أكد الرئيس الجزائري الأسبق، الشاذلي بن جديد، في الحلقة الثانية من مذكراته في «الشروق الجزائرية»، وخاصة في الجزء المتعلق ب»العلاقة مع المغرب»، أنه قاد الناحية العسكرية الثانية، على الحدود الساخنة مع المغرب، مدة 15 سنة دون انقطاع. وقال: «كنت مدركا تمام الإدراك لجسامة المسؤولية وثقلها الملقاة على عاتقي. ذلك أن هذه الناحية حسّاسة، وتكتسي أهمية استراتيجية كبيرة، بحكم شساعة إقليمها وضمّها لثلث أفراد الجيش ونوعية سلاحه المتطوّرة. وفضلا عن ذلك، فإن حساسية الناحية تنبع، بالدرجة الأولى، من كونها متاخمة للحدود المغربية». وذكر بن جديد أنه، بالنظر إلى التوتر القائم بين البلدين الجارين (المغرب والجزائر)، كان هناك احتمال دائم بنشوب نزاع مسلّح مع المغرب، في ظل التوتر المستمر بين البلدين. مضيفا: «كان همّي الوحيد هو الحيلولة دون وقوع ذلك، والحرص في الوقت نفسه على وحدة التراب الوطني وسلامته. وكان هذا الهاجس يؤرّقني على الدوام كمجاهد وكقائد عسكري. فأنا أنتمي إلى جيل آمن إيمانا راسخا، بوحدة الشعوب المغاربية، جيل لم يساوره الشك أبدا في أن ما يجمع بين شعوب المنطقة أقوى مما يفرق بينها، جيل يعتبر وشائج التاريخ وروابط الدين وحقيقة الجغرافيا والتطلع إلى مصير مشترك واحد تجعل من هذه المنطقة وحدة متجانسة في طموحاتها منسجمة في تطلعاتها، لكن دسائس الاستعمار وأطماع بعض الساسة حالت دون ذلك. وكان إيماني هذا، وإيمان جيلي، يستند بطبيعة الحال، إلى تجربة واقعية في الكفاح المشترك أثناء ثورتنا المجيدة. فنحن لم ننس أن الشعبين الشقيقين التونسي والمغربي احتضنا المجاهدين الجزائريين بكل فخر واعتزاز في فترة صعبة، وأن أبناء هذين الشعبين رفعوا السلاح في وجه المستعمر الفرنسي، وحاربوا معنا في خندق واحد، ومنهم من استشهد في سبيل استقلال الجزائر». وذهب الرئيس الراحل إلى أن مشكلة المطالب الحدودية بين المغرب والجزائر نشأت قبل الاستقلال، وتحدث عن الملك الحسن الثاني قائلا: «مارس الملك الحسن الثاني ضغوطا مختلفة على الحكومة المؤقتة لمنعها من إجراء الاستفتاء حول تقرير المصير في منطقة تندوف التي كان يدّعي مغربيتها. وقام بنشر قواته على طول الحدود. كان ذلك أول مؤشر على أن الحدود ستتحّول إلى حقل ألغام سينسف كل الإرادات الطيّبة في طريق إقامة مغرب موّحد ومتحرر. ونفس المطامع لمسناها في الحدود الشرقية. فبورقيبة بدأ مع اقتراب الاستقلال ينتقل من التلميح إلى التصريح بمطامعه في الحدود مع الجزائر. هذه الأطماع المعلنة حينا، والمبطنة حينا آخر، جعلتني طيلة قيادتي للناحية العسكرية الثانية لا أطمئن إلى نوايا الملك. وكانت قواتنا في حالة شبه استنفار دائم تقريبا. لقد كانت العلاقات بين الجزائر والمغرب متوترة باستمرار، ولم تتسم بالثقة المتبادلة والتعاون الأخوي وحسن الجوار إلا نادرا. كما أن العلاقة بين هواري بومدين والحسن الثاني كانت متصلبة، وكأنما بين الرجلين حساب قديم يجب تصفيته، وحقد دفين لم يستطيعا تجاوزه. وخلق هذا كلّه جوا من الشك وانعدام الثقة انعكس سلبا على كل محاولات إرساء قواعد