1-حدث ويتواصل في العالم العربي ما هز أركانا، وخلخل بنيات ظلت لعقود راسخة، بل في حكم السرمدية، تعرضت لبعض تململ أحيانا، ولكن لم يطلها الشرخ الذي يحدث بها صدوعا وانهيارات، كما نراه ونلاحقه اليوم، وهذا على الأصعدة كافة، تقريبا. نُنَسِّب هنا، لأن ما اصطلح على تسميته منذ إسقاط نظام بن علي في تونس، وحكم مبارك في مصر، ب ' الربيع العربي' محصور في البنية والهيكلة السياسيين، أي السلطة الحاكمة بأجهزتها القيادية العليا، وأحزابها، من غير أن تتبلور بعد، وبكيفية دقيقة وجلية، ملامح تغيير على مستوى الإيديولوجية وقرارات التحول الجذرية، وما في حكمها. والأجدر القول أننا نعيش حالة فوران وانتفاض، مندفعين في سيل عرم، ولا نعلم أين سيمضي، ولا حدود ما سيجرف. وهو أمر طبيعي في كل انتفاضات الشعوب ما طالت عليها عهود الاستبداد. 2 سال مداد غزيز حول هذا الربيع، أكثره مائع، حماسي، أو انطباعي، أو انتقامي متهور، وقليل منه رصين، وعقلاني. العجيب حقا، أن يشارك فيه، من لم يكونوا حتى الأمس القريب لا في العير ولا في النفير، ليركبوا الموجة، منصبين أنفسهم دعاة ومستشرفي الثورة العربية، المعبرين عن إرهاصاتها الأولى،الخ من مثل هذه الفرقعات الكلامية، لا يجرؤ على ' تفجيرها' إلا عتاة تجار الكلام، المزايدون في بورصات الشعارات، المهرجون، وهم كثر. والحق أني قرأت لبعض العرب، في بدايات الربيع المعني أقوالا، هنا وهناك، تبعث على الدهشة وتثير الصدمة، إذ من حيث كانوا يرغبون في ارتياد زعامة موهومة في بداية حركة والتحدث باسمها، سقطوا في شرك فضح ما رافق سيرتهم من جبن ومخاتلة في التعبير عن أي موقف، في زمن الحكام المتجبرين الذين انتفضت ضدهم شعوب أمتنا، وستواصل حتما. في حين، رأينا، من حسن الحظ، أن أغلبية المثقفين الجديين، والأدباء العرب الموثوق بمواهبهم، ومكانتهم، وإذا استثنيتا شذرات وأقوالا ً عفو الخاطر مما أملته الظروف، وحتمته مناسبات عجلى، وقفوا حذرين، منهم المرتبك، منهم القلق، والخائف، ومنهم المتبصر، المنتظر، الراغب في مزيد فهم، فما هذه ثورة مثقفين، ولا قادها زعماء أحزاب، ولا إنتلجنسيا متنورة، متشبعة بمفاهيم الإيديولوجيات والأدبيات الثورية بأنواعها. إذا كانت أعتى الأجهزة الاستخباراتية الأمنية قد فوجئت بها، ولم تحسب حساب امتداداتها، فكيف بالمثقفين والأدباء الذين لا يعملون بإيقاع القنابل الموقوتة، ولا هم من المنجمين، بخلاف بعض السحرة الدجالين. وبمعدى عن الموقف المتطلب من حركة / حركات الانتفاض ضد الأنظمة الاستبدادية العربية، فإن ما يعني، أحسب ما يقترن بالكاتب في العالم العربي، هو ذاك المخصوص بالدرجة الأولى بكتابته، أو ما يقع في صلب تكوينها، مادة ومعنى وبناء؛ ما يعنيه هو ما أفترض أنه شاغل أساسي سيصبح وسواسا يسكنه، وطوقا يحاصره، إلى أن يجد بدايات تبديد له وسراح منه. شاغله، ولا غرابة، كيف وبأي أدوات