اتسمت المرحلة التي أعقبت رحيل بن علي بالارتباك والتردد، وقد بدا ذلك واضحا من خلال عملية نقل السلطة بصورة سريعة إلى رئيس الوزراء محمد الغنوشي الذي أعلن نفسه رئيسا للبلاد خلفا لبن علي، ليتم بعد 24 ساعة فقط نقلها مجددا إلى فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب، بعدما تبين وجود ثغرات دستورية فاضحة، كما بدا هذا الاضطراب لاحقا في سرعة تشكيل الحكومة المؤقتة ثم تعديلها. إرادة قوية بدون رؤية واضحة لا تمتلك نخبة الحكم التي تولت مقاليد الأمور بعد رحيل الرئيس المخلوع بن علي، رؤية واضحة للمرحلة القادمة، ويتسم سلوكها السياسي في الغالب بالتكيف الاضطراري وتجنب مصادمة الشارع، ولكن مع وجود إرادة قوية لاحتواء الوضع الناشئ وعدم الذهاب بعيدا في عملية التغيير. لكن ضغوط الشارع الذي لا يزال مصرا على قطف ثمار ثورته كاملة، ثم رفض الاتحاد العام التونسي للشغل وجل أحزاب المعارضة لتركيبة الحكومة الانتقالية الأولى بقيادة محمد الغنوشي، حتى بعد إعلان استقالة أعضائها من التجمع الدستوري الديمقراطي، اضطرت السلطة إلى إدخال تحوير جزئي على الحكومة تم بموجبه إبعاد الشخصيات المحسوبة على الحزب الحاكم، مع الإبقاء على وزراء المعارضة الذين يغلب عليهم التوجه اليساري أساسا، وإدخال وجوه جديدة من ذوي الخبرة الفنية. ورغم أن فكرة تكوين مجلس لقيادة الثورة يشرف على إدارة المرحلة الانتقالية يضم شخصيات وطنية مقبولة مثل أحمد المستيري، ومصطفى الفيلالي، وأحمد بن صالح، كانت موضع تداول في أروقة الحكم، وفي وسائل الإعلام التونسية، إلا أن خيار الاستمرارية والتعديل الجزئي كان هو الأرجح في نهاية المطاف. وهذا منحى ينم على وجود إرادة داخلية متأتية من داخل الأجهزة أولا، ثم من طرف جهات دولية مؤثرة في القرار السياسي التونسي ثانيا، ترغب في مسك خيوط المرحلة الانتقالية والاستناد على الهيئات التي خرجت من رحمها. يبدو هذا الأمر جليا سواء من خلال استقراء تركيبة الحكومة الانتقالية، أو اللجان الثلاث التي تكونت تحت عباءتها بسرعة ومن دون استشارة الهيئات السياسية العامة. فتونس تشهد حاليا تجاذبا واضحا بين نظام قديم يواجه صعوبات الاستمرار، ولكنه يمتلك قدرة فائقة على التكيف وإعادة إنتاج نفسه، وبين نظام جديد هو بصدد التخلّق من رحم الثورة ومطالبها الجذرية، ولكنه مازال يتلمس طريقه نحو البزوغ والبناء. لقد تمكنت قوى ''العهد القديم'' من حماية نفسها وترسيخ مواقعها عبر استخدامها الذرائعي لشرعية الثورة والتبرؤ الظاهري على الأقل من مخلفات حقبة بن علي، ثم من خلال نفوذها الواسع في الإدارة وسائر أجهزة الدولة. أما القوى الجديدة التي أفرزتها الثورة، والتي تستمد قوتها ومصدر شرعيتها أساسا من الشارع والضغط الشعبي العام، فهي لم تقو بعد على ترجمة مطالبها السياسية في الإصلاح الجذري سواء على صعيد مؤسسات الحكم أو رجالاته. ثمة إشارات متناقضة تطبع المشهد السياسي والمؤسسي والتشريعي التونسي الراهن. فعملية تعيين وزير داخلية جديد (فرحات الراجحي) المعروف