في شهادته الخاصة ل«الشرق الأوسط» يكشف الدكتور يوسف محمد الصواني المدير التنفيذي، السابق، لمؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية التي كان يترأسها سيف الإسلام النجل الثاني للزعيم الليبي الهارب العقيد معمر القذافي، حقيقة علاقته بسيف الإسلام والدور الذي لعبته المؤسسة في الداخل والخارج بالإضافة إلى طبيعة علاقات عائلة القذافي بعضها مع بعض. ويكشف الصواني الذي استقال من منصبه كأحد أبرز المقربين من سيف الإسلام ل«الشرق الأوسط» في أول ظهور إعلامي له منذ اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير (شباط) الماضي ضد القذافي، النقاب عن أسرار كثيرة غير معلنة تخص نجل القذافي وما كان يسمى في السابق بمشروعه الإصلاحي الذي حمل لافتة «ليبيا الغد»، مؤكدا أن هذا المشروع ليس إلا مجرد وهم كبير. الصواني الذي يعمل الآن أستاذا للعلوم السياسية بالجامعة الليبية (الفاتح سابقا) في العاصمة طرابلس، يروي ل«الشرق الأوسط» في 3 حلقات تنشرها بدءا من اليوم قصة الصدام الوهمي بين الإصلاحيين والحرس القديم الموالي للقذافي، وصولا إلى تلقيه تهديدات من اللجان الثورية ووصفه بأنه عميل أجنبي. لكنه أشار إلى أن وثائق «ويكيليكس» أنقذته عندما كشفت علاقته المتوترة وخلافاته مع دبلوماسيين أميركيين. وأوضح الصواني أنه كان يحتفظ بمسافة مع عائلة القذافي عملا بنصيحة لأحد المقربين يشبه فيها التقرب من القذافي وعائلته بالتقرب من النار التي تحرقهم. وفي الحلقة الأولى يكشف الصواني عن أنه رفض اقترحا بأن يقوم بمساعدة سيف الإسلام في دراسته عندما كان يحضر للماجستير في لندن. ووصف الصواني سيف الإسلام بأنه «سطحي» وغير مقتنع بمشروع الإصلاح الذي يروج له، ويحاول استغلال ملف كتابة دستور جديد للبلاد لمصالحه الشخصية ولمساومات داخل النظام. * كيف بدأت علاقتك مع سيف الإسلام نجل القذافي؟ - بدأت صلتي بسيف القذافي في أواخر 2002 عندما طلب مني الدكتور عبد الله عثمان عبد الله القذافي الذي كان وقتها قد كلف مديرا عاما للمركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، أن أساعده في إنجاح مهمته متعاونا في مجالات الدراسات والبحوث والنشاط الثقافي. أذكر حينها أنني تلقيت الأمر باستغراب وقلت له بأنني لم أتصور نفسي يوما ما داعية للكتاب الأخضر أو عاملا بدراساته. كنت قد عدت من الدراسة بالخارج منذ سنوات قليلة وأردت أن أشغل وقتي بالنشاط الأكاديمي والعلمي، ولذلك وجدت الطلب منافيا لتصوراتي عن السياسة في البلد وعن دوري الشخصي في الشأن العام رغم أنني كنت قد بدأت أشعر بالسأم مما نقوم به في الجامعة التي فقدت أكثر هويتها ولم تعد قادرة على أداء دورها المأمول، فيما حرص النظام على إعاقة أية فرصة لتطور حقل العلوم السياسية. حينها بدأ عبد الله عثمان يشرح لي بأن البلد بحاجة إلى إصلاح وتغيير، وأن ترتيبات السلطة والإدارة القائمة لم تعد مناسبة أو مقبولة، وأن الاحتقان الشعبي يزداد. قلت إن الأمر بيد الحاكم الذي باستطاعته إن أراد تغيير الصورة. فوجد عبد الله ذلك مناسبة ليحدثني عن سيف القذافي وتصوراته وخططه ورؤيته للتغيير. * هل كنت تعرفه من قبل؟ - الحقيقة أنني كنت سمعت نتفا متناثرة عنه وعن أفكاره غير المترابطة، ولم أولِ الأمر أية أهمية. إلا أن عبد الله عثمان الذي ألصقت به تهم قبل ذلك من قبل اللجان الثورية وتعرض للمحاكمة والتهديد بالإعدام بسبب دعوته للإصلاح أسهب في التعبير عن قناعات سيف الإسلام وطموحاته. كان سؤالي المباشر حول ما إذا كان ذاك يتم بمباركة الأب وعلمه أم من دونهما. علمت أن الأمر لا يخلو من الموافقة ووضع القيود في ذات الوقت. كان لحديث عبد الله واستعدادي النفسي أو اللاشعوري لخوض غمار تجربة الإصلاح من داخل النظام بعد أن فشلت محاولات تغييره بالقوة أو بغيرها من الأعمال مثل التي قادتها الولاياتالمتحدة مثلا أثر بالغ مما جعلني أستهوي العرض. * يبدو الأمر وكأنك تروي مغامرة وليس حديثا عن عملك مع نجل القذافي؟ - نعم، دخلت مع عبد الله عثمان في مغامرة لم أحسب لها حسابا مسبقا. أذكر أنني اتفقت معه أولا على ألا يفرض علي أي شيء وأن لا يتم إلزامي بأي توجه. وافق الرجل بكل احترام، والحقيقة أنه أطلق يدي في التخطيط للهدف، وفي إدارة العمل بشكل يكاد يكون كاملا. اتفقنا على أن هدفنا الأساسي هو التمهيد للتغيير والإصلاح. كانت فكرتي هي التمهيد لذلك بإتاحة المجال أمام حوارات ولقاءات ثقافية يحضرها الناس. بدأنا في دعوة المحاضرين من خارج ليبيا ومن داخلها بهدف تعريض المتلقين لما لم يألفوه من أفكار ووجهات نظر. كان البرنامج الثقافي الذي أشرفت عليه ذا أهداف واضحة: جلب الأفكار المتطورة والديمقراطية والمرتبطة بحقوق الإنسان للشارع الليبي وإثارة الأسئلة حولها. كان من الواضح لكل من شارك أو تتبع هذا العمل أن الهدف هو إماطة اللثام وإعادة الاعتبار لما كان قد تم إقصاؤه وفسح المجال لمثقفي البلد للمشاركة وهم أكثر تحررا. * ماذا حققت خلال هذه الفترة؟ - كان هذا العمل حاسما في التمهيد للخطوات التي قادها سيف القذافي لاحقا، وهو ما جعلنا نبدو وكأننا نمهد للوراثة في نظر البعض أو ننظر ونمهد للتبعية للغرب في نظر فئة أخرى فيما أصرت قيادات اللجان الثورية على وصمنا بصفة العملاء للغرب أو أعداء «سلطة الشعب». * هل كانت تهديدات جدية؟ - نعم، لقد وصل هذا الأمر بالنسبة لي شخصيا لدرجة عالية من الخطورة عندما أبلغني سامي الطيف الذي كان يعمل مستشارا بالمركز وكان على صلة قوية بأحمد إبراهيم القذافي (وزير الثقافة الليبي الأسبق) ومصطفى الزائدي (أحد قيادات اللجان الثورية) عن استيائهم مما أقوم به. ولقد تكرر ذلك لاحقا في أواخر 2010 عندما وصفني أحمد إبراهيم في لقاء تحقيقي مع محمد العلاقي المحامي بأنني أنفذ أجندة أميركية في ليبيا، وهو اتهام لم تنفع في دفعه وثائق «ويكيليكس» التي بينت مدى اختلافي مع رجال السفارة الأميركية بطرابلس أو هويتي العروبية القومية منذ سنوات شبابي المبكرة. * كيف تقبلت النخبة الليبية نشاطكم في هذه الآونة؟ - حاز النشاط الذي أشرفت عليه قبولا كبيرا، وكانت قاعات المحاضرات خلال سنتين ونصف السنة هي عمر إدارتي له تغص بالحضور وبالمناقشات التي حرصت خلالها على إظهار كل الآراء مع انحياز للديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. أصبح المركز قبلة لكل المنادين والراغبين في الإصلاح والتغيير، وبدأ يتردد عليه أولئك الذين لم يكن يخطر ببالهم ذلك يوما ما. صارت مطبوعات المركز ونشاطه الثقافي قبلة المثقفين والنشطاء والحقوقيين في عموم ليبيا، ولم يستنكف عن المشاركة فيها حتى المعارضون بالخارج. * كيف كان موقف المتشددين في حركة اللجان الثورية؟ - لقد ساهم كل ذلك في توليد حراك ثقافي وسياسي أو مدني لم يسبق له مثيل، وكما قلت كنا نتلقى التهديدات أو التحذيرات كما كنا نواجه الدعاية السوداء وخاصة من قبل متشددي اللجان الثورية. كان الذي يسكنني هو الوطن والسعي للقيام بما يمكن أن يسهم في تقدمه وتحرر أبنائه. لذلك بذلت كل جهد واستثمرت كل علاقة من أجل الهدف النبيل. كانت ليبيا وقتها تسعى لقفل ملفات احتكاكها مع الغرب والعالم كله تقريبا. لذلك قام المركز باستكمال جهد بدأته أكاديمية الدراسات العليا في إجراء سلسلة من الحوارات الليبية الأميركية التي ضمت عددا من المثقفين والممارسين من ليبيا ومن الولاياتالمتحدة. كان هذا ضمن ما يعرف بالمسار الثاني في عمليات التفاوض «غير الرسمية» وقد توليت مهمة تنسيق أعمال الفريق الليبي الذي تحاور مع نظرائه الأميركان، وكان لهذه الحوارات فضل التعلم المتبادل والخروج بمقترحات تم تبنيها من الطرفين المعنيين في البلدين، وساهمت الحوارات في تقريب وجهات النظر، وأخيرا إلى تطبيع العلاقات. كان لهذه الأنشطة أثرها في إلمامي أكثر بطموحات سيف القذافي و«مشروعه» لليبيا «الغد» كما كان للمحكات التي خضتها أثرها البالغ في تمتين قدراتي المهنية، ورغم أنها قللت من حضوري الجامعي فإنها لم تقطع صلتي بالطلاب والتدريس التي حافظت عليها دائما لقناعتي بأن التفاعل مع الأجيال الجديدة يكتسي أهمية قد تفوق أية أنشطة أخرى في بلد ليس أمامه إلا المراهنة وبقوة على الأجيال الشابة ومورده البشري الذي يمكن التعويل عليه في المستقبل. * وكيف توطدت علاقتك مع سيف الإسلام إذن؟ - قادتني هذه الأنشطة أكثر وجذبتني بشدة نحو سيف القذافي وطموحاته المختلفة، مع ذلك كنت حريصا على عدم الاقتراب منه بشكل شخصي مباشر، خاصة أنني كنت أسمع حكايات متنوعة عن أبناء القذافي عموما لم تجعلني أرغب في ذلك. كنت أيضا أعمل بنصيحة سمعتها ذات مرة من أحد المقربين يشبه فيها التقرب من القذافي وعائلته بالتقرب من النار التي قد تحرق المتقربين؟ لذلك رفضت عندما اقترح علي عبد الله عثمان أن أقوم بمساعدة سيف الإسلام في دراسته عندما كان يدرس الماجستير في لندن، وبينت له أني غير راغب في ذلك، وأن بإمكانه أن يجد الكثيرين ممن يرغبون في القيام بذلك. كان العمل الذي قمت به بالمركز يستهلك كل وقتي تقريبا، وأذكر أنني كنت أدخل في حوارات مع عدد من الإخوة الليبيين المعارضين بالخارج حول جدوى ما كنا نفعله. وكان هؤلاء الذين أذكر منهم عاشور الشامس وتميم عصمان مثلا في بريطانيا أو علي زيدان وسليمان بوشويقير في أوروبا وعلي أبو زعكوك وعبد المنصف البوري ومحمد بويصير وعلي عبد اللطيف حميدة في الولاياتالمتحدة وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم هنا ومنهم إخوة عرب مناضلون أحمل لهم كل التقدير. كانوا جميعا يشددون على أهمية المواصلة في فتح آفاق جديدة أمام الليبيين مع أني عبرت لبعضهم في مرات كثيرة في الخارج والداخل عن قدر من الشك أو الإحباط في أن ما نقوم به قد لا يكون مجديا. * كيف بدأت فكرة إعداد دستور جديد لليبيا تختمر في ذهن نجل القذافي؟ - توسعت دائرة اهتمامات سيف القذافي لتشمل مسائل مثل الدستور والتعددية في الصحافة والإعلام والمنابر السياسية وغيرها. ذات يوم في شتاء 2004 ذهبت أنا وعدد من الإخوة لمقابلته بناء على طلبه وفوجئت به يطلب منا مناقشة موضوع الدستور. تصديت أنا والمدعوون للموضوع وعرضت عليه الجوانب المرتبطة بالدستور والتحديات التي أمامه. تذكرت يومها ما قلته لعبد الله عثمان بشأن حذف اسم الكتاب الأخضر من عنوان المركز العالمي وإجابته بأن ذلك أمر مبكر جدا. يومها تذكرت هذا لأن سيف الإسلام بعد حديث عن مشروع الدستور قال بأنه لا يريد دسترة الكتاب الأخضر، وأن الدستور