وإمكانات، وجدانية وثقافية وخبرة اجتماعية وإنسانية، وأي مقدرات لغوية أسلوبية، جمالية ورؤيوية، تتأتى له ليواصل وضعه كمنتج للتعبير في الجنس الأدبي الذي اختار قالبا ووعاء لقول ذاته، وتسجيل معاينته، ونقل تجربة حياة كما تتمثلها رؤية الفنان والإنسان والمواطن فيه، فكيف وهو اليوم، وأدواته، فوق مرجل وشرر؟! 3 قد يثور في وجهنا اعتراضان لا ننكر وجاهتهما، يوجبان الانتباه إليهما، لارتباطهما بما يحقق البحث في هذا الموضوع: كيف نكتب النص الأدبي منذ اليوم؟: أولهما، أن اللحظة الراهنة بالاشتعال الذي تعرفة، وانسيابية تحولاتها، وتركيزها على فعل التغيير ومسلسل حلقاته المتعددة، المتبدلة، لا تبقي أمام الكتاب، ولا تفتح مجالا للخوض في شؤون مهنتهم، حين هي مهنة، وإنما تستدعي منهم الموقف الاستعجالي، بوصفهم مواطنين بالدرجة الأولى، مناصرين، أو مدعوين للانخراط في فعل التغيير، بأي صفة فاعلة ممكنة، كما يحدث في شأن الثورات وأدب المقاومة والتحرر، تاريخيا، ومن ثم تبقى الأمور الأخرى مؤجلة، إلى حين استقرار حال الثورات ورسوّها إلى أمانها المطلوب. ثانيهما، أن فعل الكتابة له متطلباته الخصوصية، تنضج تحت نار هادئة، وكيفما كان الحال فإن الشأن الجمالي، الكيفي للكتابة، لا يستوي أوانَ التوتر، وحين يبدو خارجُ النص متشنجا، من الصعب ربط الوشيجة المناسبة مع داخله، الذي به يتكون، أو سيمسي انفعالا عابرا فقط. 4 وقد طرحت، هنا وهناك، على لسان بعض الأدباء والنقاد أسئلة متقاربة، تنم حينا عن الحذر، وحينا آخر غمرها الحماس، وفي الأحيان فإن العمومية تغلب على هذا الموضوع، كما جرى تداوله إلى اليوم، وأكثر من هذا أنه خضع لإسقاطات وأحكام قيمة متسرعة، تتجه كلها إلى نصب محاكمة للكتاب والمثقفين العرب، بتعميم شبه مطلق، وكأن هؤلاء فئة واحدة، متجانسة تكوينا وانتماء وولاء ومصالح، باعتبار أن مجرى الأحداث المنتفضة في العالم العربي يقوده جيل آخر، مختلف تماما، وغير منغمس في اهتماماتهم، خطابه ولغته، شأن شعاراته مستجدة، ولا يدين، من عجب، بشيء لأي نخبة سابقة عليه، كأنه ولد من عدم، وهبّ فجأة بهذه الرسالة. والأعجب، بعد هذا أننا لم نر من يتصدى لدحض هذه المزاعم، ولا لإعادة ترتيب الأوراق بكيفية تظهر المشهد ' الثوري' العربي الراهن ضمن شجرة أنسابه الطبيعية، وفي السياقات الأقرب إليه، التي إذا لم تلتقط كما ينبغي، فأغلب الظن أننا سنكون إزاء فورة لا ثورة، وتصبح الأسئلة والتساؤلات اللاحقة بها تداعيات لَغْوية، أكثر منها مصيرية جوهرية. 