كشفت تسريبات حصلت عليها "الشروق" حصريا من مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، عن تفاصيل مثيرة جدا عن حياة الرجل الذي رحل قبل أسبوع إلى الدار الباقية، وتكشف عن أسرار على درجة من الخطورة والأهمية في الآن ذاته. ومنها الظروف التي تم تعيينه فيها رئيسا، وعن خلفيات تنحيه عن الحكم وحله للبرلمان وعلاقاته مع أجنحة السلطة. وأيضا عن حيثيات هامة وتفاصيل دقيقة عن أمهات الأحداث التي عاشها أو شارك في صناعتها منذ نضاله في حركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى جانب والده، إلى التحاقه بالثورة التحريرية، إلى ظروف وأسباب سجنه بالميلية وبالولاية التاريخية الثانية، وصولا إلى علاقته ببعض الرجال الذين عملوا معه ومنهم العربي بلخير وخالد نزار ومولود حمروش. الرئيس المرحوم الشاذلي الذي حكم البلاد بين العام 1979 وجانفي 1992، ولد في بلدة السبعة بولاية الطارف حاليا في 14 افريل 1929، درس في مدرسة "رحبة القمح" التي تخرّج منها فطاحلة الحركة الوطنية، وعدد لا يحصى من مجاهدي الساعة الأولى للثورة التحريرية المباركة . في المرحلة الأولى من شبابه التحق بمركز التكوين المهني في "وادي القبة" بولاية عنابة حاليا، وبعد تخرجه اشتغل مفتشا في شركة "طابا كوب " (TABACOP) المتخصصة في صناعة التبغ، قبل أن يلتحق بداية العام 1955 بالثورة التحريرية المباركة، ولم يسبق له العمل في الجيش الفرنسي لا داخل الجزائر ولا خارجها، ولم يشارك في حرب الهند الصينية كما روج له خطأ كل من المؤرخين المتخصصين في تاريخ الجزائر بن يامين ستورا ومحمد حربي، اللذين اعتذرا للرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، في رسالة رسمية عن نشر المعلومة الخطأ مع التزامهما الموثق بأنهما سيقومان بتصحيح الأمر في جميع الطبعات القادمة من كتبهما. الشاذلي يحضر لدخول جيش الحدود وقبل اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر التحريرية المباركة، كان المرحوم الشاذلي بن جديد، مناضلا في الحركة الوطنية وكان منخرطا في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، الوليدة الشرعية عن حزب الشعب الجزائري والتي حافظت على نفس برنامج الحزب بعد التضييق عليه من قبل الإدارة الاستعمارية، وكان والد الشاذلي بن جديد، مناضلا أيضا في الحركة التي تهدف إلى إلغاء النظام الاستعماري وإقامة نظام وسيادة وطنية وإجراء انتخابات عامة دون تمييز عرقي ولا ديني، وإقامة جمهورية جزائرية مستقلة ديمقراطية واجتماعية تتمتع بكامل الصلاحيات، مع ربط الجزائر ببعدها الطبيعي العربي والإسلامي والإفريقي. وبعد انخراطه القوي في الثورة التحريرية، تقلد الشاذلي بن جديد مسؤوليات بدأت من تعيينه كقائد فوج في العام 1955، ثم تم تعيينه نائب مسؤول الناحية العسكرية في العام 1956، ليرتقي سنة 1958 إلى مرتبة قائد ناحية عسكرية وهو المنصب الذي شغله إلى غاية 1959، وهو العام الذي عرف تعيينه قائدا لمنطقة عسكرية بمنطقة العمليات الشماليةzone nord opérationnel من طرف هيئة الأركان العامة للثورة بعد مجيء هواري بومدين. كان الشاذلي بن جديد أول ضابط من القاعدة الشرقية يدخل إلى التراب الوطني للقيام بتحضير دخول جيش الحدود، وتوجه الرجل من الحدود مباشرة إلى الولاية التاريخية الثانية لعقد لقاء مع صالح بوبنيدر. بعد عودة وفد الولاية التاريخية الثانية من مؤتمر طرابلس الذي عقد في