لا يوجد بين المسؤولين الجزائريين الكبار الحاليين، من هو أكثر اطلاعا وإلماما بأسرار وتفاصيل ملف نزاع الصحراء؛ قدر ما هو عليه الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة. إنه الشريك التاريخي للرئيس الراحل هواري بومدين، في صنع وزرع هذا اللغم القابل دوما للانفجار، في أرضية العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين ومن المناسب التذكير هنا، أن "الهدنة" النسبية التي تحققت في علاقات المغرب بجارته الشرقية، دشنها عهد حكم الرئيس الراحل الشاذلي بنجديد، الذي انتصر، بتأثير الجيش، في معركة التنافس المرير، على خلافة بومدين. وكان "بوتفليقة" أحد الطامعين والطامحين الكبار فيها، باعتباره أشد الأوفياء والأقرب من وجدان وعقل الرئيس المتوفى؛ فقد تضامن هذا الأخير وهو نائب أول للرئيس ووزير للدفاع، عام 1965 مع وزير الخارجية الشاب بوتفليقة، ضد الرئيس المنتخب أحمد بن بلة، فحدث ما سميت في حينها "انتفاضة 19 جوان" حيث ثبت بوتفليقة في منصبه بالخارجية، واصبح عضوا نافذا في مجلس قيادة الثورة، بل كان ينظر إليه على أنه الرقم 1 مكرر في رأس هرم الدولة الجزائرية. ولا يوجد شك في أن بوتفليقة، أو "الكومندان" عبد القادر المالي (لقبه الحركي) لكثرة تنقله بين وجدة وتونس ومالي، يتمتع سابقا ولاحقا، بمواهب قيادية مميزة، أهلته،عن جدارة، للمسؤوليات التي اضطلع بها في الجزائر المستقلة، وهي ثلاث :وزارة الشبيبة والرياضة، غداة الاستقلال، ثم الخارجية التي ظل فيها قرابة عقدين من الزمن، وأخيرا رئاسة الدولة؛علما أن نفوذه وخاصة في مجال السياسة الخارجية، تجاوز حدود كل الذين أتوا بعده، أما الذي سبقه، وهو واحد، فم تمض عليه مدة في المنصب. إنه الشاب حقا، محمد الخميستي، اصغر رئيس دبلوماسية في العالم، مفخرة بلاده في ذلك الوقت (توفي وهو في حوالي السابعة والعشرين من عمره). اعتدى عليه بالسلاح مواطن جزائري،على خلفية سبب تافه حسبما راج في ذلك الوقت. لاقىالمعتدي صعوبة في الحصول على أوراق من قنصلية جزائرية بفرنسا، فقصد الوزارة للانتقام من الوزير. ظل "الخميستي" في غيبوبة تامة أسابيع إلى أن لقي ربه. ولأن "بوتفليقة" وهو يتمتع بتلك المواصفات، فقد راهن الملك الراحل الحسن الثاني على ذكائه وبراغماتيته، وايضا معرفته بالمزاج المغربي، كونه أمضى جزءا من صباه في مدينة وجدة ولكثرة تردده على الرباط، سرا وعلانية، وشبكة صداقاته في المغرب. يأتي موفدا من قبل الرئيس بومدين، ومكلفا إلى جانب العقيد،قاصدي مرباح، رئيس الاستخبارات العسكرية، بملف الصحراء .