تمهيد: لم يكن ثمة داع للتأسيس لنوع من الكتابة يسمى ب " الكتابة النسائية" ليكون نوعا قائم الذات، داخل التصنيفات الأنواعية للأدب، لولا أن تاريخ الحضارات جميعها يشهد على غياب سافر لصوت المرأة. هذا الغياب الذي تم تبريره بوقوع المرأة تحت سلطة وسطوة الرجل، وتحت نير الصور الميثية التي خلقتها النصوص الدينية والذاكرة الجماعية. ففي المسيحية، ثمة اعتقاد أن الخالق، كما يقول سوزان موللر " اهتم بتصنيف الرجال والنساء على نحو مختلف، وأن تعديل هذه الرؤية والبحث عن المساواة يعد محاولة لإبطال ما صنعته يد الرب." ورغم كل ما ساقه علماء الإسلام اجتهادا، لم يستطع أن يقف أمام يا يقوله الله ورسوله نصا. فإذا كانت النساء ناقصات عقل ودين، فإن رفع صوتهن حرام وإن بذكر الله. وفي النصوص الأدبية والتصورات الفلسفية والمتخيل الشعبي، غالبا ما قدمت المرأة في صور سلبية، هي في معظمها، سليلة التصورات الدينية السابقة الذكر. ففي الأمثال الشعبية كثيرا ما اقترنت صورة المرأة بالثرثرة. فالصينيون يرددون ما يلي: " لغة النساء كالسيف، لا تتركه المرأة يصدأ"، والإنجليز يقولون إن " الصمت هو أحسن حلي المرأة، إلا أنها قليلا ما تتقلده"، وفي الشيلي تلزم العروس بالصمت مدة شهور، فيما تقوم المرأة بالأمر نفسه في قصور الرجال بأوربا، إلى أن يمنحها أبوها أو زوجها حق الكلام. غير أن ظهور الكتابة النسائية في الشرق وفي المغرب تحديدا، عكس نظيرتها في الغرب، لا يمكن إيعازه إلى رغبة المرأة في الانتقام لذاتها، وتقديم نفسها بالصورة التي تريد أن تكون عليها مع أن ذلك أصبح غاية في ما بعد ، بقدر ما يرتبط بتطورات اجتماعية لمست مجال التعليم والثقافة، فكان من الطبيعي أن تظهر نساء مبدعات يرغبن في الكتابة، تماما كما ظهر رجال مبدعون، ولجوا السرد بعد تعلمهم فك الحرف. لقد اقترنت صورة المرأة في المنجز النصي الرجالي بتخيلات سلبية، وقليلا ما صورت كما تريد أن تصور نفسها. هذا الاجتياف سيجعل وفاء مليح تقول على لسان بطلتها فاتن الإدرسي: " أنا إنسان حر قبل أن أكون امرأة. لن أقدم فروض الولاء والطاعة للتقاليد المريضة التي تكبلني وتحرمني من حقي في ممارسة حياة كائن إنساني مستقل. سأتجاوزها وأفتح ذراعي للحياة." وفي ما يلي سنحاول أن نتناول موضوعين أساسيين، من خلال بعض النماذج الروائية النسائية المغربية، هما: غياب الأنثى الساردة، وتعالي النص النسائي الذي يؤسس اختلافه، لنتبين عن قرب مدى إمكانية تأسيس كتابة نسائية حقيقية. غياب الأنثى الساردة: ذهبت فرجينا وولف في كتابها " النساء والرواية" إلى أن المرأة يجب عليها، لكي تؤسس أسلوبا أنثويا خاصا بها " تغيير الجملة المتداولة إلى جملة تحمل الشكل الطبيعي لفكرها" ذلك أن لغة السرد الموجودة هي لغة ذكورية، تناسب منطق تفكير الرجل، ومن الخطأ توظيف هذه اللغة في الكتابة النسوية. ونعتقد أيضا أنه من الضروري أيضا أن تنسل المرأة الكاتبة من راحة تذكير السرد الذي طغى في الجل الأعظم من النصوص السردية، وهو ما حصل في نصوص المشرقيات والغربيات على حد سواء، دون أن تقنعنا الرواية النسائية المغربية بشيء من هذا القبيل. قد نتساءل عن هوية الرواية النسائية