سنة 1962، تم اعتقال الشاذلي بن جديد وسجنه في منطقة مشاط بالميلية في ولاية جيجل حاليا، ثم نقل إلى الميلية، وسجن بسبب خلافات بين قيادات الثورة، ونسبت إلى الشاذلي بن جديد تهمة التشويش وسمي وقتها بالمشوش بسبب موقفه من الصراع بين قيادة الولاية التاريخية الثانية وقيادة الأركان، واتهم الشاذلي بن جديد، بأنه هو من يقف وراء العريضة التي تدين الحكومة المؤقتة، فكانت التهمة كافية لإلقاء القبض عليه وسجنه بعد رجوع قيادة الولاية التاريخية الثانية من طرابلس، وتقرر سجنه في منطقة مشاط التي كانت مقرا لقيادة الولاية التاريخية الثانية، لينقل بعدها إلى الميلية، ليتم إطلاق سراحه من قبل قيادة الولاية الثانية بعد التوصل إلى التفاهم بين الطرفين. الشاذلي يجلي الجيش الفرنسي من الشمال القسنطيني بعد الاستقلال في جويلية 1962، عين العقيد هواري بومدين، الشاذلي بن جديد للإشراف على 6 فيالق للجيش الوطني الشعبي دخلت من مختلف مناطق الولاية التاريخية الثانية إلى مدينة جيجل، وبعد انفراج أزمة صائفة العام 1962، تم تعيين الشاذلي بن جديد قائدا للناحية العسكرية السادسة -حسب أول تقسيم للنواحي مباشرة بعيد الاستقلال- والتي تحولت بعدها إلى الناحية العسكرية الخامسة ومقرها قسنطينة حاليا، وهناك أشرف الرائد الشاذلي بن جديد مباشرة على إجلاء الجيش الفرنسي من مناطق الشمال القسنطيني. سنتان من الإشراف على الناحية العسكرية الخامسة وبعد الانتهاء من هيكلتها تم تعيين الرائد الشاذلي بن جديد في العام 1964، قائدا للناحية العسكرية الثانية في وهران، حيث شارك من هناك وبفعالية في انقلاب 19 جوان 1965، بالتنسيق مع العقيد هواري بومدين الذي كان وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس مجلس الحكومة. بن شريف يحاصر الشاذلي عند محاكمة شعباني بصفته قائدا للناحية العسكرية الثانية، تم تعيين الشاذلي بن جديد عضوا في هيئة المحكمة التي عينت لمحاكمة العقيد محمد شعباني، المجاهد الكبير وخليفة العقيد سي الحواس، على رأس الولاية التاريخية السادسة، ثم قائد الناحية العسكرية الرابعة بعد الاستقلال والذي كان أول عقيد في الجيش الجزائري بعد الاستقلال، يطالب بالقيادة الدورية لهيئة الأركان وبصفة جماعية كل ثلاث سنوات، على أن يكون أول قائد للأركان هو الضابط الأعلى والأقدم في الرتبة العسكرية، حتى تتمكن الجزائر حديثة عهد بالاستقلال من تجنب لعبة الانقلابات العسكرية التي كانت اللعبة الأكثر شعبية في القارة الإفريقية. وتسبب قرار العقيد محمد شعباني في ثورة غضب عارمة لدى العقيد هواري بومدين، باعترافه في الحوار الذي آجراه مع الصحفي لطفي الخولي، حيث استغرب فكرة القيادة الجماعية للجيش، وبدأ الصراع بصفة معلنة بين بومدين ومحمد شعباني في المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير الوطني في 16 افريل 1964، بعد تقديم العقيد شعباني لتقرير عنيف جدا يطالب فيه بالسعي وبسرعة إلى تطهير صفوف الثورة من الدخلاء -في إشارة صريحة إلى الضباط وضباط الصف الفارين من الجيش الفرنسي الذين لم يشاركوا في الثورة-، بعده تدخل مباشرة العقيد بومدين الذي أطلق عبارته التاريخية الشهيرة من هو الطاهر بن الطاهر الذي يريد تطهير الجيش. وحاول بومدين تبرير قراره بالقول أنه يفضل الاعتماد على ضباط جزائريين أفضل من لجوء الجزائر الفتية التي لا تتوفر على موارد مالية كبيرة إلى الاستعانة بالمتعاونين