بالحياد والمهنية، ثم الإقالات الأخيرة التي طالت عددا واسعا من كبار قادة الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية الحصينة، وأخيرا قرار حظر كافة أنشطة الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) تمهيدا لحله قضائيا وإرجاع مقاره وممتلكاته للدولة، كلها تبين نوعا من الاستجابة لمطلب التغيير، وأخذ مسافة من حقبة بن علي. بيد أن هناك مؤشرات أخرى كثيرة تسير في الاتجاه المقابل تماما، من ذلك تعيين 24 محافظا جديدا، بينهم 19 ينتمون إلى الحزب الحاكم إبان حقبة بن علي، وبعضهم كان وثيق الصلة بأقرباء وأصهار الرئيس المخلوع ومتورطا في قضايا الفساد واستغلال النفوذ. ومواجهة المظاهرات الاحتجاجية في العديد من المحافظات التونسية مثل الكاف وسيدي بوزيد وقبلي وجندوبة بقدر غير قليل من العنف. كما أن البطش بالمعتصمين أمام مقر الحكومة بساحة القصبة، بعد بضع ساعات فقط من الإعلان عن تشكيلة الحكومة ''الجديدة''، كلها تبين الميل إلى مواصلة سياسة القبضة الحديدية المعهودة. من الواضح أنه لا توجد جهة واحدة ومحددة يتمركز فيها القرار السياسي، وقد بينت جملة من الأحداث الأخيرة أن هناك قوى خفية تدير الأمور من وراء حجاب الحكومة المؤقتة، وهي تتوزع بين المؤسسة العسكرية تحت قيادة رشيد عمار الذي لعب دورا حيويا في الإطاحة بحكم بن علي، ووزراء ومستشارين سابقين باتوا يحيطون بالرئيس فؤاد المبزع، ورئيس الوزراء محمد الغنوشي، وبين أجهزة البوليس السياسي التي اعتمد عليها بن علي بصورة شبه كاملة في تركيز حكمه والبطش بخصومه. وهنالك شخصيات محسوبة على العهد السابق لا تزال مؤثرة، بعضها تم استبعاده من حكم بن علي، مثل الوزير الأول الأسبق الهادي البكوش الذي كان شريكا له (إلى جانب الحبيب عمار) في الإطاحة ببورقيبة، وبعضها الآخر احتفظ بموقعه إلى غاية خلع بن علي، مثل منصر الرويسي الذي كان يشغل منصب مستشار خاص لبن علي، وقبل ذلك تولى مهام وزارية مختلفة، والمعروف بصلاته المتينة بالأوساط اليسارية خاصة. القوى الفاعلة والمؤثرة تظل فرنسا أكثر القوى الخارجية تأثيرا ونفوذا في الساحة التونسية بحكم الميراث الاستعماري الثقيل الذي خضعت له تونس وبلدان المغرب العربي عامة، ثم بحكم الجوار الجغرافي المؤثر. فحكومة ساركوزي عملت على دعم نظام بن علي حتى اللحظة الأخيرة، وقد فاجأها الرحيل للرجل بهذه السرعة، إلا أنها مع ذلك مازالت تحتفظ بخيوط تأثير كثيرة سواء داخل أجهزة الحكم أو بين المعارضين ونشطاء المجتمع المدني. والأمريكيون شأنهم في ذلك شأن أقرانهم الأوروبيين فاجأتهم تطورات الأحداث في تونس، بيد أنهم لم يمانعوا تماما في رحيل بن علي واستبداله بوجه آخر من داخل النظام. وقد كانت الآمال معلقة على كمال مرجان وزير الخارجية السابق لقيادة المرحلة الانتقالية إلا أن قوة الرفض والممانعة كانت أقوى من رغبة الأمريكيين والأوربيين. الجيش: ضابط الإيقاع لعبت المؤسسة العسكرية دورا رئيسيا في التعجيل برحيل بن علي من خلال الامتناع عن إطلاق الرصاص وملازمتها