5 وإذن، يظهر المشهد الثقافي والفاعلون فيه وكأنهم يستسلمون لواقع أكبر منهم، وهم يتخبطون في أسئلتهم، في شرنقة رؤاهم القديمة، ولا يملكون بعد بوصلة تحديد الرؤية الآخذة في التبلور، والتي هي فعلا في صيرورة، وعصيّة على القبض، ولا يعنيني هنا المتعجلون، راكبو موجة التغيير، وحتى المتاجرون بها، إذ كيف يمكن التفلسف على عجل في ما هو قيد الولادة، شأن الذين باضوا كتبا في الظاهرة بطريقة الولادة القيصرية، ليكونوا رواد تفكير وتخييل لها، وأيّ ريادة. الحق أن موقف التأمل، والتريث، في الشأن الفكري، والإبداعي، حتى لو طال، محمود، وهذا ما نجده عند المتمرسين، سواء من اضطروا إلى إعادة النظر في نصوص مكتوبة، أو الاستنكاف عن نشرها إحساسا بأنها، لسبب ما، إما متجاوزة، أو لم تعد ملائمة لمناخ التغيير، أو الذين يحتاجون إلى القراءة المتريثة، الهادئة، والفهم العميق، وتلمس الظاهرة، لا الإحساس بها وجدانيا، وحسب، ليعودوا إلى القول الأدبي، أو ربما ليسعفهم هذا القول على وجهي الرسالة التي آمن بها الكاتب العربي دائما، جاعلا من أدبه اعتناقا مستمرا لقضية نهضوية وتحررية، ، منشئا لهذا الأدب على الصورة التي تنحت ملامحه الفنية، وتعلي من صرحه في صيغ وبناءات وعلى قواعد تتفتق من خيال صاحبه، وتعبر عن خصوصيته النفسية والفكرية، والفنية، طبعا، وما هو سهل التجديد في كل هذه الأدوات دفعة واحدة، وكيف؟ 6 إن كل توجه نحو كتابة نص جديد، لنقل بالأحرى مختلف عن نص أمس لو صحّ أن أمس طُوي في الأجناس التي تنصرف إليها النصوص، والمتحررة من القالب، أيضا، يتطلب، ولا شك، إعادة توصيف ما كتبناه، وفرد مكوناته، وتمييز خصائصه، مادة واستيحاءات وأدوات، فضلا عن الرؤى التي يصدر عنها، والتشكيلات الأدبية ، والتمثيلات المعبر عنها، وهو موكول إلى اختصاص الدرس والنقد الأدبيين، المتعقلين، البعيدين عن العجلة ونزوة أحكام القيمة، ما يجعل المهمة عسيرة للغاية، ويلقي أمام رغبتنا في مساءلة هذا الموضوع تحديا صعب المنال، ومما لا شك فيه رغبة سابقة عن أوانها وإن لم تخل من إغراء وجاذبية. لسنا في هذا المقام الآن، ولا في القريب العاجل، فيما بوسعنا الاقتراب جزئيا من بعض الخصائص الكبرى التي تعينت في النص الأدبي، شعرا ونثرا، وطبعته لتصبح وجها له، لا يكاد يتشكل من دونها، وليس اختيارا دائما، وبل لأن الظروف المسماة موضوعية، حيث يظهر ويتم تداوله ولدته على هذه الشاكلة. 7 إن اعتماد التجريد أو اتخاذه نهج كتابة، وبروزه طافحا في القصيدة، في أي اتجاه نَحَتْ، بتوسل ما يصنع كيانه، منقطعا عن مصادر الوجود الشعري، عن البيئة، والواقع الحي في عناصره ومسمياته الأرضية، ليطبع النص الشعري العربي إلى درجة تحوله إلى كمّ من المعميات، وتنفي عنه الانتماء إلى أي محيط، ذلك أن الاستلهام من محيط، والانتساب إلى تربة، والصدور عن ثقافتها وجذورها، يمثل إحالة واقعية، ويصنع للقصيد مظهرا تشخيصيا، فضلا عن كونه يعد أحد الظلال / الأبعاد الدلالية لهذا النص، هو في حاجة لتوليفها، والإرهاص بعوالمها. يجوز أن تكون القصيدة المعتمدة التجريد نسقا اختيارا مسبقا، صادرا عن وعي منظم، وطريقة قول للذات والحياة، وفي هذه الحالة تحتاج إلى تجربة مختمرة، وإلى إحالات مركبة، متعددة المصادر، مبطنة