التقنيين والخبراء الأجانب. بعد مؤتمر الحزب وإحساسا بخطورة العبارات النارية التي تفوه بها أصغر عقيد في العالم -كما يوصف العقدي محمد شعباني-، سارع العقيد هواري بومدين الذي كان الحاكم الفعلي للجزائر من وراء بن بلة، إلى إعادة هيكلة النواحي العسكرية لتكون مبررا لإعادة تعيين قادة نواحي جدد وإبعاد آخرين ونقل مقر الناحية العسكرية الرابعة من بسكرة إلى ورقلة، وكان على رأس المبعدين العقيد شعباني، الذي كان المقصود من وراء كل العملية، وتم تعيين الرائد عمار ملاح قائدا للناحية الرابعة في 4 جوان 1964، وتم تعيين العقيد شعباني عضو المكتب السياسي للحزب وهو القرار الذي رفضه ليجد بومدين مبررا لتصفيته في محاكمة عاجلة وفي ظروف غامضة جدا، حيث تم تعيين محكمة عسكرية في وهران، وكانت هيئة المحكمة تتكون من عبد الرحمان بن سالم رئيسا، وعضوية السعيد عبيد والشاذلي بن جديد. خلال مراحل المحاكمة السريعة، اشرف قائد الدرك الوطني احمد بن شريف، على فرض حصار عسكري شامل ومحكم على قاعة المحكمة التي لم يكن عضوا فيها، ولم يتدخل في مراحل الحكم إلى غاية الحكم بالإعدام على العقيد شعباني، ليستلمه بعد المحاكمة وينقله إلى مكان إعدامه ودفنه في ظروف غامضة، ولم يخف بن شريف عدوانيته وكراهيته الشديدة للعقيد شعباني قبل وخلال المحاكمة التي انتهت بإعدام اصغر العقداء في تاريخ البلاد، دافعا ثمن مطالبته بتطهير وزارة الدفاع والجيش من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي. الشاذلي هو من أجهض انقلاب الزبيري اشرف قائد الناحية العسكرية الثانية الشاذلي بن جديد، على إجهاض المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد الطاهر الزبيري، على زميله في مجلس الثورة العقيد هواري بومدين، في العام 1967، وكانت مساهمة الشاذلي حاسمة، حيث أرسل قوات من الجيش لقمع تمرد الزبيري، الذي ارتكب خطأ تكتيكيا فادحا، وهو قيامه بتحريك قواته من مدينة الأصنام (الشلف حاليا) 200 كلم غرب العاصمة. وساهم الخلاف الحاد بين السعيد عبيد، بصفته قائد الناحية العسكرية الأولى والعقيد هواري بومدين، في تغليب كفة الشاذلي ضد الطاهر زبيري، حيث رفض السعيد عبيد التدخل في العملية والتزم الحياد ولم يشارك مع أي من الطرفين، وهو ما دفع ثمنه غاليا فيما بعد. بعد القضاء على تمرد الطاهر زبيري، واستتباب الأوضاع للعقيد هواري بومدين، قام الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية بإجلاء الجيش الفرنسي من قاعدة مرسى الكبير البحرية في وهران، وبعد انتهاء العملية بنجاح كبير تقررت ترقيته إلى رتبة عقيد، وهي الرتبة التي كانت قبل ذلك محصورة بعد الاستقلال في الرئيس هواري بومدين رئيس مجلس الثورة ووزير الدفاع، والعقيد محمد شعباني، وعبد الله بلهوشات، والعقيد شابو، والعقيد عبد الرحمان بن سالم، والعقيد سعيد عبيد والعقيد عباس، والعقيد الطاهر الزبيري، ثم الشاذلي بن جديد. بوتفليقة طالب باستحداث منصب نائب الرئيس سنة 1976 عندما اشتد المرض بالعقيد هواري بومدين، تم نقله إلى موسكو في رحلة علاج كانت الأخيرة، وخلالها قرر الراحل هواري بومدين، تعيين صديقه الحميم ومستودع أسراره، العقيد الشاذلي بن جديد، قائدا لجميع أسلاك الأمن الجزائرية من مخابرات وجيش ودرك وشرطة، من منطلق الثقة المطلقة التي يضعها العقيد هواري في بن جديد، وكان مدير المخابرات على عهد هواري بومدين، قاصدي مرباح هو