تعاون مثمر يصون تطلعات الشعبين إلى التحرر والاستقرار.» وذكر الشاذلي، وفق ما يردده كل مسؤولي قصر المرادية، أن الجزائريين لم ينسوا بأن المغرب دخل في حرب معهم في وقت خرجت فيه الجزائر ممزقة مثخنة بالجراح بعد حرب ضروس دامت أكثر من سبع سنوات». وذكر صاحب المذكرات: «كنت في زيارة رسمية إلى الصين حين بلغنا خبر توغل الجيش المغربي يوم 15 أكتوبر 1963 في حاسي بيضاء وإقامته لمعسكرات هناك. حاولت إقناع القادة الصينيين بضرورة عودتنا إلى أرض الوطن. لكنهم أصروا على إتمام الزيارة. بعد عودتنا إلى الجزائر وجدنا ما عرف «بحرب الرمال» قد انتهت، وأن الجيش المغربي انسحب بفضل مساعي منظمة الوحدة الإفريقية، وضغوط جمال عبد الناصر وفيدال كاسترو، وأريد هنا أن أفتح قوسا لأحيي حكمة محند أولحاج الذي وضع في الوقت المناسب حدا لتمرّده في القبائل، وانضم إلى القوات الحكومية لصدّ العدوان في ذلك الظرف العصيب، وانحني أيضا أمام الشجاعة السياسية للزعيم المهدي بن بركة، الذي كان الصوت المغربي الوحيد الذي جهر بموقفه، مدينا الأطماع الامبريالية للعرش الملكي، ومعتبرا الاعتداء المغربي خيانة لنضال الشعوب المغاربية من أجل الوحدة. لقد كلّفه هذا الموقف ثمنا غاليا حيث حكم عليه بالإعدام غيابيا ليغتال في أكتوبر 1965». وأضاف الشاذلي: «كان الدرس الذي استخلصناه، نحن العسكريين، من تلك الحرب هو أن الحسن الثاني لم يتخل عن أطماعه التوسعية، وأنه لا يعترف بالحدود الموروثة عن الاستعمار، والتي نصّ ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية على حرمتها، شأنه في ذلك شأن الأحزاب المغربية، خاصة حزب الاستقلال لعلال الفاسي الذي كان يحلم «بمغرب كبير» يضم أجزاء كبيرة من غرب وجنوب غربي الجزائر وموريتانيا ويمتد حتى نهر السنغال». لقد عبّرنا، نحن القادة العسكريين، في العديد من اللقاءات مع هواري بومدين، عن رفضنا لتقديم أيّ تنازلات في مسألة الحدود. وكان بومدين غير راض عن الطريقة التي حلّت بها مسألة الحدود مع تونس. وكان موقفه هو أن الحدود الجزائرية لا ينبغي أن تكون محل متاجرة أو موضوع ابتزاز، خاصة وأنه كان يعرف أن بعض السياسيين يحاولون تقديم تعويضات اقتصادية في مقابل تخلي المغرب عن أطماعه، وكان هذا التوجه واضحا في اللقاء الثنائي الذي جرى بين أحمد بن بلة والملك الحسن الثاني في السعيدية في شهر ماي 1965، والذي رفض بن بلة مشاركتي فيه لأسباب أجهلها». وتابع: «لم تتحسن العلاقة بين الجزائر والمغرب بعد حركة جوان التصحيحية. وظل كل طرف متمسكا بموقفه في مسألة الحدود. وبالإضافة إلى ذلك أصبحت المعارضة المغربية الموجودة في بلادنا، والتي ورثناها عن حكم بن بلة، تشكل عقبة في ريق نزع التوتر بين البلدين. كان الملك الحسن الثاني يصر، في كل مرة، على حل هذه المعارضة التي لجأت إلى الجزائر سنة 1963، معتبرا ذلك شرطا أوليا لإعادة بعث الدفء في العلاقة بيننا. كما كان يتهم الجزائر بدعم غريمه السياسي المهدي بن بركة.» وواصل الشاذلي في حديثه عن المعارضة المغربية: «كانت القيادة السياسية لهذه المعارضة تنشط في العاصمة، أما