قليلة هي البرامج التلفزيونية المغربية التي تشد إليها انتباه المشاهد في المغرب، ومن النادر أن نشاهد في القنوات المغربية سجالا يقابل، وجها لوجه، شخصين يمثلان وجهتي نظر متعارضتين تعارضا كليا. وفي الأسبوع الماضي استطاعت إحدى تلك القنوات أن «تصنع الحدث»، كما يقال في لغة الإعلام، ذلك أنها تمكنت، من جهة أولى، أن تستقدم مفكرا مغربيا كبيرا هو الأستاذ عبد الله العروي، مع حرصه على الابتعاد عن الأضواء وميله الشديد إلى التقليل من الكلام ما وسعه الجهد. نجحت في حمله على أن يدخل في سجال مع أحد رجال الأعمال المغاربة المالك لإحدى شركات الإشهار (روج)، قبل بضعة أسابيع لدعوة مفادها اتخاذ اللغة العامية (أو «الدارجة»، كما يقال في المغرب، لغة للدراسة والتلقين في المغرب). عقد رجل الأعمال المشار إليه «ندوة علمية»، (والمزدوجتان هما، بطبيعة الأمر، للحيطة في استعمال نعت العلمية ولدلالة الندوة معا)، دعا إليها بعض الشخصيات النافذة في الدولة المغربية ومن المقربين من الديوان الملكي خاصة، ثم إنه عمل على حمل توصيات الندوة إلى الجهات العليا وأخص تلك التوصيات يفيد الاستعاضة باللسان المغربي الدارج عن لغة الضاد في المعرفة والتلقي. وما حدث إثر انتشار خبر الندوة وتوصيتها خاصة هو ارتفاع أصوات الاستنكار والاستهجان، بل إن ائتلافا ضم عددا هائلا من الجمعيات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني أعلن مخاوفه الكبرى في الموضوع لرئيس الحكومة المغربية، كما أن الائتلاف المشار إليه عمد إلى استنفار جماعات المثقفين وأهل التربية والتعليم. وفي مواكبة لحملة الشجب والاستنكار والكشف عن الموجهات الآيديولوجية الخفية وإلى التنديد بالجهات التي تسندها، نشطت الأقلام في الصحف المغربية في الإبانة عن الخطورة في دعوة السيد رئيس شركة الإشهار المغربية، وكان أحد المثقفين المغاربة البارزين الذين أسهموا بذلك هو الأستاذ العروي في حوار مسهب أجرته معه جريدة مغربية واسعة الانتشار. يصدق القول، من الناحية الإعلامية الصرف، أن السجال الذي قابل بين المثقف العربي الشهير وبين رجل الأعمال صاحب شركة الترويج للمواد الاستهلاكية وغيرها يعد «حدثا» ينتزع اهتمام الملايين من المشاهدين داخل المغرب وخارجه. والحق أن الحوار بين أهل الثقافة ورجال المال والتجارة لا يدخل في تقاليدنا العربية الثقافية، وما أحسب أن اللوم في ذلك يقع على المثقفين العرب، وما أظن أن من بني جلدتنا من يسفه هذا الاعتقاد. شد العروي الانتباه إليه باعتباره مثقفا عربيا ينافح عن قضية تعنى الأمة العربية أجمع، وهذا من جانب أول، وفي الكشف عن الترهات والأغاليط، من جانب ثان، وذلك بالقدرة على الاحتجاج بالمعطيات العلمية الصحيحة والتدليل على صحة القضية التي يدافع عنها بتجارب الشعوب في مختلف بقاع العالم. لذلك صح القول من الذين تابعوا الحوار بين الرجلين إن الشأن كان سجالا بين طرفين لم تكن الأسلحة فيه متكافئة، إذ لا تكافؤ بين المعرفة وبين الجهالة. ما يحملني على الحديث ليس الحدث في ذاته (مع أنه شغل المغاربة ولا يزال بحسبانه يتعلق بقضية تعد في مقدمة القضايا الجوهرية التي تشغل المغرب حاليا: ملكا وشعبا)، بل ولا خطورة القضية التي يثيرها من حيث إنها تتجاوز الشأن المغربي فهي تعني العرب جميعهم. ما يعنيني هو التنويه بمسائل نبه إليها اللقاء التلفزيوني المشار إليه تنبيها صريحا مباشرا آنا وتنبيها ضمنيا يستوجب نقله من التضمين إلى التصريح غير أنه في الأحوال كلها هو مما يتجاوز الشأن المغربي فعلا، ويعني أهل العربية عامة. المسألة الأولى ترجع إلى الحجة التي يرتكن إليها داعية الانتصار للدارجة لغة للتدريس، ومفادها إمكان الارتقاء بطالب المعرفة من اللغة الدارجة إلى اللغة العربية وهو الاعتقاد الذي فنده اعتراض العروي ببراعة وبساطة معا مصدرهما قوة الاحتجاج العلمي في ذلك، إذ أظهر تعذر تحقق الارتقاء على النحو المزعوم. وما أود التنبيه إليه في هذا الصدد، تذكيرا بحقيقة علمية وتعميما للفائدة هو ما يلي: يقيم الفلاسفة والمنشغلون بقضايا المعرفة العلمية عموما تمييزا بين نوعيين من المعارف هما المعرفة العامية، والمعرفة العلمية، وغني عن البيان أن لهذه الأخيرة شروطها ومكوناتها مما لا حاجة للخوض فيها، بيد أن ما يستحق التوضيح هو أن المعرفة العلمية ليست استمرارا وتطويرا للمعرفة العامية وتنقيحا لها وتشذيبا، وبالتالي تطويرا، وإنما المعرفة العلمية قطع وفصل مع المعرفة العامية. فكما أن الآلة أو الأداة ليست استمرارا لعمل اليد، بل إنها شيء جديد مختلف، فكذلك لا تكون المعرفة العلمية مجرد تنقيح وتطوير للمعرفة العامية ولا العربية الفصحى محض تنقيح وتشذيب للدارجة أو العامية. المسألة الثانية، الواضحة في ذاتها، هي أن الدارجة أو العامية لغة قوم أو جماعة جغرافية - إثنية محدودة، في حين أن اللغة العربية لغة يتعلم بها ويدون ويبدع ما يربو على عدة مئات من الملايين هم مجموع ساكنة العالم العربي، أضف إلى ذلك أنه من العسير الحديث عن لسان دارج واحد أو عامية مشتركة بين ساكنة البلد الواحد: فأهل سوسة، مثلا، لا يتحدثون لغة الجنوب التونسي ولغة هؤلاء مغايرة للغة الساحل. تلك التي يتحدث بها أهالي تافيلالت أو وجدة، والأمثلة تتعدد بتعدد المدن والمناطق الجغرافية العربية. المسألة الثالثة التي يسعى البعض إلى إخفائها أو المماحكة فيها هي أن وراء الدعوة إلى اعتماد العامية لغة للتدريس والتحصيل العلمي دوافع خفية للإبقاء على المواطنين في حال من الجهل والدونية، في حين أن الأمر لا يعني أصحاب الدعوة الشاذة من قريب ولا بعيد ما دامت لا صلة تشدهم إلى التعليم الوطني في البلدان التي ينتمون إليها وينتفعون بخيراتها ويتمتعون فيها بكل أنواع الحصانة. "الشرق الأوسط"