الحياد، ثم تحولت إلى انحياز واضح للمتظاهرين في الأيام الأخيرة قبل سقوط الرئيس المخلوع. وما هو جلي حتى الآن هو أن المؤسسة العسكرية لا ترغب في التورط المباشر في الشأن السياسي، وهي تميل إلى لعب دور الحكم، وضبط إيقاع الساحة السياسية من خلال التدخل عند الضرورة. من المعلوم هنا أنه لا توجد تقاليد انخراط العسكر في السياسة في تونس منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، الذي كان شديد التوجس من العساكر، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها لزهر الشرايطي إلى جانب مجموعة من الضباط اليوسفيين (نسبة إلى صالح بن يوسف غريم بورقيبة) سنة .1962 فأولوية المؤسسة العسكرية تتمركز في المرحلة الراهنة في حماية الدولة من الانهيار والحيلولة دون السقوط في الفوضى، مع الاستجابة المحسوبة لمطالب الثورة. الاتحاد العام التونسي للشغل: انبعاث جديد رغم ما تعرض له الاتحاد العام التونسي للشغل من إنهاك واحتواء خلال حقبة بن علي، وخاصة على مستوى قيادته التنفيذية المركزية، إلا أن أحداث الثورة بينت أنه يظل أهم الهيئات المدنية المنظمة على الإطلاق، وقد بدا ذلك جليا من خلال الحضور القوي للقيادات النقابية الوسطى التي تحولت إلى قيادات ميدانية للحركة الاحتجاجية منذ الأيام الأولى، ومن المنتظر أن يكون للاتحاد دور أكبر في المرحلة القادمة مع اتساع مناخ الحريات، وحالة الديناميكية السياسية والاجتماعية التي تشهدها البلاد، ولكن ذلك سيكون قطعا على حساب القيادة التنفيذية، وعلى رأسها الأمين العام عبد سلام جراد، لارتباطها بحكم بن علي. الشباب: قوة ضغط تمكنت هذه القوة الجديدة من فرض نفسها على الأرض من خلال ما تتسم به من جسارة وجرأة، فضلا عما تتمتع به من قدرة على استخدام تقنيات التواصل الحديثة واطلاع على ما يجري في العالم من حولها. ويتسم هذا القطاع بالاندفاع الثوري والرغبة الجامحة في التغيير، فضلا عن غياب المنزع الإيديولوجي الواضح. ولكن خلافا للحالة المصرية لم تتبلور قيادة شبابية واضحة يمكن أن يكون لها أثر ملموس في المرحلة القادمة، بل يظل هؤلاء أقرب إلى قوة ضغط أكثر من أي دور آخر. المعارضة السياسية: ملامح ثلاث تكتلات تتسم أوضاع المعارضة بشيء من التشتت وبطء الحركة قياسا بوتيرة الأحداث السياسية المتقلبة. فمجموعة 18 أكتوبر التي تضم قوى متنوعة من المعارضة قد تفككت بالأمر الواقع بالتحاق أحمد نجيب الشابي بصفوف الحكومة المؤقتة. كما أن المخاوف من العودة القوية للإسلاميين مجددا قد دفعت إلى ظهور شيء من الاستقطاب الإيديولوجي في الساحة. رغم ذلك، من الوارد جدا أن يحصل اتفاق بين المعارضة على مجموعة من المطالب ومهام المرحلة القادمة، علما أن هناك خطوط حوار وتنسيق ممتدة اليوم بين التشكيلات السياسية المعارضة فيما بينها، ومع الاتحاد العام التونسي للشغل. والأرجح أن تنتظم الساحة السياسية التونسية في ثلاث تكتلات سياسية كبرى، كتلة أولى تضم القوى اليسارية والليبرالية، وثانية تضم الإسلاميين والعروبيين وثالثة تضم