رغم وجود مسحة من الجمالية اللافتة في رواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي( الأسود يليق بك ِ- منشورات نوفل، بيروت، ط1/ 2012، في 330 صفحة ونيّف من القطع الوسط والعريض)، وأظنُّها برعت في هذا المضمار، منذ روايتها الأولى( ذاكرة الجسد،1993)، إلا أن الممكن قوله لحظة الانتهاء من قراءة روايتها الصادرة حديثاً، هو أنها تستمرىء الكتابة ذات الصفة الإنشائية غالباً، مقلّلة من أهمية الحدث، ربما شعوراً منها أن التخفيف من حدّة الحدث ليس أكثر من اكتساب للمَعْلَم الجنساني الأنثوي وخروج يُحتفى به على سلطة الرجل باعتباره مجسّده، وهي مراهنة على الصياغة الشعرية، وحتى الإطناب في وصف الجسد وما يكسوه ويستبطنه رمزياً، ومن ثم ما يصدر عنه من إشارات، وكذلك ما يدخل في نطاق العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة، كما هو موضوع الحب ، أي إلى درجة الشعور بأن مستغانمي تنشغل بسرديات الوصف على حساب نمو الشخصية وتأصيلها في المكان والزمان، حيث إن الملاحظ في هذه الرواية هو استعادتها لذات الطريقة التي اعتمدتها في أعمالها السابقة( ذاكرة الجسد- فوضى الحواس، 1997-عابر سرير،2003)، باعتبارها ثالوثاً روائياً، فيُتلمَّس ما يسمى في علم النفس′ بالمنعكس الدائري'، أي ذلك الاستهواء بأسلوب محدد في الكتابة أو في تناول الموضوع، أو التعرض للفكرة حيث يبرز المعمار الروائي.. إنها رواية عواصمية أولاً، بما أنها ترسم حدود تنقلاتها بين كل من بيروت وباريس والبرازيل وفيينا والشام وحلب وغيرها، ولا ضير في ذلك، لكن المهم هو مدى توظيف هذه الفسَح الجغرافية في تشكيل النص الروائي، وكذلك فهي رواية العشاق الذين لا يأبهون بطبيعة مغامراتهم العشقية، من جهة النمذجة، وما يمكن للحدث أن يمثّله من قيمة فنية تضفي على النص ذلك البعد الفانتازي والأدبي الجدير بالمتابعة والتروي في المقاربة النقدية لها ثانياً. في هذا السياق، وبحسب تقديري، وكما تابعتها كغيري، وبنوع من التذوق البحثي والفنّي الخاص، في أعمالها السالفة، يمكن للذين يكونون مرضى العشق الفاشلين تماماً، ومن يعاني من شح في ملَكَة الخيال، وضمور في الشعور، بعيداً عن إشكاليات العلاقة الحبّية، أن يقتبسوا صفحات وصفحات من هذه الرواية، مستسلمين لكسل متأصل في نفوسهم، ثم ليكون المقبوس هنا وهناك بمثابة الطُّعم للإيقاع باللواتي لا يتورعن عن الاستجابة، أو بالعكس.. ومن جهة ثالثة، حين نكون إزاء كذبة فنية كبرى، وأشدّد على هذه العبارة، تلك التي يمتزج فيها الحب العنيف، أو تبرز دراما القلوب المدنفة بالحب، وفي أمداء جغرافيات ومدن، وتحت الأضواء، حيث البطر ملحوظ، بجوار أجساد معنَّاة لا تكشف عن حقيقتها إلا تالياً، مع موضوعات أو مشاهد عن الثورة والعنف والإرهاب الأصولي ‘ الإسلامي' في الجزائر، وذلك في مطلع هذا القرن، إبّان اجتياح الأمريكان للعراق، وأخبار عن الاغتيالات، والمطاردات بين المدن، حيث المدينة ‘ قسنطينة' هي الدائرة الساخنة'، لجعل الموضوع الروائي جديراً بتنسيبه إلى دائرة الأدب الأكثر قابلية للتداول، ومن ثم لاعتماده في عالمنا اليوم، أي كنتاج قريحة معذَّبة في العالم العربي، قابضة على جمر الوطن، وهي خارج حدوده.. إنه تجلّي مفهوم الأسود يليق بك ِ'، حيث الأسود منطلق الألوان كافة، ولعله يتعذب