تنظيمها المسلح، فكان في مركزين بغرب البلاد، الأول في سيدي بلعباس والثاني في المحمدية، أي في إقليم الناحية التي أشرف عليها. إدراكا منه لضرورة تصفية الأجواء بين البلدين وتمهيدا لأول زيارة له إلى المغرب اتصل بي الرئيس هواري بومدين، لاستشارتي في الموضوع. قلت له بعد أن قدمت له عرض حال عن المسألة «إني لا أؤمن بمعارضة تنشط خارج بلدها، وإن الإخوة المغربيين إذا أرادوا أن يعارضوا حكم الملك، فليفعلوا ذلك داخل بلدهم». ثم شرحت لبومدين أن بحوزتي معلومات تقول إن المخابرات المغربية اخترقت صفوف هذه المعارضة. اقتنع بومدين بوجهة نظري، وطلب مني التصرف بما تمليه المصالح العليا للبلاد. كان الجيش يشرف على تسليم هذه المعارضة وتدريبها، أما الإشراف السياسي واللوجيتسيكي فكان من صلاحيات جبهة التحرير الوطني. وكان المحافظ الوطني للحزب في عمالة وهران آنذاك يدعى قواسمية الشاذلي عبد الحميد، لذلك اعتقدت المخابرات المغاربية، والملك الحسن الثاني استنادا إلى تقاريرها، أن الشاذلي بن جديد هو من نظم سياسيا هذه المعارضة ووجهها. لقد اختلط عليهم الأمر بين اللقب والاسم، تماما مثلما اختلط الأمر في بداية الثورة على المخابرات الفرنسية التي أعتقدت فترة طويلة أن لقبي هو الشاذلي. كنت، بالطبع حريصا على إخفاء لقبي مؤقتا حماية لعائلتي من قصاص الجيش الفرنسي، لكن الفرنسيين سرعان ما عرفوا حقيقة الأمر. أعطيت أمرا لمصالح الأمن بحل التنظيم المسلح واسترجاع السلاح. وكنت حريصا على أن أوفر فرص العمل في مزارع التسيير الذاتي لمن أراد من أعضائها البقاء في الجزائر، أما من أراد الاستفادة من العفو الملكي فقد سهلنا لهم أسباب المغادرة. اختلاط الأمر على المخابرات المغربية بين اسمي ولقبي سبّب لي مشكلة جدية مع الملك الحسن الثاني. فخلال زيارة هواري بومدين الأولى إلى المغرب كنت الثاني من الناحية البروتوكولية، لكن الملك غيّر ورقة البروتوكول وجعل مني الرابع. وشعرت أثناء المحادثات بين الوفدين أن الملك يعاملني ببرودة وجفاء. فهمت السبب، وفي المساء رفضت حضور المأدبة التي أقامها الملك على شرف الوفد الجزائري، وقلت لمولود قاسم إذا سألك بومدين عن سبب غيابي قل له «الشاذلي متعب» وهو يعتذر عن الحضور»، وقد لام بومدين الملك الحسن بعد ذلك. وشعرت بتغيّر العلاقة بيننا خلال زياراتي الثانية إلى المغرب. كان بومدين قبل لقائه الأول بالملك يراهن على المعارضة المغربية. وكان يعتبر مساعدتها دين في عنق الجزائر. وهذا أمر طبيعي، فبومدين عاش طويلا في الناظور ووجدة، وكان شاهدا على احتضان الشعب المغربي للمجاهدين، وكان تأييده لهذه المعارضة من قبيل رد الجميل للشعب المغربي. لكنه، بعد قمتي إفران وتلمسان، امتنع عن القيام بأيّ خطوة من شأنها تعكير الجو بين البلدين. وتميّزت هذه المرحلة بالاحترام المتبادل وحسن الجوار وتجنب الطرفين لهجة التصعيد. من مظاهر هذه السياسة الجدية تكليف بومدين لي بين 12 و22 ماي 1970 بالمشاركة في الأعياد المغربية الثلاثة، عيد العرش وعيد الشباب وعيد الجيش الملكي، أو ما يسميها المغاربة بالأعياد