تحولت النخبة المثقفة من عامل فاعل في المساعدة على صناعة القرار السياسي إلى متغير سلبي غير قادر على مسايرة التطورات التي تعيشها البلاد.. فعلى الرغم من "الذهول السياسي"، الذي يطبع المشهد على بعد أربعة أشهر عن الاستحقاق الرئاسي المقبل، لم يعثر على أثر لموقف صادر عن المثقفين الجزائريين، ينير طريق الرأي العام بخصوص هذه القضية. فمن يتحمل مسؤولية هذه الوضعية؟ هل المشكل يكمن في ضعف النخبة وعجزها عن فرض نفسها؟ أم أن السلطة هي من يتحمل المسؤولية، بتكريسها الاستغناء عن خدمات "المادة الرمادية" وعدم توظيفها في المساعدة على اتخاذ القرار السياسي السليم؟ أم أن الطرفين يتحملان المسؤولية معا؟ يجمع كل من تحدثت إليه "الشروق" من رجالات العلم والثقافة، أن العلاقة بين النخبة والسلطة عادة ما تكون تصادمية، بسبب رغبة السلطة في تدجين النخبة المثقفة والحرص على توظيفها في توسيع قاعدتها السياسية لتعزيز موقعها وتمديد عمرها. يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، سليم قلالة: "لا شك في أن المناوئين للمثقف والعلم والكفاءة، يتزايدون باستمرار، وهي الملاحظة التي عايشناها في الكثير من المواقع. هناك سياسيون يمقتون كل من له علاقة بالتفكير العقلاني. وفي ظل هذا المعطى، وجدت النخبة نفسها إما مجبرة على مسايرة اللا منطق والعشوائية والفوضى، أو الاختفاء من المشهد". ويعترف قلالة، في اتصال مع "الشروق": "صحيح، هناك بعض المثقفين غير مبالين بالواقع، ربما لأسباب نفسية واجتماعية أو بسبب المحيط العام". ويضيف: "الأقلية التي أعرفها حاولت أن تفرض منطقها، غير أنها وجدت نفسها إما مدجّنة أو خارج اللعبة". ويعطي المتحدث لهذه الظاهرة بعدا تاريخيا يعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال. ويفسر الأستاذ بجامعة الجزائر تراجع الدور السياسي للنخبة بقوله: "المثقف يفتقد أدوات المواجهة مع السلطة، كون هذه الأخيرة تملك وسائل القوة (المال، القوة وبقية وسائل الردع..)، في حين، إن المثقف لا يملك سوى الرأي، وربما يكون أضعف عندما يحرم من تضامن زملائه، وذلك هو ما يحصل". وحول ما يجب على النخبة أن تقوله في الظرف الراهن، يرد قلالة: "ينبغي أن توضح البديل الأفضل للمجتمع، أن ترسم الطريق الأنسب للمرحلة المقبلة، أن تقيّم المسيرات السابقة للسلطة. ينبغي على المثقف أن يبلور موقفا واضحا عندما تكون البلاد في حاجة ماسة إليه". أما عبد العالي رزاقي، الأستاذ بمعهد علم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، فينظر إلى القضية من وجهة نظر مغايرة، ويعتقد أن للمثقفين دورا سياسيا، لكنه محدود التأثير بسبب حرمانهم من منابر تبليغ مواقفهم. وهنا يقول: "هناك من الكتّاب من هم ممنوعون من الظهور في التلفزيون العمومي بقرارات سياسية". غير أنه لم يسقط عنهم مسؤولية الفشل في توجيه المجتمع: "اتحاد الكتاب لما ظهر في 1963، كان يجمع كل النخب، المعربة والمفرنسة، لكنه ومنذ أربع أو خمس سنوات، تحول فضاء هذه الجمعية إلى مجرد مكان لبيع الكتب". واعترف رزاقي بغياب نخبة قادرة على تسويق نفسها في المشهد الإعلامي والسياسي: "في الدول المتقدمة، المثقف يعرف باسمه، أما عندنا فالمثقف يعرف من خلال المنصب الذي يشغله". وتابع رزاقي موضحا: "هناك قطيعة بين النخب والأحزاب السياسية، فلو نبحث مثلا عن مثقفين في المشهد السياسي فلا نجدهم يتبوؤون مناصب سامية، إن على مستوى الأحزاب أو على مستوى مؤسسات الدولة.. فلا يوجد هناك رئيس واحد من بين رؤساء الجزائر المستقلة، يملك شهادة جامعية، وربما يعتبر هذا المعطى دليلا آخر على أن المثقف غير مرحب به على مستوى مراكز صناعة القرار في الدولة". ومضى رزاقي موضحا: "في الإمارات العربية المتحدة مثلا، هناك مركز يضم مفكرين وباحثين يساعدون الدولة على اتخاذ القرار، لكن في الجزائر لا أثر لمثل هذا المركز. لقد حاول رئيس المجلس الأعلى للدولة سابقا، علي كافي، إرساء هذا التقليد غير أنه فشل". من جهته، حمل أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر، الزبير عروس، النخبة مسؤولية الانطواء على الذات وترك الساحة لأشخاص لا يفقهون في السياسة، وقال: "إن انسحاب المثقفين من الساحة أفسح المجال أمام شخصيات حولت الممارسة إلى سياسة سياسوية، حلت فيها الشتيمة محل الخطاب الجاد والهادف". ويعتقد المتحدث أن المثقف يتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية: "لا بد على النخبة أن تخرج من حالة المراقبة الذاتية السلبية وترقى بنفسها إلى قلب قضايا الأمة، وإلا أصبحت عالة على المجتمع". كما يحمّل الزبير عروس الذي يرأس "مخبر الدين والسياسة"، السلطة مسؤولية تهميش النخبة عن صناعة القرار السياسي، قائلا: "المثقف باعتباره صانع فكر، مغيّب من طرف صناع القرار، الذين لا يرون له دورا على هذا المستوى، بسبب نظرتهم الدونية تجاهه". وأضاف: "هم (السلطة) يرسمون استراتيجية البحوث ويموّلونها من خزينة الدولة، ثم يرمون بها في رفوف المكاتب. كل الدول المتقدمة على غرار الولاياتالمتحدة مثلا، تعتمد على مراكز البحوث في صناعة القرارات على أسس علمية، لكننا في الجزائر لا نعرف كيف تتخذ القرارات المصيرية ولا نعرف مصدرها".