من تلقى الأوامر مباشرة من الرئيس هواري بومدين. وعلى الرغم من المعارضة التي كان يبديها الشاذلي بن جديد، لبعض قرارات العقيد هواري بومدين في الجانب الاقتصادي، إلا أن الاختلاف على هذا المستوى لا يفسد للود قضية. ومن الملفات الرئيسية التي يختلف فيها الشاذلي مع بومدين، موضوع الثورة الزراعية التي يرى انه من الأجدر القيام بإصلاح زراعي شامل، فضلا عن الصناعة المصنعة التي ينفذها بلعيد عبد السلام، والتي يرى فيها أنها ستحول البلاد إلى مقبرة للخردة. خلال العام 1976 قام العقيد هواري بومدين، بمراجعة الميثاق الوطني، فاستغل وزير خارجيته حينها عبد العزيز بوتفليقة، باستحداث منصب نائب الرئيس، غير أن العقيد هواري بومدين لم يقتنع بالفكرة وقرر تجاوزها، رافضا تفصيل منصب على المقاس. قاصدي مرباح هو من عين الشاذلي رئيسا قبيل وفاة العقيد هواري بومدين، اندلع صراع غير معلن بين مجموعة من الطامحين لخلافته، بين كل من محمد الصالح يحياوي، وعبد الغني بن احمد وعبد السلام بلعيد وزير الصناعة والطاقة وعبد العزيز بوتفليقة الذي كان وزيرا للخارجية. وخلال الاجتماع الذي عقده كبار ضباط الجيش الوطني الشعبي بمقر المدرسة الوطنية المتعددة التقنيات ببرج البحري، التي كان يديرها العربي بلخير، تدخل قاصدي مرباح بحزم ليفض الخلاف نهائيا ويضح حدا لطموحات الجميع، بجملة واحدة قائلا، هناك مرشحين اثنين فقط لخلافة العقيد هواري بومدين، هما "الشاذلي" و"بن جديد"، ليصبح بعدها كل من "الشاذلي وبن جديد"، الرئيس الثالث للجزائر المستقلة. بعد تعيينه رئيسا للدولة وفي 8 مارس 1979 قام بتعيين حكومته الأولى التي أسند رئاستها لواحد من المتسابقين على خلافة هواري بومدين، وهو محمد عبد الغاني بن احمد، الذي ترأس الحكومة إلى غاية 22 جانفي 1984 ليخلفه في المنصب، عبد الحميد الإبراهيمي. لقد كان محمد عبد الغني بن احمد، من رفقة الشاذلي بن جديد وعبد الرحمان بن سالم وشابو، في منطقة العمليات الشمالية، وهو ما خلق معرفة قديمة جدا بين الرجلين. عبد الحميد الإبراهيمي حذر من العربي بلخير وبلعيد عبد السلام لم يخف الشاذلي بن جديد، امتعاضه الشديد من الطريقة المعتمدة في تصنيع البلاد من قبل العقيد هواري بومدين، وبلعيد عبد السلام، والتي كان يرى فيها أنها خردة وأنها ستنهار أمام أول هزة، وهو ما حدث بالفعل مع أول بوادر الأزمة الاقتصادية منتصف عقد الثمانينات، مما دفع به إلى تكليف عبد الحميد الإبراهيمي إلى قيادة الجيل الأول من الإصلاحات الاقتصادية في محاولة لإنقاد ما يمكن إنقاده، وبالفعل بدأ عبد الحميد الإبراهيمي في إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية والصناعية والوحدات التجارية، وتم تفريع العديد من الشركات العمومية الضخمة، إلا أن الأزمة كانت أسرع بداية من 1986 ووجدت البلاد نفسها أمام تهديد مباشر لغلق وتصفية أزيد من نصف شركاتها أو ضمان الحدود الدنيا لحياتها، على الرغم من استفادة القطاع الصناعي، الذي يُعتبر المحرك للتنمية، من 60 في المائة من مجموع الاستثمارات في الجزائر بين عامي 1967 و1978، ومع ذلك، فقد اختنقت معظم الشركات الصناعية الوطنية، وتعرّضت للشلل شبه التام مع مطلع عقد الثمانينات، فضلا عن ارتفاع الدين الخارجي إلى 40 مليار دولار بداية سنة 1980 وهو ما يعادل مرتين الناتج الداخلي الخام، وفي عام 1978 على سبيل المثال أنتجت الشركات الصناعية بنسبة 40٪ فقط من