الثلاثة المجيدة، وضم الوفد الذي ترأسته قادة أركان كل النواحي العسكرية. كانت العلاقة بين البلدين طيّبة، واستقبلنا الأشقاء في المغرب بحفاوة بالغة وأحسنوا ضيافتنا، وحضرنا الاستعراض العسكري الضخم الذي نظم بالمناسبة. كنت جالسا إلى يمين الملك الحسن الثاني داخل قمرّيته، وكان ولي العرش شقيقه عبد الله إلى يساره. اندهشت الوفود الأجنبية الأخرى لحفاوة الاستقبال والمقام الرفيع الذي خصنا به الملك. فلم يكن مألوفا أن يجلس أي وفد أجنبي جنب الملك، مهما عظم مقامه وسمت صفة تمثيله. وكان أحد الجنرالات واقفا إلى يميني إلى الخلف قليلا. كلّفه الملك بأن يشرح لي ويعلق على مجريات الاستعراض الذي شاركت فيه تشكيلة عسكرية جزائرية. خلال تلك الزيارة قلّدني الملك وساما ملكيا. ومن أطرف ما حدث خلالها هو أن حامل العلم الوطني، ضابط الصف شقيقي عبد المالك بن جديد. رفض تنكيس العلم الوطني لدى مرور الملك أمام التشكيلة العسكرية الجزائرية، وحين سئل عن سبب ذلك أجاب: «العلم الذي ضحى من أجله مليون ونصف المليون شهيد لا ينكس أمام إنسان حتى ولو كان ملكا. بعد انتهاء الاستعراض، كلف الملك الجنرال أوفقير بتنظيم حفلات على شرف الوفد الجزائري يسهر شخصيا عليها وكان قبل ذلك قد سأل شابو عن إمكانية الحديث معي سياسيا. زرت رفقة الوفد الدارالبيضاء، وكان أوفقير حريصا على الاستفسار من حين إلى آخر عن أحوالنا. ذات يوم اتصل بي ضباط شباب برتبة رواد. ومن خلال الحديث معهم، فهمت أنهم يريدون أن يبلغوا لي رسالة ما. في الأخير، قالوا لي بعد تردّد «حاولوا أنتم في الجزائر أن تمنعوا القذافي من إقامة وحدة مع مصر، ريثما نطيح نحن هنا في المغرب بالملكية ونقيم نظاما جمهوريا، ثم بعد ذلك نبني اتحاد المغرب العربي الكبير». أعترف أنني صدمت لجرأتهم وتساءلت في قرارة نفسي هل رواد الضباط جادون فيما يقولون أم أنهم يريدون أن يختبروا نوايانا في الجزائر؟ لكن الشكوك التي ساورتني بدأت تتأكد بعد أن لاحظت أن الجنرال أوفقير يستدعيهم من حين إلى آخر ويسألهم عني. كانت الانقلابات في ذلك الوقت موضة في بلدان آسيا وإفريقيا والعالم العربي ولم يكن المغرب بمنأى عنها. زادت شكوكي أكثر بعد أن ذهبت إلى مراكش. نزلت بفندق «المأمونية» الفخم، الذي كانت تطيب الإقامة به لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. كنت متعوّدا على النهوض باكرا وتناول فطور الصباح في البهو. في ذلك اليوم كنت وحدي. اقترب مني شاب واستأذن بالجلوس. بدا لي سلوكه مريبا، وبعد تردّد كرّر عليّ الكلام نفسه الذي سمعته من قبل من الضباط الشباب عن القذافي والعرش الملكي والإطاحة به والمغرب العربي الكبير. لم أفصح له عن رأيي وتظاهرت بتجاهل الأمر. لكني افترضت في الوقت نفسه أن الجنرال أوفقير هو الذي كلفه بنفس المهمة، وافترضت أيضا أن أوفقير إما أنه يريد أن يختبرني ويعرف موقفي من الملك والملكية، لأنه يعرف أني مسؤول على الوحدات الكبرى للجيش الجزائري المتواجدة على الحدود مع المغرب، وإما أنه جاد في نواياه ويخطط لشيء ما. وحين عدت إلى الجزائر أخبرت هواري بومدين بالأمر، فابتسم كعادته ولم يرد عليّ. هل كان بومدين على علم بذلك؟ لا أدري. لم تكن تربطني بالجنرال أوفقير أية علاقة. لماذا، إذا، حاول أن يختبر موقفي في هذه المسألة؟ سؤال مازال يحيّرني إلى اليوم. كنت في الحقيقة أعرف علاقته الجيدة بالعقيد عبد القادر شابو، الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، فكلاهما من قدماء الجيش الفرنسي. ويوم تحطمت المروحية التي كانت تقل شابو في شهر أبريل 1971 جاء الجنرال أوفقير وحضر جنازته وبكاه بدموع حارة. كانت هناك معلومات غير مؤكدة عن تنسيق بين أوفقير وشابو وجنرال تونسي خدم هو الآخر في الجيش الفرنسي، لتنظيم انقلابات في بلدان المغرب العربي برعاية من فرنسا. وكان هذا المسعى يندرج في خطة مدروسة وبعيدة المدى لحماية المصالح الفرنسية في المنطقة. وأتيح لي خلال هذه الزيارة إلى المغرب الشقيق ملاحظة الفرق الكبير بين الضباط المغربيين الذين خدموا بالجيش الفرنسي ونظرائهم الذين خدموا في الجيش الإسباني من خلال حديثي مع الجنرال عبد السلام، وهو من قدماء الجيش الإسباني. قدماء الجيش الإسباني يدينون بولاء أعمى للعرش الملكي، أما من خدموا بالجيش الفرنسي فأغلبهم، كما هو معروف، تورطوا في محاولات الإطاحة بالملك. ولعل أوفقير أراد أن يتأكد من موقفي من أيّ تغيير سياسي محتمل في منطقة المغرب العربي، لأن شابو أقنعه بعد أن علم أنني سأقود الوفد العسكري الجزائري أن الشاذلي بن جديد «هو رجلنا» وأنه سيؤيدنا في أيّ محاولة تغيير. تأكدت الشكوك التي ساورتني بعد مدة قصيرة. في 27 ماي 1970 شارك في اللقاء الذي جمع في إفران بين بومدين والملك الحسن الثاني. كان اللقاء ناجحا وتمخض عن توقيع إتفاقية تمّ بموجبها إنشاء لجنة مختلطة لترسيم الحدود ترأسها عن الجانب الجزائري محمد زرقيني، وعن الجانب المغربي الجنرال أوفقير. اعترف المغرب بحق ملكية الجزائر لمنجم غار جبيلات، كما اتفق الطرفان على إنشاء شركة مختلطة لاستثمار هذا المنجم. كانت القمة ناجحة على كل الأصعدة، وفتحت الطريق نحو تصفية الأجواء، وبرز أمل عريض في التعايش والتطبيع. وفي الوقت نفسه سعى بومدين إلى تصفية الأجواء بين المغرب وموريتانيا وأدّت مساعيه إلى التوقيع على اتفاقية حسن جوار بين البلدين، وكللت كل هذه الجهود في شتنبر من السنة نفسها بانعقاد قمة نواديبو، التي أوصت بالإسراع بتصفية الاستعمار عن الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا. لكن تسارع الأحداث أدى إلى العودة إلى نقطة الصفر. بعد عام، بدأ مسلسل الانقلابات في المغرب الذي حاول البعض في المغرب وخارجه اتهام بلادنا بالوقوف وراءه. ففي 10 يوليوز 1971 أجهض الملك انقلاب الصخيرات الذي قاده العقيد محمد عبابو. وقد بدا لي موقف الجنرال أوفقير آنذاك مثيرا للريبة، إذ سعى إلى محو آثار تورّطه في المؤامرة بإشرافه شخصيا على إعدام المتآمرين. ورغم سعي الملك بعد ذلك إلى الانفتاح على المعارضة ومحاولته المحتشمة لإصلاح عرشه بالتأسيس لملكية دستورية وقع انقلاب آخر قاده هذه المرة الجنرال أوفقير نفسه، الذي كان يعتبر ركيزة أساسية