مشكلة «الإخوان المسلمين» في مصر، و «حركة النهضة» في تونس، هي عينُها مشكلةُ سائر القوى، التي تنتمي إلى ما بات يُعرف باسم «الإسلام السياسي»؛ وهي، في المقام الأوّل، مشكلةٌ فكرية قبل أن تكون سياسية، أو قُلْ إن جوهرها الفكري هو ما أنتجَ أعراضَها السياسية. والمشكلة هذه تتلخص في أن هذه الحركات السياسية لم تَبْنِ مشروعها الحَرَكي والسياسي، منذ ما يزيد على ثمانين عاماً من نشأتها، على اللحْظات الاجتهادية في الفكر الإسلامي الحديث (= اللحْظات التي تفاعلت مع العصر، ومع التيارات الفكرية الكبرى فيه، وحاولت توطين الكثير من قِيَمها وأفكارها الكبرى في منظومة الفكر الإسلامي)، وإنما هي أقامَتْه على تجاهُل مكتسبات ذلك الفكر تجاهلاً تامّاً، مع ترقيعٍ هنا، وتجميلٍ هناك، ما أصاب الأساساتِ من فكرها بقدر ما مَسَّ القشور، ولَمَّع السطوح والواجهات! لِنتْرك، جانباً، أن طريقتها في ولوج عالم السياسة والعمل السياسي – وهي تَوَسُّلُ الرأسمالَ الديني واستثمارُهُ في الصراعات السياسية – جرَّ عليها وعلى مجتمعاتها مشكلات لا حصر لها، ولْنرْصُد الموقعَ الذي اختارتهُ لنفسها في ساحة الإسلام المعاصر – منذ نهاية العشرينات – وأقامت صرْحَ مشروعها السياسي عليه، لأنه الموقع الذي يُطْلِعُنا على نوع الفكر الذي تغذّى منه مشروعُها، ومن مقدماته انطلق. لم يبدأ مؤسّسُ «الإخوان المسلمين»، الشيخ حسن البنَّا، مشروعَه السياسي من حيث انتهتِ الإصلاحيةُ الإسلامية، للقرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، أي انطلاقاً من رصيد مكتسبات الاجتهاد الإسلامي الحديث والمعاصر، وإنما بدأه من نقطةٍ تقع فكريّاً في لحظة ما قبل رفاعة رافع الطهطاوي، بل وأستاذه حسن العطّار في بداية القرن التاسع عشر! من يقرأ رسائل البنّا وكتاباتِهِ لا يعثر فيها على أثرٍ حقيقي لأفكار الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وأحمد بن أبي الضياف، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وقاسم أمين...، في مسائل الاجتهاد الفقهي، والإصلاح الديني، والتربوي، والاجتماعي، وحقوق المرأة، وفقه الدولة الوطنية الحديثة...الخ. أكثر ما يعثر عليه في تلك الرسائل بصمات محمد رشيد رضا في كتاباته المتأخرة (في أوائل العشرينات) التي انقلب فيها على فكر الإصلاحية الإسلامية، وعلى منظومة الدولة الوطنية الحديثة في ذلك الفكر، فعاد إلى فقه السياسة الشرعية و «نظرية» الخلافة (وهي عينُها الفترة التي تَصَالَحَ فيها رشيد رضا مع الوهابية والسلفية)! لقد جبَّت فكرةُ «الدولة الإسلامية»، عند حسن البنّا، فكرة الدولة الوطنية عند الإصلاحيين الإسلاميين، وعادت بالفكر السياسي الإسلامي، ومكتسباته الاجتهادية الحديثة، إلى نفق فقه السياسة التقليدي، وإلى مفاهيم السلف، والأصالة، والهوية. ومقابل سؤال النهضويين الإصلاحيين الإسلاميين: كيف نتقدَّم، وكيف نأخذ بأسباب المدنية الحديثة، دار فكر البنّا والإحيائية الإسلامية على سؤالٍ نقيض هو: كيف نحمي هويتَنا من تيارات العصر؟ وهو سؤالٌ انكفائي بامتياز، ومهجوس بفكرة الكفاية الذاتية للمسلمين، وغَنَائهم عن منظومات غيرهم في الفكر والسياسة والاجتماع! ولقد شكلت الإحيائية الإسلامية، بهذا المعنى، قطيعة جذرية مع الإصلاحية الإسلامية وتراثها الاجتهادي. وهي قطيعة نلحظها في خطابات الإسلاميين الخالية، تماماً، من أفكار – بل أسماء – الطهطاوي، والأفغاني، وعبده، والكواكبي، والمرصفي، وأفكار – وأسماء – جيل الإصلاحية المتأخر: عبد الحميد بن باديس، مصطفى عبد الرَّازق، الطاهر بن عاشور، محمود شلتوت، علاّل الفاسي، محمد مهدي شمس الدين...، والمتواصلة – أي الخطابات – مع «الإسلام الهندي» في صيغته التي عبّر عنها أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن النَّدْوي. من النافل القول إن حسن البنّا ليس سيّد قطب، أو محمد قطب، أو شكري مصطفى، أو عبد السلام فرج وعبّود الزمر وعمر عبد الرحمن وأيمن الظواهري؛ فهو لم يَقُل مثلهم ب «الحاكمية»، المستعارة من المودودي، لكنه مهَّد لهؤلاء جميعاً طريقهم بمماهاته بين السياسة والدين، المصحف والسيف، وبفكره الكلاَّني (= الشمولي) الذي دفعه إلى رفض الحزبية، والتعددية الحزبية، وحسبانها فُرْقَةً وشقاقاً، واعتباره إسلام «الجماعة» (=جماعة «الإخوان») الإسلام الصحيح، والإسلام المرجع... حتى أن أتباعه اختلقوا لهم شعار أسلمةَ المجتمع؛ وهو شعارٌ يتراوح الإفصاح عن تكفيريته بين التكفير المباشر – كما عند القطبيين – والتكفير غير المباشر: كما عند سائر مَن أخذوا عن البنّا أفكارهم في السياسة والاجتماع! "الحياة" اللندنية