فيها، هي عمادها ومدار حركتها، لا اللفظ مفصولا عن معناه وأي معنى. وقارئ الشعر العربي اليوم لا بد سيقف على متن عسير إن لم نقل عديم ' المقروئية' اعتمد منتجوه الطريقة الموصوفة، لا عن نضج، فالنضج يبين حينه، وبصرف النظر عن التقليد، بل التقليد الأعمى، وإنما لأن نهجهم هذا ناجم عن مناورة ومداورة تبغيان الالتفاف على معنى يعتقدون أن محيطهم، السياسي والاجتماعي، ينكره، إن لم تتطلب ثمنا ما. ينتج هذا الإحباط الخارجي، إذن، طريقة شعرية، ومنظورا تعبيريا، ومنزعا في القول، ولنا أن نفترض، ونتساءل في آن، هل لو زال أو تقلص الإحباط إياه، ستتغير الطريقة والمنظور؟ 8 وبصدد التعبير الشعري، أيضا، يمثل المجاز، بوصفه طريقة متعالية للقول تصعد فوق الواقع / الواقعي، وهي تتوسله، متخذة من عديد وسائط وصور بلاغية بالذات، أسلوبا غايته شرح الخاطر واستخلاص المعنى، وقد تضافر لصنعه الدال والمدلول، إذ الصناعة قطب رحى المجاز. وهذه هي طريقة القول الشعر عموما، ما يرى أحدٌ من أهل الاختصاص شعرا يمكن أن يسمو وحتى أن يكون بغير خيال، أو هو أراجيز مقررة، منسوج بلغة مخصوصة، موصولة بأجنحة الصورة، قد تناغم فيها اللفظ والمعنى. ومعنى هذا أن المجاز يحتاج إلى مادته، وإلى ضرورة صيرورته مُجازا بالأدوات التي يتأسس بها، والعناصر التي منها يصاغ ، وليس وشيا، أو مساحيق، وإلا تهافت القول، وهو ما كان قد ساد مرحلة ركيكة من الشعر العربي القديم، غلب فيها التصنع والتكلف على الفطرة والموهبة والبلاغة الرفيعة، كما نجد في شعر المتنبي وأبي تمام، والمعري. أما اليوم فحدث عن تضخم مهول في هذا ولا حرج، وبأي ثمن؟! 9 وإن من تجليات التعبير المجازي، وأدواته، الاعتماد على الرمز، الذي، كما نعلم، يكون متعدد المصادر، متنوع الإحالات المرجعية، مباشرا وغير مباشر. وعادة لا يتم استخدام الرمز لذاته، فهو قناع، وتكثيف، وتضعيف قولي، يغني النص كلما اندمج فيه، وتولد من صلبه، مسوَّغا بصورته، مُزكّى بدلاليته المتشبعة للمعنى الحضاري، الثقافي، الاجتماعي، السياسي، أي أن الرمز بنية مركبة قولا، وصورة وإحالة ودلالة. والرمز الذي نشير إليه، وهو متفش في شعرنا، ولا يرقى إليه في آن، لا يعدو كنايات واستعارات سطحية وعابرة، أو تلوينات لفظية مزركشة، لا يشف عن معنى عميق، أو ينحو إلى هذه الغاية، بقدر ما يأتي نتيجة إحباط خارجي، يُكره الشاعر، الكاتب، على الكشف عن مشاعره، أو حقيقة خطابه، فطبيعته وسياقيته ذرائعيتان، كامنتان فيه، وبالتالي يحق لنا أن نتساءل عن مآل النص، كيفية تشكله، ونوعية تمثيليته، حسب جنسه الأدبي، في حال ارتفع عنه الإكراه، وأضحى القول متاحا، مباحا، كُلاًّ. ومن هذا القبيل تغريب النص، بمعنى: بناؤه تصورا، ورؤية، وصياغة، أيضا، في دائرة الغرابة، بانفصام عن المعطيات الإحالية الواقعية، وصناعة انزياحات واختراقات في جلدها. ليس التغريب عن المجاز، فهو أدخل في بابه العام، ويتوصل إليه ببعض أدواته، ولكنه يختص بحالته حين يتفرد رؤية كلية، كل شيء يشتغل في النص لتحقيق الغرابة، جزءا وشمولا، وفي النصوص السردية العربية، المعدودة والمصنفة حداثيا أمثلة مناسبة دالة على هذا المنزع. 