للعرش الملكي. كنا في الجزائر نعرف أن المعارضة وجزءا من النخبة العسكرية في المغرب معجبة بالتجربة الجزائرية في التصنيع والإصلاح الزراعي وديمقراطية التعليم، وأنها تسعى بكل الوسائل إلى الإطاحة بالعرش من أجل بناء مغرب موحّد. لكن الجزائر التزمت دوما مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها. أدركنا كلنا، وعلى رأسنا هواري بومدين، هشاشة العرش المغربي بعد الهزات العنيفة التي تعرض لها في أقل من عامين. لكننا لم نحاول بتاتا استغلال ذلك. صحيح أن بومدين كان يعتبر الملك الحسن الثاني عقبة في طريق الوحدة المغاربية، لكنه بعد قمتي إفران في 1969 وتلمسان في 1971 انتهج سياسة براغماتية مع الحسن الثاني مبنية على التعايش والاحترام المتبادل وامتنع عن دعم المعارضة المغربية التي كانت تتطلع إلى الجزائر لمساعدتها وتعتبرها النموذج والمثال. وبذل بومدين جهودا كبيرة لإنقاذ مشروع وحدة المغرب العربي وحاول إقناع الملك بضرورة تطبيق اتفاقية نواديبو الموقعة بين الجزائر والمغرب وموريتانيا، والتي تنص صراحة على تكثيف جهود البلدان الثلاث والتنسيق بين قادتها من أجل الإسراع بتصفية الاستعمار في المنطقة وفقا لقرارات الأممالمتحدة. لكن مشروع توحيد البلدان المغاربية اصطدم على الدوام بقضية الصحراء الغربية. وكان ملك المغرب يتهم الجزائر بأنها تقف وراء زعزعة عرشه من خلال دعمها سياسيا وعسكريا لجبهة البوليزاريو، بل أن الصحافة المغربية مافتئت تتهم الجزائر بأن لها أطماعا ترابية في الصحراء. واليوم أشهد أن هواري بومدين لم يكن يطرح القضية من هذه الزاوية لا في اجتماعات مجلس الثورة ولا في لقاءاته معي على انفراد. كنا في الحقيقة مع تصفية الاستعمار الذي عانينا ظلمه أكثر من غيرنا ونعرف ويلاته وشروره. وكنا أيضا مع مبدأ تقرير المصير الذي ثبتته الأممالمتحدة في ميثاقها بعد الحرب العالمية الثانية، وطالبت في العديد من قراراتها بتمسكها بتطبيق هذا المبدأ في الصحراء الغربية، كما طالبت إسبانيا بتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية. فنحن في الجزائر قبلنا باستفتاء حول تقرير مصير بلادنا، رغم التضحيات الجسام التي قدمناها طيلة سنوات الحرب. لكن المغرب وموريتانيا اللذين وقّعا على وثائق تعترف بضرورة تصفية الاستعمار في الصحراء، وحق الشعوب في تقرير مصيرها كان يعملان سرّا على اقتسام الإقليم الصحراوي. فقد وقّع الحسن الثاني ومختار ولد دادة اتفاقا سريا في أكتوبر 1974 يقتسمان بموجبه الصحراء الغربية، الشمال للمغرب والجنوب لموريتانيا. ثم اجتمعا بعد ذلك في الرباط لترسيم الحدود بينهما، وبعد ذلك وقّعا على حلف للدفاع المشترك. لقد أحسسنا في الجزائر أن هذا كله موجّه ضدنا. كانت حسابات كل بلد منهما واضحة. الحسن يسعى لعزل موريتانيا عن الجزائر وإيهام المجموعة الدولية بأن ملف الصحراء طوي إلى الأبد. أما ولد دادة فقد أراد بذلك وضع حد لأطماع المغرب في تراب بلاده عن طريق رسم حدود جديدة لبلده مع المغرب. اعتبر بومدين التحول المفاجئ لولد دادة طعنة في الظهر، بل وخيانة لالتزامات هذا الأخير