بقايا الحزب الحاكم الذي يتجه إلى إعادة تنظيم صفوفه تحت عناوين جديدة. احتمالات المرحلة القادمة يظل الوضع التونسي مفتوحا على احتمالات متعددة في ظل غياب حالة الحسم والوضوح التي أعقبت غياب الرئيس المخلوع، ولكن ما هو مؤكد هنا أن الديناميكية التي فتحتها الثورة ما زالت تعتمل في عموم الجسم السياسي التونسي. فهناك حالة يقظة ومراقبة شعبية مستمرة لمجريات الأمور من خلال حركة التظاهر والاحتجاج التي غدت تقليدا شبه يومي تقريبا، كما أن ظاهرة التسييس واسع النطاق بين عامة التونسيين وخاصة فئات الشباب، والشعور المتزايد بالثقة في النفس، كلها من العوامل الضاغطة باتجاه التغيير. ورغم غياب الأجندة المشتركة بين الطبقة السياسية التونسية إلا أن هنالك ما يمكن تسميته بعقدة 7 نوفمبر/تشرين الثاني (تاريخ انقلاب بن علي). أي الخشية من تكرار تجربة بن علي في الالتفاف على الوضع الناشئ استنادا إلى وعود سياسية بالإصلاح من دون وجود ضمانات وآليات حقيقية على الأرض داعمة لمشروع التغيير، وهذا ما يفسر استمرار الزخم السياسي الراهن بما في ذلك حركة التظاهر والاعتصام، وحتى المواجهة مع قوات الأمن، خصوصا في المدن الداخلية. ما هو مؤكد هنا هو أن بنية النظام التسلطي الذي ورثه بن علي عن سلفه بورقيبة منذ استقلال البلاد سنة 1956 وزاده تشابكا وتعقيدا، قد فقد بعض حلقاته وتلقى ضربات موجعة ولكنه مازال يحتفظ بمقومات الحياة والانبعاث مجددا. فلقد اضطرت حكومة محمد الغنوشي إلى اتخاذ قرار الفصل بين الحزب الحاكم والدولة ثم دفعتها الضغوط الشعبية دفعا فيما بعد إلى إصدار قرار بحل التجمع الدستوري ومصادرة مقاره، وهو أخطر القرارات على الإطلاق منذ خلع بن علي. كما أن أجهزة الأمن الضاربة بما في ذلك البوليس السياسي تعيش حالة ارتباك وحتى تصدع داخلي نتيجة الهجوم عليها، وتحميلها انحرافات المرحلة السابقة، إلا أنها مع ذلك تظل قوة هائلة وقادرة على الالتفاف على الوضع ما لم يتخذ قرار واضح بحل بعض أجنحتها وتقليص حجمها؛ ففي ظل تفكك الحزب الحاكم وتواريه عن الساحة يبقى جهاز البوليس الضخم القوة الرئيسية الخفية والمؤثرة. يظل مستقبل المشهد السياسي التونسي محكوما بمدى قدرة كل من الطرفين، السلطة من جهة وحركة شارع ومعارضة من جهة أخرى، على المبادرة وافتكاك مساحات لصالحه. فكلما اشتد الضغط الشعبي وارتفع صوت المعارضة اضطرت السلطة إلى تسجيل تنازلات لصالح الثورة والاستجابة لمطالبها، وكلما سكنت الأمور وعادت وتيرة الحياة الطبيعية إلا والتقطت السلطة أنفاسها وعادت إلى الإمساك بخيوط المعادلة السياسية على النحو الذي ترغب فيه اعتمادا على قوة النفوذ الإداري والسياسي والدعم الخارجي الذي تتمتع به. التونسيون قطعوا نصف الطريق بفرض الرحيل على الرئيس بن علي من قصر قرطاج، إلا أن عملية بناء وضع مؤسسي وتشريعي جديد على أنقاض العهد القديم ما زالت في بداية الطريق. ومن شأن نجاح الثورة في مصر، وهي الأكثر ثقلا وتأثيرا، أن يعطي زخما قويا لعملية التغيير في تونس وفي المحيط العربي الأوسع.