10 يتحقق في النص السردي أكثر من غيره، بسبب نزعته الحكائية الضرورية لتجنيسه، حضور قوي للتاريخ والأسطورة، والحكاية الشعبية، إما معتمدة بشكل مباشر، أو هي بنية خلفية وباطنية في هذا النص، تحيل إلى البنية الخارجية، إلى المحكيات الظاهرية، تارة، تعاضدها، تارة أخرى، أو تراها تفترق عنها مستقلة في تجليها بنَسَق التخييل الأسطوري، والغرابي، لا التخييل الصناعي، لو جاز، المشحوذ بموهبة الروائي، طورا. لدينا اليوم في الكتابات الروائية بين العربية السعودية واليمن، تحديدا، نصوص تتحقق فيها بتميز وبنجاعة وطرافة هذه الخاصية، وهي التي تمكن مساءلتها عن سبب تنزُّلها على صورتها، تلك، وأي مآل ومنهج تأخذه لو لم يكن الإحباط الخارجي، الإكراه الموضوعي، هو الذي قاد كتابها، هل أقول أرغمهم، على توسل العناصر المذكورة، وهو ما نتجت عنه طريقة سردية هي بنت تكيف مع ظروف الإكراه، كضرب من التقية، وجعل التخييل يلعب بوصفه دائما تمويها لعبته المميزة. 11 فإن جئنا إلى الرواية التاريخية، وقد أضحت من القوالب السردية المتكاثرة في العقد الأخير في أدبنا، يلتمسها الموهوبون، كما يهتبلها المتسلطون عنوة، بتحويلها إلى مكبر صوت لخطب سياسي، إيديولوجي، إيتيقي، ...فإننا واجدون أنها تستخدم أداة لاستدعاء تاريخ مقابل تاريخ، وقيم في مواجهة قيم، كأن تقابل النصر بالهزيمة ( في الحاضر) والانحطاط ضد المجد ( في الماضي)، وغير ذلك من معارضات، ذات طبيعة ميكانيكية، كثيرا ما تفتقد الحس التاريخي، معتمدة قاعدة قياس الشاهد على الغائب، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، يتناسى أصحاب هذه الرؤية المبسطة أن أمس ليس هو اليوم / ولا المخيال الماضوي يمكن أن يتطابق مع مخيال الحاضر، لأن التخييل الفني جنس أدبي مغاير تماما، وهذا شرط وجوده في السرد الحديث، حتى في لبوس الرواية التاريخية، والحكاية الشعبية، وما في ضربهما، اللهم حين يتم تطويعهما لخدمة منطق الرواية الحديثة، لا لجعل سرد التاريخ تعلة للإفلات من الإحباط. 12 ثمة أمثلة أخرى تمكن إضافتها لتوسيع وتعميق القول في هذا الموضوع القرين بإمكانات واحتمالات تحول النص الأدبي في ضوء تحولات بيئة نشأته وتبلوره، وهو ما يثير من بين أبواب أخرى مسألة الواقعية، مفهوما ومنظورا، وكيفية أداء. هذه الكيفية ذاتها يمكن أن تصبح موضوعا مستقلا لمعالجة القضية التي نحن بصدد تأملها، فالشكل في علم الجمال الأدبي ليس هيئة خارجية، ولا دالا منبتا، بل هو نسغُه، خيوطُه وغزْلُه على نوْل محدد مرتبط بمادة نسجه، إذ الترميز والتغريب، مثلا، يأتيان على مقتضى عبارة وتصوير