مع الجزائر. كان ولد دادة لا يفوّت فرصة ليؤكد أنه صديق الجزائر، وكان يقيم تقريبا باستمرار في بلادنا. وقد ارتكب خطأ فادحا حين توهّم أنه سيتقي شر الملك بالانقلاب على بومدين. وقد سمعت بومدين في آخر اجتماع له معه في بشار، والذي حضرت جانبا منه مع أعضاء آخرين من مجلس الثورة ودام خمس ساعات، يقول له كلاما لم يسمعه منه من قبل. كما فقد بومدين هدوءه ورزانته في خطاب شهير، وهو يتحدث عن الرئيس الموريتاني. ومنذ ذلك الوقت، أعطى بومدين تعليمات لمساعدة المعارضة الموريتانية إلى أن أطيح بولد دادة في يوليوز 1978، وكان انحيازه إلى المغرب في قضية الصحراء الغربية وعجزه عن التحكم في الوضع الجديد سببين مباشرين في الإطاحة به. كان بومدين منشغلا يوميا بالعلاقة مع المغرب وقضية الصحراء الغربية. وكنت ألاحظ ذلك عليه في اجتماعات مجلس الثورة وأثناء زياراته المتكرّرة إلى الناحية العسكرية الثانية. وكانت القضية الأخيرة بالنسبة إليه مسألة شرف وتحد. وكان يردّد دوما أنه لن يسمح للملك بالاستيلاء على الصحراء على حساب الصحراويين. توتر الوضع بعد المسيرة التي نظمها الملك محتلا بذلك الإقليم الصحراوي. كانت هذه الخطوة هي نقطة اللارجوع. وطرح أمام الجزائر خياران. الخيار الأول عسكري، والثاني دبلوماسي. وكان الخيار الأخير يرتكز على التفاوض مع التمسك بالشرعية الدولية ومقرّرات الأممالمتحدة ومحكمة لاهاي الدولية. في أحد اجتماعات مجلس الثورة ناقشنا مطولا مشكل الصحراء الغربية من كل جوانبه، وكان هواري بومدين حريصا على معرفة رأي كل واحد منا. طرح بومدين مسألة جاهزية الجيش الجزائري في حال وقوع حرب، ولم يتدخل أيّ عضو من أعضاء مجلس الثورة. وحين طلب مني رأيي قلت له «إن الجيش يفتقد الإمكانيات، ويفتقد إلى التنظيم، وإننا موضوعيا غير جاهزين لتموين الوحدات بعيدا عن قواعدها في حالة حرب». كان بومدين هو وزير الدفاع، وهو المسؤول الأول عن القوات المسلحة. ولم يكن من حقي أن أكذب عليه في مثل هذه المسألة الحساسة. لكن ما سمعه في الاجتماع لم يعجبه، فقال في لحظة غضب «إذا ما عنديش رجال». وبعد أن كررت له أن الحقيقة هي هذه، ويجب أن نأخذها بعين الاعتبار، رد علي «ما نيش عليك يا الشاذلي، مانيش عليك..». ربما كان يقصد الأعضاء الآخرين، ثم التفت إلى عبد العزيز بوتفليقة قائلا له «حضّر إذن كتائبك يا سي عبد العزيز». وكان يقصد بذلك اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية. بعد خروجنا من الاجتماع، قال لي أحد أعضاء مجلس الثورة «لماذا تعارضه في الاجتماع، إنه سيتذكر ذلك، وسينتقم منك». ثم أضاف «لو كان رجلا لرمى برنوسه وذهب إلى بيته». استغربت ذلك منه، خصوصا وأنه كان يحتمي بهذا البرنوس. ثم أجبته «أنا عسكري مثله، وأقول كلامي بصراحة، وأنا مستعد للخروج إلى التقاعد، وأصبح مواطنا عاديا». وقد كرّرت هذا الكلام لبومدين في عدة مناسبات. لكن ثقته بي لم تتزعزع، وكان يفضل صراحتي على رياء المتملقين. بعد هذه الحادثة كلف هواري بومدين زرقيني وسليم سعدي بإجراء تفتيش عام لوحدات الجيش في الناحية الثانية، وتقديم