم اتصل بي نجم الدين أبو راوي، أحد مساعدي سيف الإسلام القذافي، الذي كلف بإدارة المؤسسة عقب استقالتي ليبلغني تحذيرا من سيف الإسلام القذافي، بأن أبقي فمي مغلقا وألا أتكلم أبدا. كان هذا التحذير واضحا بدأت بعده في التفكير في الخروج من ليبيا إلى تونس. بعثت رسائل بهذا الخصوص إلى د. محمود جبريل مع أحد الإخوة، وهو د. فرج السائح الذي يعمل الآن عضوا بالمكتب التنفيذي، كما أرسلت معه عددا من الملاحظات التي رأيت أنها قد تكون مفيدة في تأجيج الثورة وتحسين أداء قيادتها السياسية. بدأت أبحث عن طريقة آمنة للخروج. كانت الأوضاع تتعقد يوما بعد آخر مع اتساع نطاق الثورة واشتداد قوة القمع. * أنت تلمح إلى بداية نشاطك السري لدعم الثورة الشعبية إذن؟ - اتصل بي إخوة كانوا يعملون للثورة من تونس، وعرضوا أن أقود المجلس المحلي بالمنطقة، أو أن أكون أحد أعضائه على الأقل. أبلغتهم أنني لا أرغب في العمل تحت مظلة القبيلة، كما أنني محل مراقبة ويمكن أن يشكل ذلك خطرا عليهم. فشلت الكثير من الأفكار الخاصة بالمغادرة إلى تونس في التحقق، وكان آخرها ما عرضه على شباب بالائتلاف ومن عناصر الإخوان المسلمين، أثناء أحد اللقاءات السرية بطرابلس، على لسان الأخ خالد الزروق لتسهيل الخروج. أمام اكتشافي لمساحات من العمل الثوري السري، قررت أنني لن أفرض على نفسي المنفى، بل أن أبقى بالداخل، وأن أسهم بما أستطيع لنصرة الثورة وتعزيز قدراتها. * هل تتخوف الآن على ليبيا الجديدة من تحديات المستقبل؟ - تم حتى الآن تحرير معظم الأراضي الليبية من سيطرة القذافي، والمعارك لا تزال تدور حول مدن مهمة هي سرت وبني وليد، حيث قبائل القذاذفة وورفلة المرتبطة بالنظام المنهار. لقد أثبت الليبيون أنهم شعب يستحق الحياة، وعبروا عن تطلع وتوق للحرية يعادل آلاف الضحايا الذين سقطوا منذ انبلاج فجر ثورة فبراير. * البعض يرى مع ذلك أن الثورة ناقصة. - لم تكتمل الثورة بعد، ومع أن القذافي فر من أمام ثوار فبراير، فإن ذلك لا يعني اكتمال الثورة. لا مناص من استكمال تحرير باقي المناطق، ومهما كان الثمن غاليا. يحتاج الليبيون لفترة طويلة لمعالجة ما ترتب على حكم القذافي ومعالجة سلبياته في كل شيء. لقد دمر القذافي فكرة الدولة والمؤسسات، وحارب المجتمع وتنظيماته السياسية والمدنية. كانت أسوأ أعمال القذافي ليست تلك المتعلقة بالقمع والقتل أو تبديد الثروة الوطنية، بقدر ما كانت خلخلة نظام القيم في المجتمع الليبي، وإرباك مكونات ثقافة المجتمع السياسية. إن ذلك يضع أمامنا تحديات جمة تحتاج للصبر وتحتاج لتوظيف كل الطاقات بما يضمن اختصار الزمن والانطلاق نحو البناء بثقة. * وكيف ترى المرحلة الانتقالية؟ - ستكون حاسمة، والسياسات التي يتبناها المجلس الوطني الانتقالي هي التي ستحدد شكل وقواعد اللعبة. إن ضمانات النجاح تستند إلى المرحلة الانتقالية مثلما تستند إلى مدى قدرة الليبيين، وخاصة الشباب، على تفهم السياقات الجارية ومباشرة الفعل على كل المستويات المرتبطة بالمجتمع الديمقراطي الحداثي. * سمعنا الكثير عن علاقات سيف الإسلام بمسؤولين في إسرائيل، هل تعلم عنها؟ - لا أعرف الكثير عن علاقاته الإسرائيلية، ولكن كانت له علاقات مع رجال أعمال يهود، مثل أل روتشيلد، ورجل أعمال يهودي أوروبي اسمه مارتن شلاف. أما غير ذلك، فلا معلومات لدي إلا ما نشر في وسائل الأعلام. * شكرا لك على شهادتك. - الشكر لكم.