معينين، هما اللذان، إما يعينانهما أو يوحيان بهما. وكم يفتقر النقد العربي المعاصر إلى دراسات، بالأحرى تطبيقات على نصوص قوية، ودالة من هذه الناحية، لتميز السجلات اللغوية والبلاغية واللَّعبية، صانعة التشكيلات الأسلوبية، كما نقرؤها في النصوص الشعرية والسردية، وعندئذ سنتبين إلى جانب كيفية صوغ مضامينها، كيف يتم تعويقها وتطويعها في علاقة طرد وعكس مع شروط بيئة كتابتها وإكراهاتها، من قبيل هيمنة السلطة السياسية، والرقابة، والقيم السائدة، ومثله، مما سميناه بعامل الإحباط الخارجي. 13 مما لا شك فيه أن النص الأدبي، وهو مغلول إلى قيود إحباطه وخاضع لإكراهات بعينها، ينتج بدوره إكراه تلقيه، بحيث يسنن طريقة في التلقي تأتي مختلفة في ما لو كتب في ظروف موضوعية مغايرة. وإذا كان التلقي هو مستوى وبروتوكول قراءة، ومنهج تأويل، من بين أمور أخرى، فإنه يستوجب قبل ذلك، عموما دائما، قارئا مركبا، عارفا بدليل السير وسُننه ليعيد النص إلى منبعه، قبل أن يتعرض إلى الكوابح، أو وهو يحاول القفز فوق ألغام الإكراه. في كل حال، فإن هذا المتلقي، في حالة الاحتراف، والقارئ العام، تربى على نصوص بعينها، وتعلم محاورتها وفهمها، من ضمن البنية التي يعمل فيها الكاتب نفسه، ويستولد منها نصه. ما يدفعنا إلى القول بأن التغيير الذي يطول المجتمع، أو يطمح إليه، وسيمضي فيه لا محالة، اعتدالا أو جذريا، يمر، أيضا، عبر عملية التلقي، ويحتاج إلى سندها، إن لم تكن متطلبة أكثر. 14 يبقى أمامنا الآن، وقد حصرنا الأطراف الثلاثة المكونة والمشغلة للنص الأدبي، طرح تساؤل حول التيمات التي انشغلت بها الكتابة الأدبية العربية في أطوار تحديثها المختلفة، وهي ما يصلها مباشرة بإنتاج الخطابات المناسبة والمحايثة باستمرار للموضوع الواقعي، إلى حد يمكن القول بأن أدبنا مخصص لتيمات الحرمان والحاجة والحرية، وضمنها أخرى دنيا ومتفرعة. هذا مجرد توصيف سريع، لا حكم تفصيل واستنتاج، إذ شرحه يطول. في حياة جديدة تسعى القوى الحية في العالم العربي إلى الانتقال إليها، والاستمتاع بمنافعها لا شك في أن تيمات وعديد مضامين ستخلي المكان لغيرها، من دون الربط الميكانيكي بينها والواقع المتحول، فهل سيكون الأمر كذلك حقا؟ وهل كاتب أمس يصلح ليقوم بالمهمة، أم استنفد دوره، ليخلفه رعيل من قلب معركة التحول؟ بلغة وأحلام وتخييل وخطاب مختلف عن أمس؟ أليس بوسعنا التساؤل، أيضا، بأن التخلص من ربق الاستبداد والحرمان، وتحقق الديموقراطية في المجتمعات العربية من شأنه أن يحرر الكاتب من أدب الشهادة، فينتقل من وضع الوسيط، ومن الخضوع لإكراه الجماعة، وقد تحرر من إكراه القهر السياسي، إلى كتابة نص الذات، الحرة، المتفتحة، هي المنبع والمرصد، بالتفاعل في كل اتجاه؟ ليس أدبنا عالميا لا بسبب اللغة وحدها، ولكن لأنه سجين خطاطات ذهنية ومجتمعية ثابتة، وهذا أفق مفتوح للتأمل والسؤال.