تقرير مفصّل عن وضعية الوحدات من حيث التنظيم والتسليح والتموين والجاهزية للقتال. وبعد شهر، قدما له تقريرا أكدا فيه كلامي في مجلس الثورة، بل أن التقرير كان سلبيا وأكثر سوداوية مما قلته أنا. وبعد أن اطلع بومدين على محتواه طردهما غاضبا من مكتبه. وفي الأخير اقتنع بومدين بوجهة نظري. لكن كان بيننا مغامرون أقنعوا بومدين بإمكانية تدخل كتيبة من جنود الخدمة الوطنية من بشار، ووقعت مغالا الأولى المؤسفة، وأسر جنودنا. كنا باستمرار في حالة استنفار قصوى. ودخل البلدان في دوامة خطيرة أدت إلى تأزيم العلاقة أكثر بين المغرب والجزائر وكادت تؤدي إلى نشوب حرب لا تحمد عقباها. كانت مغامرة لم يحسب لها أيّ حساب على المستويين السياسي والعسكري. وقد أدت إلى خلق جو من الاستياء في أوساط الجيش، وكان بعض أعضاء مجلس الثورة يسعون سرّا إلى تحميل بومدين مسؤولية هذا العار، ويتهمونه بتلطيخ سمعة الجيش. لكن مغالا الثانية أنقذت الموقف وشعر بومدين أنه الآن في موقف قوة. كما أدت هذه الحادثة أيضا إلى تأزيم الوضع الداخلي بعد النداء الذي وقّعه فرحات عباس وبن يوسف بن خدة وحسين لحول والشيخ خير الدين في مارس 1976. فبالرغم من أن النداء يدعو الطرفين باسم الأخوة الإسلامية والتضامن الإنساني إلى وقف الحرب، ورغم بكائه على المعاملة السيئة للرعايا المغربيين المطرودين من الجزائر ومأساة سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب إلا أنه في واقع الأمر كان دعوة صريحة إلى الإطاحة ببومدين من خلال اتهامه بالحكم الفردي وعبادة الشخصية وإدانته للخيارات الكبرى البلاد. ومما زاد من خطورة النداء أنه نشر في وقت كانت البلاد تستعد فيه لمناقشة الميثاق الوطني وإجراء انتخابات رئاسية. شعر بومدين أن النداء موجّه ضده شخصيا. واتخذ قرارا بوضع فرحات عباس وبن خدة وخير الدين ولحول تحت الإقامة الجبرية في بيوتهم. ظلت العلاقات الجزائرية المغربية متوترة، إلا أن البلدين تجاوزا حالة الحرب رغم الحملات الإعلامية المتبادلة. لا غالب ولا مغلوب ديبلوماسيا. ولم يتم اللقاء الذي كان مرتقبا في بروكسيل بين الرئيس هواري بومدين والملك الحسن الثاني. وفي نهاية سبتمبر علمنا بمرض الرئيس بعد عودته من اجتماع جبهة الصمود والتصدي في دمشق. وفي 27 من الشهر نفسه، توفي رحمه الله. وظلت الوضعية متأزمة إلى أن التقيت الملك الحسن الثاني على الحدود في 26 فيفري 1983 وقرّرنا إعادة فتح الحدود بين البلدين التي ظلت مغلقة منذ 1975. كانت هذه هي الخطوة الأولى في ملفي العلاقة بين الجزائر والمغرب وقضية الصحراء الغربية اللذين ورثتهما عن المرحوم هواري بومدين، وسهرت على الإشراف عليهما طيلة 13 سنة بروح الاستمرارية في النهج والثبات في الموقف. كان هناك من راهن على احتمال تخلي الشاذلي بن جديد عن قضية الصحراء الغربية، ونفض يده منها من منطلق أن المشكل في جوهره هو خصومة شخصية بين هواري بومدين والملك الحسن الثاني. هؤلاء تناسوا أن موقف الجزائر هو موقف مبدئي ينطلق من حق الشعوب في تقرير مصيرها وحل بؤر التوتر والنزاعات في إطار الشرعية الدولية.