المراد لا ينبغي أن يقدم للكتاب الأخضر أكثر من خدمة لفظية، وهو ما جعلني أثير أمامه أن كتابة الدستور مسألة لها شروطها، وهي عملية لا بد أن تكون ديمقراطية أيضا. أشرت أيضا إلى تحدي القيادة المرتبط بالكتاب الأخضر وصاحبه، فقال إن ذلك سيترك للظروف. قبلنا المهمة وإن كنا قد فوجئنا بسيف الإسلام وهو يمد يده لي بشريط يحتوي على تسجيل لما قاله ليلتها، قائلا لي: «أمسك هذا عندك كدليل ولو حبسوني، قاصدا نفسه، تستطيع أن تستخدمه في الدفاع عن نفسك بأن سيف طلب منك هذا؟».. رددت قائلا في لغة ممازحة وإن لم تخل من تعبير عن هواجس «إذا حبسوك أنت فهذا يعني أننا لن نعطى حتى فرصة الدفاع بل سيكون الحكم جاهزا مسبقا؟». * لماذا تحمست للمساهمة في مشروع الدستور؟ - أثار العمل على الإصلاح السياسي والدستور بشكل خاص في أنفسنا مكامن كثيرة، بل إنه عمل كالوقود المغذي لنبتة الإصلاح والتغيير التي نمت في دواخلنا جميعا. بدأنا على الفور وبحماسة كبيرة في أواخر 2004. بدأنا العمل في التفكير في الموضوع ودعيت للأمر ثلة من الأساتذة من حقلي العلوم السياسية والقانون المشهود لهم بالكفاءة لتدارس الأمر. رحب هؤلاء بالفكرة وأبدوا استعدادا لخوض غمار التجربة بمحاذيرها وتحدياتها. تلقينا الانطباع بأن القذافي الأب يدعم المشروع في عمومه، وليس من المؤكد أنه سيوافق على محتواه النهائي. كانت القناعة لدينا أننا سنساهم في دفع بوادر الإصلاح ودعم أجندته، لكننا لم نقرر أننا نكتب دستورا بل نصوغ مسودة مبادئ تطرح للحوار الوطني قبل دخول مرحلة التقرير الشعبي بشأنها بطريقة ديمقراطية. كان طموحنا هائلا وكنا نعقد جلساتنا وراء الأبواب المغلقة ونجري نقاشات يتم تسجيلها بالصوت، وهي التي تميزت بشفافية وصراحة حملت أعلى درجات المخاطرة. تطور المشروع وشعرنا بالحاجة للاستفادة من خبراء من الخارج للمساعدة على موضعة طموحاتنا مع السياقات الكونية والتجارب الدستورية المختلفة. لذلك شارك معنا خبراء من أوروبا والولاياتالمتحدة وكندا وجنوب أفريقيا وغيرها مثلما انضم لفريقنا عدد من الليبيين من مشارب مختلفة كالشيخ علي الصلابي ومحمد عبد المطلب الهوني ومحمود جبريل وغيرهم. كنت بسبب هذا العمل الذي أشرفت عليه وتوليت إدارة شؤونه مضطرا لترك مهمة إدارة الأنشطة بالمركز العالمي الذي شعرت وقتها أن البرنامج قد وصل لغاياته أو أنه استنفد طاقاته التغيرية المطلوبة بما فيها العمل على ترتيب حوارات بين مفكرين عالميين والقذافي الأب بهدف إحاطته بما يجري على الصعيد العالمي، وكيلا يظل حبيس أفكاره وتصوراته أو محاصرا بقراءات وتفسيرات المحيطين به فقط. لذلك تركت العمل بالمركز وتفرغت لمشروع الدستور وعملي الجامعي ورغبتي المتعلقة بإنجاز أعمال ثقافية وأكاديمية لم أتمكن منها بعد، واقتصر الأمر على بعض الدراسات والمقالات التي حاولت في بعضها الدفاع عن التغيير وحتميته في ليبيا، مثلما سعيت لدعم ذلك بقراءات ليبرالية لبعض أفكار القذافي، بما يسمح مثلا بتعددية الصحافة أو المجتمع المدني، ولكن دون جدوى على أي حال. * وهل كان نجل القذافي صادقا في حماسه للدستور؟ - تبين لي أن العمل على مسألة الدستور هو أصعب وأكثر إشكالا مما تصورت في البداية. كانت أولى الصعوبات هي إقناع سيف القذافي بأن يلتقي بشكل مفيد وأن يتواصل مع أعضاء اللجنة والخبراء. كان دائما ينشغل عن دعوى كهذه ولم يلب الطلب ولو لمرة واحدة. كان سيف قليل الاهتمام بالمسائل في تفاصيلها أو في ما يرتبط بها من إشكالات وتحديات. لم أشعر في يوم من الأيام أنه كان عميقا بما يكفي للتعامل مع الإشكالات والتحديات القائمة. كانت المناسبات التي لقيته فيها لهدف الدستور محدودة وقصيرة أيضا. كنت أيضا حريصا على المحافظة على المسافة الفاصلة بيننا ولم أشأ القفز على الحواجز، لما لذلك من صلة وثيقة بكرامتي واستقلاليتي وبالتربية التي تلقيتها في القرية. انشغل المشاركون في العمل نحو 3 سنوات متواصلة، وعقدنا أكثر من 15 لقاء لمناقشة الجوانب المختلفة. أبانت تجربة الدستور أن سيف القذافي لا يمتلك القدرات التي تؤهله لقيادة المشروع الذي أعلنه، لكن انتظامه للدراسة بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية واحتكاكه بالكثير من المثقفين والساسة في العالم جعلني أقمع أي تفكير من هذا النوع. كنت أنتظر أثر ذلك في تحقيق النضوج والعمق ولتصوري أن عمل اللجنة كان محتاجا إلى مساهمته المباشرة. * كيف كان تأثير محاوراته مع الغربيين على عمل لجنة إعداد الدستور؟ - كان لحوارات سيف الإسلام مع مثقفي الغرب أثر غير محمود تماما على عمل لجنة الدستور، وأستطيع القول بأن هذا كان له أثر سلبي على برامجه الأخرى جميعا. أربكت ملاحظات سيف الإسلام وأفكاره وطلباته المتذبذبة عملنا، خاصة أنه بعد كل جلسة مع مفكر أو أكاديمي أو استشاري أو عقب أي زيارة للخارج كان يأتي بأفكار ويطلب وضعها في الدستور. كثيرا ما كان ذلك يسبب القلق والانزعاج لدينا في اللجنة، خاصة أن ما يطلبه في مرة يأتي بنقيضه في مرة أخرى. عبرت له عن عدم مناسبة ذلك، وأن الخبراء وأعضاء اللجنة رأوا في ذلك استهانة بقدراتهم وكرامتهم الفكرية أيضا. ذات مرة وجدتني مضطرا للقول بأننا نعمل على مسودة مبادئ لوثيقة دستورية ينبغي مناقشتها شعبيا فيما بعد وأنه لا يمكن أن تكون حاوية لزهرة من كل بستان؟ الوثيقة بطبيعتها أيضا لا ينبغي أن تكون طويلة ومفصلة، لأن ذلك ينبغي تركه للتشريعات، خاصة أن أية وثيقة قد تصدر ستكون انتقالية ومؤقتة. كانت إجابته غير عملية، وليست لها صلة بالتمرين الذي كنا نقوم به. طلب مني أن تحوي الوثيقة بدائل لكل شيء وفي كل موضوع وهو ما يجعلها غير ذات لون أو اتجاه محدد. * متى أيقنت أن فكرة الدستور عبثية؟ - ضاق أعضاء اللجنة بطلبات سيف الإسلام المتكررة والمتناقضة وغير المناسبة، ولذلك قررنا أن ننهي التمرين، وأن نقدم له ما توصلنا إليه معبرا عن اجتهاداتنا وله أن يفعل بعد ذلك ما يشاء. انتهى عمل اللجنة عند هذا الحد في نهاية صيف 2008 وأدركت ساعتها أن موضوع الدستور لا ولن يحظى بقبول القذافي الكبير ولا نظامه الحاكم، وأن كل ما يقوم به سيف هو في إطار المساومات والمفاوضات السياسية داخل النظام، وأنه في الواقع لم يكن يأبه كثيرا للموضوع إلا ربما في هذا السياق. انتهى عمل اللجنة التي أشرفت عليها، وقرر سيف أن يعهد بالمشروع للمحكمة العليا ورئيسها، حيث صدر قرار بتشكيل لجنة جديدة ضمت ليبيين فقط هذه المرة، وإن أبقت على عضويتي وعدد محدود من الليبيين الذين عملوا باللجنة السابقة، وكان الهدف من وجودي أن أكون حلقة وصل بين اللجنة الجديدة وعمل اللجنة المنحلة. قامت اللجنة الجديدة بكتابة وثيقة اختلفت كثيرا عن الأولى ورفعتها للجهات المختصة في مكتب القذافي ورئاسة الوزراء وكان ذلك إيذانا بنهاية المشروع وموته بدل أن تكون فرصة لتمرير أي وثيقة دستورية ومؤشرا على الرغبة في الإصلاح مثلما اعتقد الكثيرون بمجرد تشكيل اللجنة الخاصة بقرار من الحكومة وبرئاسة رئيس المحكمة العليا.