ينعقد في السادس من هذا الشهر مؤتمر روما لمجموعة أصدقاء ليبيا، بحضور أكثر من 30 دولة، بما فيها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والكل يتساءل: ما الذي يمكن أن يقدمه هذا المؤتمر لليبيا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها؟ ولعل سبب هذا التساؤل الممزوج بكثير من عدم التفاؤل هو أن المؤتمرات من هذا النوع، وآخرها مؤتمر باريس في فبراير (شباط) من العام الماضي، عُقدت من دون أن تنجح في تقديم أشياء ملموسة تغير بعض المعطيات على الأرض، وتدفع نحو الاستقرار والتنمية في ليبيا. وحقيقة الأمر، فإن للحاضرين جميعا مصلحة حقيقية في نجاح المؤتمر، وذلك من خلال تجاوز مرحلة الخطابات الرنانة، على الرغم مما تمثله من دعم سياسي، ليبيا في أمسّ الحاجة إليه، والتركيز على القضايا الجوهرية التي تهم المجتمعين؛ فليبيا اليوم هي أحوج ما تكون لدعم المجتمع الدولي لها، وذلك لسببين؛ الأول هو أن حكومات ما بعد الثورة في ليبيا لم ترث دولة بالمفهوم التقني للكلمة، وذلك لانعدام المؤسسات، بل انعدام حتى ثقافة المؤسسات لدى الناس فيها. والسبب الثاني هو أن المجتمع الليبي، وككل المجتمعات الشرقية، يشهد حالة من الانقسام بين تيارين أحدهما محافظ، وعادة ما يكون ذا خلفية دينية، والآخر مدني يمكن وصفه ب«المعولم»، يسعى إلى محاكاة التجربة الغربية في الاقتصاد والسياسة. هذا الاختلاف المجتمعي بحاجة إلى طرف محايد يساعد أطرافه على وضع قواعد اللعبة السياسية، حتى لا يجنح أحد الطرفين إلى التطرف والعنف. وبالتالي، فإن هذا الواقع الذي فرضته صعوبة مرحلة التحول الديمقراطي في ليبيا يضع أمام المؤتمر تحديين رئيسين؛ الأول هو العمل على خلق معادلة تقوم على احترام السيادة الليبية من جهة، وعلى مساعدة ليبيا على تجاوز كثير من المشكلات الداخلية التي تعيق بناء الدولة فيها من جهة أخرى. فأخذا بعين الاعتبار حساسية الشعوب عامة والشعوب العربية على وجه الخصوص للتدخل الأجنبي، وإيمانا من المجتمع الدولي، وخصوصا بعد بعض التجارب الفاشلة في بلدان أخرى، بأن الديمقراطية لا يمكن فرضها من الخارج، وبأنها بحاجة إلى نضج مجتمعي مما يعني أن عامل الوقت هو عنصر أساسي لا يمكن القفز عليه، فقد تضاءل الحضور الدولي في المشهد الليبي بشكل ملحوظ بعد سقوط نظام القذافي، الأمر الذي بعث بإشارات خاطئة إلى بعض الأطراف المحلية والإقليمية، بأنه يمكن التصرف في ليبيا بالشكل الذي تراه هذه الأطراف محققا لمصالحها من دون الاكتراث بمتطلبات عملية إعادة بناء الدولة وضرورات التحول الديمقراطي. وبالتالي، سيكون مؤتمر روما مناسبة مهمة لتخلي المجتمع الدولي عن فكرة مواكبة التحول الديمقراطي في بلدان الربيع العربي بوجه عام، وفي ليبيا بوجه خاص، واستبدال فكرة مراقبة بها وعن قرب التحول الديمقراطي في ليبيا، وبالطبع ليس لتحديد نتائجه، وهذا ما يُعدّ تدخلا في الشأن الليبي، وإنما لضمان عدم انحرافه عن مساره، وذلك بالتأكيد على ضرورة احترام قواعد اللعبة الديمقراطية، وعدم اللجوء إلى العنف لتحقيق ما يجب تحقيقه عبر الأساليب الديمقراطية المتعارف عليها دوليا. التحدي الثاني الذي يواجه المؤتمر هو كسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها، ومنذ انتصار الثورة، جُل المباحثات بين ليبيا والمجموعة الدولية، التي تصل في بعض الأحيان إلى ما يشبه حوار الطرشان. فالمجموعة الدولية تنتظر أن تقوم ليبيا بتحديد احتياجاتها، وليبيا تنتظر من المجموعة الدولية أن تقوم بتحديد ما يمكنها تقديمه لها، وبالمحصلة فإن ليبيا لم تقم بتحديد ما تحتاجه في هذه