ودليل تلك العلاقة الخاصة إن الرئيس بومدين، وصف "بوتفليقة" ب"الشقيق التوأم" في رسالة مشهورة بعثها للملك الحسن الثاني، غداة هجوم الجيش الجزائري، على منطقة "امغالا" بالصحراء، منتصف السبعينيات. ولا يمكن أن يكون الرئيس بوتفليقة، دون علم بترتيبات اللقاء الذي كان سيتم بين العاهل المغربي الحسن الثاني والرئيس بومدين، في العاصمة البلجيكية، للاتفاق النهائي على تسوية تاريخية لنزاع الصحراء، خاصة وأن الملك الحسن الثاني، لم يكن يرضى لجارته الجزائر، أن تظهر منهزمة؛ وكان يردد عبارته الشهيرة "لا بد من حفظ ماء الوجه" للجزائر، فقد تورطت بعيدا في النزاع. وكان الملك الحسن الثاني، يمتلك فكرة عما سيطلبه الجزائريون بلسان الرئيس بومدين. ومن المؤكد أنه سيحمل معه الأجوبة المقنعة إلى محاوره في "بروكسيل". ويجوز القول إن الملك الراحل، لم يفقد الأمل في إمكانية تفاهم مع الجزائر، بعد الوفاة المفاجئة للرئيس بومدين، في ديسمبر 1978. ولذلك مد اليد لخليفته، موجها رسائل بالواضح والمرموز، مباشرة،وعبر وسطاء، أشهرهم المملكة السعودية . توجتتلك المساعي بالمصافحة الشهيرة بين الشاذلي والحسن الثاني، في صحن الحرم الشريف بمكة المكرمة. انشغال الجزائر فيما بعد بحرب أهلية ضارية، أبعد ملف الصحراء عن المقاربة الدبلوماسية،واصبح من اختصاص، بل في قبضة الجيش والاستخبارات العسكرية، بدليل التصلب الذيطالما أظهرته القوة النافذة في هرم النظام الجزائري. لم يفقد الحسن الثاني، الأمل في انتصار الحكمة والسلم، وتجاوز رواسب الماضي العالقة بين البلدين. تقوى تفاؤله، بعد عودة الرئيس بوتفليقة إلى الساحة السياسية، حاملا مشروع السلام والوئام الوطني، في الداخل، بين الجيش والعناصر الإسلامية المتطرفة. فلماذا لا تمتد قناعاته التوافقية لتشمل الجيران الأقربين؟ طبعا،أدرك الحسن الثاني وبوتفليقة، أن السياسة هي لعبة مصالح، وليست مجالا لتجريب النوايا الأخلاقية والمشاعر الطيبة . لكن رحيل ملك المغرب، المباغت، وضع حدا لاحتمال مشابه تبلور من قبل في سماء العاصمة البلجيكية، أطاحت به الشهب والنيازك،بل ربما أنكرته. كان بوتفليقة شاهده لكنه لم يتكلم حتى الآن. ومرة أخرى تأبى الأقدار التطبيع بين المغرب والجزائر، فكما ذهب "بومدين" على حين غرة، أسلم الحسن الثاني الروح لباريها، وفي نفسه بقية من حتى. قد تكون للجزائر مؤاخذات مشروعة او مبالغ فيها على اسلوب تعاطي المغرب مع ملف الصحراء، واتهامه بالاستفراد في تقرير مصيرها .لكن الثابت أن الرباط، نأت بنفسها دائما عن الصدام المسلح مع الجزائر . وهي ذات الرسالة السلمية التي أراد ملك المغرب محمد السادس، إبلاغها وتأكيدها لجيرانه منذ ارتقائه سدة الحكم وفي اكثر من مناسبة موالية. ولربما انتاب ملك المغرب، شعور بالإحباط من تعنت لا عقلاني، يبديه الطرف الآخر، ما حمل الملك في المدد الأخيرة على تسمية الأشياء بأسمائها واستعمال تعابير مباشرة ودون مواربة، وهو يتعرض في خطبه لنزاع الصحراء. يتساءل المواطن العادي وكذا المرقب اليقظ : لماذا تتصلب الجزائر ولا تتحرك قيد أنملة، موهمة الرأي العام الدولي أن "الجمهورية الصحراوية" وهي اول المعترفين بها، دولة ذات سيادة وكيان يمتلك كل المقومات والمواصفات التقليدية المثبتة في كتب القانون الدولي ومختصرات العلوم السياسية ؟ لا يمكن تفسير المواقف الجزائرية، بكونها دفاعا فقط عن المصالح "الجيوستراتيجية" وحرصها على دور محوري في المنطقة المغاربية. تلك مطامح يتفهمها المغرب بل يصعب تحقيقها دون التفاهم معه عليها. وإذا حصل الوئام والتفاهم بينهما، فإن الفرص والإمكانات لا حصر لها أمام البلدين الجارين والمنطقة المغاربية برمتها. يكمن جانب من المشكل في كون الدولة الجزائرية لا تفصح عن مطالبها بوضوح. فبينما كان الحسن الثاني، يعبر عن بعض رغباتهم الدفينة في الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي مثلا،وأبدى استعدادا لتفهمه وضمانه وفق آلية دولية متفاوض عليها؛ كان الممسكون بمقاليد السلطة في الجزائر، يتعالون، متذرعين بموقف الدفاع الثابت عن حق الشعوب في تقرير مصيرها ومساندة تصفية الاستعمار. المفارقة أن الجزائر لم تتحمس لتقرير مصير الشعب الفلسطيني، على سبيل المثال، بنفس القوة والحماس ورصد الإمكانيات المادية الهائلة، للإقناع بكيان ايديولوجي، صنع على عجل، اسمه جبهة البوليساريو، في ذروة الحرب الباردة هذا "الانسداد" في الأفق او "البلوكاج" هو الذي دفع بعض المراقبين إلى الاستعانة أحيانا بمقولات التحليل النفسي، لفهم آليات واسباب النزاع المغربي الجزائري بخصوص الصحراء ؛ ما يعني أن "مناكفة" المغرب والتضييق عليه في المحافل الدولية، أصبح عقيدة متحكمة في ذهنية ونفسية بعض المسؤولين الجزائريين، يتوارثها الخلف عن السلف. الوحيد الذي حاول الخروج عن "النص" هو الراحل محمد بوضياف الذي لم يغفر له نزوعه نحو"مهادنة" المغرب. فكان جزاؤه رصاصة من الخلف، وهو أحد الزعماء "الأحرار" الخمسة. ليس ما يؤسف عليه، ضياع الفرص التاريخية الثمينة، ولا الخسارات الاقتصادية الهائلة للمغاربيين، التي يتسبب فيها استمرار الخلاف بشأن الصحراء؛ بل ما يخشى هو ترسيخ الأحقاد والبغضاء بين الشعبين، ذلك ما يطفو على السطح كلما نشب حادث دبلوماسي بين الرباطوالجزائر. إن ما روجته كثير من وسائل الإعلام الجزائرية في الأيام الأخيرة، لا يدل على انزلاق سياسي فقط بل انحراف عاطفي، لم يقابل لحسن الحظ بما يماثله من الجانب المغربي، دون أن يعني ذلك عدم توجيه اللوم لبعض الأقلام الزائغة. وعلى كل وكيفما كانت التطورات، فإن الرئيس بوتفليقة، شافاه الله، يتحمل مسؤولية معنوية كبيرة. فهو المشارك في تأليف نص مسرحي، لم يعد مخفيا بين الكواليس. بإمكانه أن يدلي بشهادته التاريخية للتاريخ بما لا يضر بمصالح بلاده، بل ليخرجها من نفق مسدود، أدخلها فيه مع الرئيس الراحل بومدين. في بعض اللحظات التاريخية،تكون شجاعة الرجال حاسمة. من سيلوم الرئيس الجزائري لو جنح للسلم مع المغرب انطلاقا من مبدأ "لاغالب ولا مغلوب؟" قد يحاربه دعاة التصعيد ومن لهم مصلحة في التأزيم. لكنه سيدخل التاريخ من كل أبوايه، مرفوع الهامة والقامة. قد تكون تلك وصية رفيقه بومدين، لم ينطق بها قبل الدخول في غيبوبة. غيبته عن عالمنا الفاني. رحمه الله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.