طاقتها. وقد ارتفع معدل الاستخدام إلى 80٪ بين عامي 1980 و1985 لتنخفض بعد ذلك بشكل كبير. فضلا عن اعتماد الشركات الوطنية بشكل مفرط على المساعدة التقنية الأجنبية، قبل 1980، إذ تم، بين 1973 و1978 توقيع 4912 عقدا لتقديم المساعدة التقنية (شركات استشارية وشركات الهندسة) في مجال الصناعة بمبلغ قدره 79.4 مليار دينار، أو 18 مليار دولار ويشكل هذا 90٪ من مجموع المساعدة التقنية الأجنبية في الجزائر، وعليه وبدلا من أن تكون الصناعة محركا للتنمية، فقد أصبحت عبءا على الجزائر مع الإهمال التام لقطاعات الزراعة والأشغال العمومية. وحرص الشاذلي على تسريع إعادة الهيكلة والذهاب إلى إصلاحات شاملة بسبب ثقل عبء الديون التي ورثها، حيث بلغت 19.4 مليار دولار في عام 1979، مما يمثل 100٪ من إجمالي الناتج المحلي الخام. وذلك بفضل تعزيز التدابير الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، وقد انخفض هذا الدين إلى 12.7 مليار دولار في عام 1984، أي بنسبة 25 في المائة من الناتج المحلي الخام، ليرتفع إلى 21 مليار دولار في عام 1989، بزيادة 37.6٪ من الناتج المحلي الخام، بما في ذلك الديون العسكرية. ويعتبر عبد الحميد الإبراهيمي من أكثر الشخصيات التي عملت مع الشاذلي بن جديد، معارضة لتعيين العربي بلخير في رئاسة الجمهورية، وكان يقول بصراحة للرئيس الشاذلي، إنك أخطأت في هذا القرار، ولكن الشاذلي ولاعتبارات مجهولة كان يصمت ولم يرد على تحذيرات رئيس حكومته عبد الحميد الإبراهيمي، الذي عرف فيما بعد انه مفجر أول قضية رشوة في تاريخ البلاد التي عرفت بقضية 26 مليار دولار. وكان عبد الحميد الإبراهيمي، أيضا من المعترضين على طريقة عمل وزير الصناعة والطاقة بلعيد عبد السلام، وخاصة في ملف تعامل بلعيد عبد السلام مع يهودي بلجيكي يدعى "سيمون" تربطه علاقات وطيدة مع "الكارتل" الفرنسي، وكشف الإبراهيمي أن عبد السلام، من المعارضين بقوة لمشروع مرور أنابيب الغاز الجزائري إلى أوروبا عبر الأراضي التونسية والمغربية، حيث يعتقد بلعيد عبد السلام أنهما "أعداء"، والأفضل أن يمر الغاز مباشرة إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. عندما حاول العربي بلخير إبعاد حمروش عبارة قالها الرئيس المرحوم الشاذلي بن جديد، بخصوص صديقه ورجل ثقته ورئيس حكومته مولود حمروش الذي كان "قاب قوسين أو أدنى" من رئاسة الجمهورية خليفة للشاذلي بن جديد. لم يخف الشاذلي يوما أن علاقته بالإصلاحي مولود حمروش، كانت قوية جدا، بل ورائعة في الكثير من المراحل، حتى انه أوكل إلى الرجل أكبر مهمة وهي مهمة تكوين فريق لقيادة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وكان الرجل من وراء كل ذلك يعمل بقوة على تحضير الرجل لمواجهة الملف الأصعب والمهمة الأثقل وهي قيادة البلاد من بعده. الرئيس الشاذلي بن جديد، في مقابل كل ذلك تلقى ضربات موجعة جدا من اقرب مقربيه بسبب علاقته الجيدة مع مولود حمروش الذي بدأت دوائر قريبة جدا، بل ومن محيط الرئيس الشاذلي بن جديد ترى فيه الخطر الداهم، وترى فيه نهايتها الحتمية في حال تمكن يوما من الوصول إلى قيادة البلاد، وكان من اكبر الرافضين لتقريب حمروش من الشاذلي، الرجل القوي في الدولة وقتها الجنرال العربي بلخير الذي عمل بكل هوادة لإبعاد حمروش أو إجهاض خطة الشاذلي على الأقل وبكل ثمن منذ أن تم الشروع في تحضير دستور التعددية الصادر في فيفري 