جرَّاء ذلك في مغامرة الرجل الذكوري، والسعي إلى تعرية هذه الذكورة بلسان ساردة أنثوية، منحت لهذا الذكر الكثير من المساحة الروائية، بقدر ما كانت غواية الكتابة تتم من خلاله، لنتفاجأ كيف تحرَّرت منه الشخصية المحورية في الرواية' هالة وافي'، وقد قاربت بين هم الجزائري وهم العراقي، في عالم المنفى : ألمانيا، موحية إلى مدى قدرة الروائية على التنقل السريع من جهة إلى أخرى، وكيفية مكاشفة خدع الذكورة في رجل متباه ٍ بنفسه، استسلمت له طويلاً، ثم وضعت حداً لسطوته تالياً.. هنا على القارئ أن يصدّق هذه اللعبة، أي حالة تزييف النص الروائي، بافتعال مشاهد شبقية أو استهوائية هنا وهناك.. ما لأجله كانت الرواية تدخل بنا الرواية ذات العالم المألوف من جهة الروائية: الحديث عن الثورة الجزائرية ورجالاتها وكيف انقلبت الأوضاع، ومن ثم ظهور الإسلاميين المتشددين، وملاحقة كل من يحاول الخروج عن جادة' صوابهم' ودور السلطة في ذلك، حيث الأحداث المعتبرة تشمل مساحات واسعة من العالم، كما أسلفت، ويكون السعي وراء خاصية هذه الأحداث أو نوعية الحدث الجدير بالتبني فنياً في الرواية، لتكون الصدمة تلو الصدمة إزاء حالة الإرجاء للمرتقب، لأن ثمة تمييعاً للحدث. ثمة الرجل البرازيلي الشامي أصلاً، والذي يلم بأشياء كثيرة جداً، الرجل الذي صار ثرياً جداً، كما هو وضعه في التنقل بين عواصم العالم وهو في ثرائه الفاحش، وبحثه عن المتعة، بأساليب هيتشكوكية، في مغامرات تكاد تشمل جل الرواية، حيث إن هالة الوافي التي تضع له حداً أو تكتشف زيفه من الداخل' بدءاً من الصفحة 284، وهما في فيينا'، كما لو أنها في الصفحات السالفة كانت تختبره، ولم تكن منخرطة في لعبته، أو تتلذذ هي ذاتها مع مغامراته وتستجيب إيقاع نشوته، ومن ثم لتلتفت إلى الأقرب إليها' جزائريها: عزالدين، وتستعد لما كان مطلوباً منها، أي الغناء من أجل العراق تعبيراً عن مدى إخلاصها للجزائر: الثورة في تكوينها، ومحاولة نسيان الآخر، كأني بها تقول: الخير في معايشة المنتمي إلى الوطن. البداية تشير إلى النهاية، عبر الإشارة إلى مغامرها الأفّأق( كبيانو أنيق مغلق على موسيقاه، منغلق هو على سرّه.ص12)، وهو وصف يستعاد ويعنيها لاحقاً أيضاً( اجتاحها الأسى. كبيانو مركون ومغلق على موسيقى لن يعزفها أحد.. ص 132)، حيث التداخل يُري فوضى الاستعارة ووضوح ذلك التمثيل البلاغي في القول، وبينما تفصح لنا قراءة الرواية أن الوضع لا يرتبط بانغلاق السر إنما إشهاره، حيث كشِف سره تالياً، ويعني ذلك أن البداية تنطوي على ضرب ملحوظ من المفارقة، أي خيانة ذاكرة الساردة، أو المناورة على القارئ للذهاب معها إلى الأخير. تستعيد بعضاً مما هو متبَّل في ‘ مطبخها' الإنشائي توصيفاً في ذات الصفحة( كما يأكل القط صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحب عشاقه. يلتهمهم وهم جالسون إلى مائدته العامرة. فما أولمَ لهم إلا ليفترسهم..)، إنها قائمة مشاهد متتابعة وصَّافة لا تتناغم معاً في ذات الحيّز، جهة الربط بين القط والثورة ودلالة الاستعارة، والحب الذي استحال آكلاً عشاقه، وفي الوقت الذي يأتي هذا المشهد المنفلت من عقاله الفني ترجمة أحوال شخص عرّف به آنفاً مراراً. تعيش هالة صراعاُ بين نصفيها الجنسيين: الذكري والأنثوي' ربما تذكّرنا هنا بالخاصية اليونغية' أنيما الأنثى، وأنيموس الذكر سيكولوجياً'( راح نصفها الشرس يحاكم نصفها الوديع، ورجولتها تحاسب أنوثتها المطيعة. ألم يقل لها أحدهم متغزلاً' أجمل ما في امرأة شديدة الأنوثة.. هو نفحة من الذكورة'؟ مصيبتها كونها اكتسبت أخلاقاً رجالية، وكثيراً ما قست على نفسها كما لو كانت أحداً غيرها. والآن ما عادت تعرف كيف تعود من جديد أنثى، ولا كيف تستعد لهذه المداهمة العاطفية..ص135)، إن ما يشبه ذلك نقرأه في ‘ ص166-219-280′، ولكن لعبتها، أي مغامرتها مع الآخر أفصحت عن وهم الفكرة هذه، أي ما يشبه السيلان العاطفي: أولاً لأن البعد الذكري مقيم في النفس الأنثوية، وبالعكس، أما العلاقة بينهما جهة التفعيل فترتكز إلى البيئة والثقافة، وثانياً، لا تبرز الرواية هذا الجانب أدبياً، حيث الحديث عن الوداعة مفهوم ذكوري قبل كل شيء، مثلما أن الرجالية رد فعل أنثوي، وهو رد لا وجود له في مجمل صفحات الرواية.. لكأن الثورة المسماة اصطياد ذكورة لما هو أنثوي، وأن العصف بالمجتمع إجراء ذكوري موجه إلى المجتمع المؤنث، وأن هذا المضي قدماً وراء الآخر سعيٌ ماراتوني إلى تعريته عبر مغامرات أسلس لها القياد متخيل ساردها العاطفي جداً. كأن الاسم واللقب: هالة الوافي، معدَّان باتقان، حيث هالة تبرز سحرها والوافي اكتمال نصاب السحر بمنطق الذكورة! ما الذي يقال في وصف عارم باذخ كهذا، يخص القبلة؟( ترك شفتيه تلتهمان ما تمناه طويلاً. قبلة بمذاق التوت البرّي. كان محمولاً بأحاسيس وحشية بعد أشهر من الاشتهاء. راح في قبلة واحدة يشعل حطب الانتظار كله. انقضت سنة كاملة، بُعداً وصدّاً ومداً وجزراً، لبلوغ حريق كهذا. آن قطاف هذه الزهرة النارية.ص141). تُرى لمن هذا الوصف، ومثيله المتكرر لاحقاً' ص170-181-218-277..'؟ ماذا وراء هذا الإلحاح في التكرار، حيث الحريق ورائحة الحريق، كما لو أن السارد يحيل القارئ إلى ذات الروائية وليس إلى الداخل؟ ماذا وراء هذا الشرح وشرح الشرح، حيث يضحَّى بالخيال ذاته، أو بفنية الرواية بالذات، كما لو أن ثمة وليمة شهوية لذات القارئ نفسه؟ هذا ينطبق على ما هو خطابي أو إنشائي يتحدد منطقه في اللامنطق نفسياً، والحريق ورائحة الحريق يعمّان المشهد الوصفي ( الحب هو ذكاء المسافة. ألا تقترب كثيراً فتُلغي اللهفة، ولا تبتعد طويلاً فتُنسى. ألا تضع حطبك دفعة واحدة في موقد من تحب. أن تبقيه مشتعلاً بتحريكك الحطب ليس أكثر، دون أن يلمح الآخر يدك المحركة لمشاعره ومسار قدره .. أوه.. كم يتقن لعبة النار بين الحطب، وإنقاذ الشعلة في اللحظة الأخيرة قبل أن ينطفئ الجمر بقليل..ص45). لمن يتوجه هذا السرد كخطاب جنساني لا يخفي هذره الكلامي، من المتكلم، أي موصوف يؤخَذ به هنا بدقة؟ ربما يكون في وسع المهووسين بأوصاف شبقية عابرة لكنها مؤثرة ضمن حدود، أن يستشهدوا بعبارات كهذه، هي وقائمة مقاطع أخرى اشتهرت بها الروائية لثبت أنها تستجيب لرغبة الذكر المتنامي داخلها' ص134-177-210-307..الخ'. في نقطة أخرى، لا تتردد الروائية على لسان السارد الروائي أن تماهي بين ‘ بطلتها' والشعوب العربية( إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتى وهي تطمح للتحرر، تحن لجلادها. مثلها، تتآمر على نفسها، تخلق أصنامها، تقبل يد خانقها، تغفر لقاتلها. تواصل تلميع التماثيل بعد سقوطها، تغسلها بالدموع من دم جرائمها..