المرحلة، لأن الأمر يحتاج إلى خبرة قد لا تتوفر في الجهاز الإداري الحالي، ولأن التجاذبات السياسية بين أطراف العملية السياسية في ليبيا منعتها من بلورة رؤية واحدة لاحتياجات ليبيا الحالية والمستقبلية. وبالمقابل، فإن المجموعة الدولية غير قادرة على تحديد ما يمكنها تقديمه إلى ليبيا، لأنها غير موجودة على الأرض، ولأنها تتعامل مع ليبيا وكأنها بلد مستقر يعمل في ظروف اعتيادية يقوم هو وبمفرده بتحديد ما يحتاج إليه. ولكن، وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات، فإن فرص نجاح مؤتمر روما في التميّز عما سبقه من مؤتمرات، وفي تحقيق أشياء ملموسة تلبي طموحات الحاضرين تظل قوية جدا، وذلك بالنظر إلى تقاطع المصالح بين المجتمعين. فكل ما يريده المجتمع الدولي من ليبيا يمكن إجماله في أربع نقاط رئيسة، هي: 1 استمرار تدفق النفط 2 مكافحة الهجرة غير الشرعية 3 مكافحة ما يسمى بالإرهاب 4 بناء نظام ديمقراطي مستقر. وهذه مصالح ليبية بامتياز، ولتحقيق هذه المصالح المشتركة، فإن على المجتمع الدولي أن يعمل وبحزم على مساعدة ليبيا على التغلب على الصعاب التي تحول بينها وبين بناء نظام سياسي يقود عملية إعادة البناء، وأن يعلن وبصوت عالٍ وموحد أولا عدم قبوله بأي محاولة للمساس بالمؤسسات الشرعية في ليبيا، والمتمثلة في المؤتمر الوطني وفي الحكومة المنتخبة. ثانيا عدم قبوله بعودة النظام السابق أو محاولة إعادة إنتاجه. ثالثا رفض الاعتداء على النفط الليبي مصدر قوت الشعب الليبي، واعتبار أي محاولة لبيعه أو تصديره من دون موافقة الحكومة الليبية هي عملية قرصنة مجرّمة دوليا. رابعا رفض المساس بوحدة ليبيا وباستقرارها وإلزام جميع الدول، وخصوصا المجتمعة منها في روما، على تسليم كل المطلوبين إلى ليبيا، متى ما ثبت تورطهم في أي عمل من شأنه زعزعة الاستقرار فيها. خامسا تجريم استخدام الأسلحة، وخصوصا الثقيلة والمتوسطة، من قبل أي مجموعة كانت في مواجهة الحكومة أو في مواجهة المواطنين. سادسا الطلب من مجلس الأمن القيام بإرسال بعثة تكون مهمتها جمع الأسلحة في ليبيا على أن تكون لهذه البعثة من الصلاحيات والإمكانيات ما يمكّنها من القيام بهذه المهمة. سابعا رفض الاعتراف بأي محاولة للانفصال أيا كانت أسبابها ودوافعها، وأخيرا حظر تصدير السلاح إلى ليبيا لغير الحكومة الشرعية. إن قيام مؤتمر روما بمعالجة هذه القضايا سيبعث بإشارات إيجابية إلى الشارع الليبي بأن المجتمع الدولي لا يزال معه في خياراته وطموحاته وتطلعاته إلى غدٍ أفضل سياسيا واقتصاديا وثقافيا. إن الجغرافيا السياسية ومقتضيات السلم الدولي يفرضان على المجتمع الدولي أن يكون مسؤولا عن نجاح التجربة الليبية، لأنه ببساطة لا يمكنه تحمل تبعات فشلها، وعلى ليبيا أن لا تتردد في طلب المساعدة الدولية، فهي لم تستقل عام 1951 إلا بقرار من الأممالمتحدة، ولم تنتصر ثورتها إلا بفضل المساعدة الدولية. إن أعداء الحضور الدولي في المشهد الليبي لا يعدون أن يكونوا جزءا من نخبة، إما متشبعة بثقافة الأنظمة السابقة التي ما فتئت تخيف الشعوب بعضها من بعض، وإما مستفيدة من حالة الجمود وعدم التقدم نحو بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، أما الشعب الليبي الذي بكى فرحا عند تصويت مجلس الأمن على القرار رقم 1973 في لحظة تاريخية جسدت تلاحما ربما الأول من نوعه بين شعب والمنظمة الدولية، لا يمكن أن يرفض الاستفادة من خبرات الآخرين وإمكاناتهم، فالشعب الليبي لم يخرج على القذافي دفاعا عن سيادته، بل لأنه أذل وحُرم وجُهل باسم السيادة وبذريعة الحفاظ عليها. "الشرق الاوسط"