1989، وبعد الشروع في تطبيقه في الميدان وتعيين مولود حمروش رئيسا لحكومة الإصلاحات. الشاذلي نزار.. وأحداث أكتوبر تخفي أحداث أكتوبر نقاط ظل كثيرة ومنها محاولة التيار التغريبي في الجزائر ثني الرئيس الشاذلي عن المضي في سعيه للتقارب المغاربي العربي، حيث كان نزار مثلا يرفض قيام اتحاد المغرب العربي الذي بدأت ملامحه من خلال التقارب الجزائري الليبي، وهو ما كان يعتبره أدعياء التيار التغريبي في الجزائر بمثابة التهديد المباشر للنفوذ الفرنسي في الجزائر. وسمح القرار التاريخي الذي أصدره الرئيس الشاذلي بن جديد منتصف عقد الثمانينات بترقية بعض الضباط إلى مراتب ألوية، باستفادة العديد من الضباط الذين كانوا يوصفون بأنهم فارون من الجيش الفرنسي قبيل نهاية الثورة التحريرية من ترقيات تاريخية انتظروها لعقود بعد نجاحهم في الاستمرار في صفوف الجيش الوطني الشعبي قبل وفاة العقيد هواري بومدين رغم الانتقادات التي طالت قرارات بومدين والتي تسببت في التضحية بالعقيد شعباني الذي يعتبر أول من طالب بطردهم من الجيش بعد الاستقلال. وتنقل التسريبات أن الرجل مقتنع تمام القناعة أن من اكبر الأخطاء التي ارتكبها في مسيرته كرئيس للدولة هو تخليه عن منصب وزير الدفاع وتعيينه لخالد نزار وزيرا للدفاع مما سمح له بفرض نظرته التي كانت في الغالب مغايرة لما يراه الشاذلي بن جديد، كما سمح القرار بالفصل في الكثير من الملفات لصالحه. وينسب لكل من العربي بلخير وخالد نزار بالتخطيط للأحداث، ومن ثم تقديم اقتراحات للرئيس الشاذلي بن جديد، جملة من التغيرات العميقة في المناصب العليا للدولة وحزب جبهة التحرير الوطني وفي التوجهات السياسة الداخلية والخارجية في الجزائر في المجالات السياسية والاقتصادية بعد 1992 منذ توقيف المسار الانتخابي، والبقية يعرفها الجميع. ومن الضحايا المباشرين لأحداث أكتوبر، الرجل القوي في النظام وقتها، محمد الشريف مساعدية، الذي قاد جهاز الحزب، والجنرال قائد جهاز المخابرات لكحل عياط الذي تم تعويضه بالجنرال محمد بتشين، الذي عصفت به هو الآخر الأحداث المتسارعة بعد أكتوبر 1988. هل أسس العربي بلخير الفيس والأرسيدي؟ من الضربات الموجعة التي تلقاها الشاذلي بن جديد من محيطه القريب جدا بقيادة العربي بلخير، هو الظروف الغامضة جدا في تأسيس واعتماد اثنين من الأحزاب الجزائرية الأكثر جدلا في تاريخ البلاد بعد التعددية الحزبية التي أقرها دستور فيفري 1989، وهما "التجمع من اجل الثقافة والديمقراطية" بزعامة السعيد سعدي، و"جبهة الانقاد الإسلامية" بزعامة عباسي مدني. لقد مُنحا الاعتماد من وزير الداخلية أبو بكر بلقايد في ظروف غامضة، والشاذلي بن جديد في زيارة دولة إلى السينغال ولم يعلم بالأمر إلا بعد عودته من هذه الزيارة وبدا الأمر كأنه فرض للأمر الواقع من طرف جهات ساهمت في تأسيس هذين الحزبين ويتعلق الأمر بالمرحوم العربي بلخير. الشاذلي ..أنا من حل البرلمان! لما بات الرئيس الشاذلي بن جديد على يقين بضرورة رحيله من الحكم في محاولة لحفظ دماء الجزائريين، قرر استباق ذلك بقرار لا يقل أهمية وهو توقيع مرسوم رئاسي يتم بموجبه حل المجلس الشعبي الوطني الذي كان يرأسه عبد العزيز بلخادم. وصدر قرار الرئيس الشاذلي بن جديد بحل آخر برلمان يسيطر عليه حزب جبهة التحرير الوطني، يوم 4 جانفي 1992، وعلل الرئيس الشاذلي بن جديد، بالقول أنه لم يكن يريد تقديم السلطة لرئيس المجلس الشعبي