ص308). ورغم ذلك لا تخفي أنها تمكنت من الانتقام منه والتشهير فيه، وهي تشير سابقاً إلى حذرها مما يحاك ضدها من الآخر وبنوع من الخيلاء( كانت امرأة منهكة، أكسبتها الفجائع حكمة الضحية.ص195)، ولترد الصاعين صاعين، كما لو أنها لم تقع يوماً ولأكثر من مرة في مصيدة من تلذَّذ بها جسدياً( عزلاء انتصرت، بتلك الهشاشة التي صنعت أسطورة شجاعتها. لقد أكسبها الظلم حصانة الإيمان. مذ أدركت أن طغاة الحب كطغاة الشعوب، جبابرة على النساء وصغاراً أمام من يفوقهم جبروتاً. ص 327)، ولتكون أكثر بروزاً( واليوم هي تغنّي للناس جميعاً عداه..ص328). شروح لشروح في ذات المقطع، لا تصمد وصفتها أمام النقد فهي ذاتها عرّت مغامرها، وبرزت متحررة. وكما أشرنا سابقاً، فإن افتعالاً لما هو شعبوي وقومجي وثورجي في الرواية، حيث السارد الروائي: الأنثوي، يربط بين مدى انتماء هالة إلى عالم الثورة والجزائر الوطن، وكيفية النيل من عائلتها، واضطهادها، وإشارتها إلى أمها، مثلاً( أمها، التي وجدت في هم العراق ما ينسيها همها، صارت تقضي جل وقتها أمام الفضائيات الإخبارية لمتابعة مسلسل الغزو الأميركي.. وسقوط بغداد..ص 230).. هالة المتنقلة بين البلدان يبدو عليها أنها مثقلة تحت وطأة المهام التي كلَّفتها بها الروائية وهي تتنقل بدورها بين البلدان، وهي تصر على أن الذي تنقله إلى عالم الورق يخص عالم انتمائها، وهي تسعى جاهدة إلى إقناع قارئها أن ما حدث على الورق بين شخصيات ورقية' مختلقة طبعاً' معاش أو قابل لذلك، دون أي تردد في حبكة اللعبة أو مصداقيتها، بين هذا الأبعد من كونه مليونيراً، وهذه التي عاشت أكثر من متعة جنسية، تعبيراً عن تحرر جنساني، وهي لا تتوقف عن الاستجابة لنداء مغامراته وشهواته، وفي لحظة فلتة يتغير الإيقاع في الحركة الرابعة من الرواية' هي أربع حركات، كما لو أننا إزاء مفهوم فصليٍّ: أربعة فصول، ربما' تذكيراً بسمفونية: الفصول الأربعة، لفيفالدي'، وتنتصر الأنثى في داخلها دونما نظر إلى الوراء وفاجعة ما كان أو حصل لها، أعني يندحر الذكر المأخوذة بذكورته، وتسترجع المغنية المطرودة من بلدها أو الملاحقَة بمكانتها، لافتة أنظار الآخرين إليها، حيث التخلص من الأسود المستبد.. ربما فيما انطلقت منه الروائية وتوقفت عنده، استعادة خرافة شهرزاد ووهم انتقامها من شهريارها، وقد أسمعته حكايات ليلاتية، وهي تتضمن المرأة الخائنة والمشعوذة والمكّارة والتي تشبع جنسياً: نسخة طبق الأصل عما هو متردد ومؤصَّل في واعية الذكر، سوى أنها' أي هالة' لعبت بطريقة أخرى، دون أن تفصلها عن' منمذجتها' الشهرزادية، حيث مكَّنت الآخر منها طويلاً وهي تلحق به هنا وهناك، وبغتة تعلمنا بأنها عرَّته ولم تسمح له بأن يأخذ منها ما يريد، وهو وهم لا يعادله سوى وهم المتضمَّن الفني أو الأدبي والبطولات المسماة باسم الوطن والمرأة والحب على امتداد صفحات الرواية. هل حقاً، تمكَّنت أحلام مستغانمي من كتابة رواية تسجَّل باسمها كامرأة مختلفة عن الآخر الذكوري الذي لما يزل يردد أكثر مما هو مثبت في الرواية، ويتكرَّر صدى صوته الذكوري ويغريها معاً: الأسود يليق بك' حقاً'؟!؟...أعني بذلك الحِداد الذاتي الذي تعلنه الأنثى المقيمة في ذات الروائية رغم كل الإبهار البلاغي والاستعراضي المرتبط بلغة السرد..!