الوطني، عبد العزيز بلخادم، لأن قيادة الجيش لم تكن تثق في الرجل. استقلت ولا يملك أحد إقالتي! كان الرئيس الشاذلي بن جديد ديمقراطيا حتى النخاع، وعليه قبل اللعبة الديمقراطية بكل تفاصيلها وأقر أول دستور تعددي في تاريخ الجزائر المستقلة، وسمح لكل التيارات المتواجدة في الساحة السياسية بالممارسة بشكل علني ومنها التيار الشيوعي والليبرالي والتيار الإسلامي، وأرفق ذلك بإطلاق حريات سياسية وإعلامية واقتصادية غير مسبوقة، أزعجت خصومه في الحكم داخل البلاد وخاصة الإدراة وفي هرم السلطة وأحرجت النافدين في الحزب الذين أحسوا بفقدان سطوتهم على الحزب والدولة والمجتمع وفقدوا الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، كما سبب الشاذلي حرجا كبير لقيادة دول عربية قمعية متسلطة، وجاءت الضربات من كل مكان، ومع ذلك قرر الشاذلي الذهاب إلى أقصى نقطة في مسعاه، قبل أن يتلقى الضربة القاضية من الإسلاميين الذين انخرطوا في لعبة أكبر منهم، مما دفع بالرئيس الشاذلي إلى تقديم استقالته في جانفي 1992 بعد توقيف المسار الانتخابي، وقال حرفيا "عندما وقع الاختيار بين الكرسي والضمير .. اخترت الضمير". الشاذلي.. أذاب الجليد مع أمراء الخليج بوصوله إلى الحكم في سنة 1979، وقف الرئيس الجديد على حالة من العلاقة الغريبة بين الجزائر ومنظومة الاتحاد السوفيتي، خلفها العقيد هواري بومدين، فحاول العمل على فك هذا الارتباط بين الجزائر والاتحاد السوفيتي، وبدأ في تعيين دبلوماسيين شباب في محيطه مع التركيز على تكليفهم بالتأسيس لعلاقات دبلوماسية واقتصادية جديدة مع البلدان الغربية ومنها دول أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدةالأمريكية، وساعده في ذلك جرعة الأوكسجين القوية جدا التي استفادت منها علاقات الجزائر مع الولاياتالمتحدة بعد التدخل الموفق للدبلوماسية الجزائرية في تحرير الرهائن الأمريكان في العاصمة طهران. وبدأ الرئيس الشاذلي مهمة إصلاح العلاقات مع الغرب، بزيارة إلى مملكة بلجيكا وبعدها تنوعت زياراته إلى الغرب، كما تنوعت خرجاته الإعلامية على صفحات كبريات الجرائد الغربيةوالأمريكية على وجه الخصوص، محاولا إبراز توجه جزائري جديد مع انفتاح اقتصادي واجتماعي بارز رافقه تحسن نسبي في ملف الحريات، حيث أصدر قرارا بإلغاء القيود التي كانت مفروضة على سفر المواطنين الجزائريين إلى الخارج، واصدر قرارا برفع منحة السياحة التي تمنح للرعايا الجزائريين عند سفرهم إلى الخارج. وبالموازاة مع العمل على تحسين العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الغرب، بدأ الرئيس الشاذلي في تعزيز وإصلاح ما فسد من علاقات الجزائر مع عمقها العربي، وخاصة مع بعض دول الجوار المغاربي، ودول الخليج العربي التي كانت علاقاتها مع الجزائر خلال حكم الراحل العقيد هواري بومدين شبه متوترة، فحكام بعض الدول الخليجية كانوا لا يتوانون في وصف الرئيس هوراي بومدين بالرجل المتكبر. وفي ظل الروح الجديدة التي أعطاها الرئيس الشاذلي بن جديد، لعلاقات الجزائر العربية، سارع الملك السعودي فهد بن عبد العزيز، إلى العمل بقوة لتقريب وجهات النظر بين الجزائر والمملكة المغربية، وحاول تذليل جميع العقبات لحل القضية الصحراوية، وخاصة وأن الشاذلي كان مستعدا للاستماع لجميع وجهات النظر ومن الجميع، مع تمسكه القوي بمواقف الجزائر الثابتة من قضايا الاستعمار وحق الشعوب في الاستقلال.