المغربية، ولماذا تختلف عن نظيرتها في الشرق والغرب، فإذا كانتا معا توظفان ضمير الأنا المؤنث في السرد، تمردا على أنا الرجل، فإنها في المغرب لا تحس بنفسها إلا في هذا الاختلاف الذي لا يعير للذكورة والأنوثة اهتماما. إن المرأة المغربية تكتب " كامرأة نسيت أنها امرأة، حيث تمتلئ صفحاتها بخاصية " جنسية " غريبة" كما قالت فرجينا وولف. ويمكن أن نفسر هذا الخوف من إظهار الذات الساردة، بسمت نهج الأندروجينية في الإبداع، حين تنسى المرأة جنسها وتمارس الكتابة بحياد كامل دون أن تتدثر بغطاء النسوية، وحين يكون هناك زواج " داخل عقل الكاتب(ة) بين المبادئ الأنثوية والمبادئ الذكورية" إن المرأة المغربية لا تحمل الحبر إلا لتسلمه للرجل؛ ها هي فاتحة مرشيد تهرب من نفسها، من الأنثى التي كانتها، لتخلي فراغ السرد لأبطالها الذكور( أمين) . وهاهي خديجة مروازي تستجدي مولين اليزيدي لينوب عنها في رجولة ترغب في أن تكونها، وتخسر في لعبة قمار سردية تسعا وثلاثين صفحة، يودعها الرجل في حساب الذكورة المتراكم . ولم تستطع وفاء مليح أن تقطف من شجرة السرد غير أربعين صفحة، وهي الشجرة الحبلى بمائة وخمسة وسبعين صفحة، استدركت واحدة منها في مطافها الأخير . هذا الأمر برره عبد الله الغذامي بقوله إن المرأة، والحالة هذه، وكأنها " تدخل مستعمرة ذكورية يحتكر فيها الرجل سيادة النص وتكون المرأة مجرد إنتاج ثقافي جرت برمجته وجرى احتلاله بالمصطلح المذكر والشرط المذكر، فيكون لزاما عليها أن تقرأ وتكتب وفق شروط الرجل." سؤال سيادة الذكورة في كل شيء، وسيادته في السرد يطرح إشكالات جمة تحتاج إلى معاينة واقعية صادرة عن الأنثى التي تسرد، هل لأن الأنثى غائبة عن التجربة، هل لأنها بيتوتية، هل لأنها تخاف من السرد الذي يفضح، هل لأنها ترغب في إحلال أفكارها وأفعالها في ذكر، ومن ثم استبعاد الحكي الذاتي، الذي يتعمد القارئ ربطه بالكاتب وليس بالسارد؟ إن مكر القارئ والقراءة وارد بشكل كبير، فكل القراء يجدون لذة في إلصاق ما يحدث في النص بكاتبه. ربما هي عادة إنسانية في سماع أسرار الذوات، إنه أمر ممتع، ويجد سنده أساسا في عدم الاستعداد الذي يبديه السامع أمام قصة لا يعرف شخوصها معرفة عيانية. لقد وقع الأمر كثيرا في تاريخ نقد السرد، ووصل الأمر إلى محاكمة حيدر حيدر بصدد المواقف المبثوثة في روايته " وليمة لأعشاب البحر" باعتبار أنها مواقف الذات الكاتبة.
تعالي الرواية النسائية وتأسيس الاختلاف: لن نجد مشقة كبيرة في إدراك اجترار الموضوعات الذي يميز معظم الروايات النسائية المغربية؛ ففي رواية "مخالب المتعة" يحصل أمين على دبلوم الدراسات المعمقة في الجغرافيا، فيما تقدم "سيرة الرماد" أغلب شخصياتها بوصفها مثقفة، نالت حظا وافرا من التحصيل العلمي، أما فاتن وأحمد في " عندما يبكي الرجال" فقد حصلا على إجازة ودكتوراه في القانون على التوالي. إن الواقع الهش الذي تعيشه النخبة المغربية، يفرض، على صعيد الكتابة الأدبية، كثيرا من القناعات التعبيرية عن جراح ذاتية لا تزول رغم الحصول المتأخر على العمل. إن أزمة المثقفين هي رحيق من النرجسية الغالبة( التعبير الأدبي) والإيثار الغريب ( واقعها الحقيقي الممتلئ بالمفاجآت). سنجد ذلك حتما في صورة زوجة سالم، صديق البطل في " عندما يبكي الرجال" الحاصلة على الدكتوراه في الأدب الفرنسي. لنتأمل هذا المقطع: " لكنها لم تفلح في أن يكون لها منصب قار. تنقلت بين عدة مهن صغيرة ليست لها علاقة بتكوينها الجامعي. أحيانا أجدها سكرتيرة لشركة سرعان ما تغلق أبوابها. أحيانا عاملة تطبع بحوث نهاية الدراسة الجامعية للطلبة وأحيانا أخرى أجدها تعمل في مخدع هاتفي، وأحيانا أخرى بدون عمل." إن كل الشخصيات تقريبا في " عندما يبكي الرجال" وفي " سيرة الرماد" لها رصيد ثقافي وعلمي معين؛ فاتن، أحمد، سالم، فاطمة، مصطفى، مولين، ليلى... لقد تنكرت إذن، الكتابة النسائية لشخصيات الحياة العادية، تلك التي عهدناها في كتابات ذكورية كنجيب محفوظ وحنامينه ومنيف وبركات... قد نتساءل عن هذا الأمر، هل اختيار شخصيات مثقفة وتصريف الرواية النسائية لها في كتاباتها، هو ما يؤسس اختلافها، أم أن واقعها اليومي الذي لا يعرف من الحياة غير الجامعة هو ما يفرض عليها هذا الالتزام، باعتبار أن المرأة كتبت " بشكل مخالف عن الرجل لاختلاف تجربتها الاجتماعية." ؟ ولعلنا لن نبتعد كثيرا إن قلنا إن التجربة الروائية النسائية مؤسسة إلى حد كبير على البوح، فقد " احتلت المواضيع الرومانسية حصة الأسد في جل الكتابات النسائية..." . سنسأل فاتحة مرشيد عن الموضوع المركزي في روايتيها " لحظات لا غير" و " مخالب المتعة" ووفاء مليح في " عندما يبكي الرجال"، وخديجة مروازي عن التيمة الموازية لتيمة السجن في " سيرة الرماد"، ناهيك عن بعض النصوص المغاربية التي أطلق عليها اسم الرواية الجنسية، كما حصل مع " ذاكرة الجسد"، رغم أن أحلام مستغانمي صرحت بأن شخصياتها لا يتجاوز فعلها الجنسي القبلة. في الصفحة الأولى من " عندما يبكي الرجال" سنجد مطلع قصيدة من قصائد نزار قباني، ثم تشفعها الساردة ب " قصيدة كان يرددها في لقاءاتنا". وفي الصفحة الأولى أيضا من " مخالب المتعة" نجد في السطر الأول: " أن تكون عاطلا عن العمل فأنت حتما عاطل عن الحب". وفي الصفحة الثالثة من "سيرة الرماد" نجد : " أقبض على معصميها وأرفعها قليلا عن الأرض وأضمها إلى صدري بحرارة عطش السنين، ليلى لا تعرف أنني لم أكن لأعشق البحر بدونها، ليلى ندية باستمرار، في كل زيارة أطوقها، أقبل شعرها تفعمني رائحة البحر.". إن هذه الفقرات، إضافة إلى أنها وضعت في الصدارة، تشتغل كآلية لتشويق واستفزاز القارئ، باقتحام باب المسكوت وتقديمه في حلة الأدب عاريا من الحياء الذي غلف حياة القارئ وهو يكبت نزعاته. لهذا كان رهان بعض الكتابات النسائية المكتوبة بالعربية وسم نصوصها بعناوين مثيرة، لا تتردد في خرق أفق التلقي، عندما تشير إلى معنى آخر بعيد عن المعنى الحرفي الجنسي الذي تشير إليه. فالجسد في "ذاكرة الجسد" هو جسد خالد بن طوبال، وذاكرته هي ذاكرة الحرب التي بترت يده. والسرير في "عابر سرير"، ليس سريرا أحمر في غرفة النوم، بل هو سرير أبيض في مستشفى. أما "مخالب المتعة" فهو عنوان سافر جنسيا. خلاصة: لقد كانت الرواية النسائية المغربية ممثلة في النماذج التي اعتمدناها منخرطة في إشكالات وجودية لا تمس جوهر الكتابة النسائية، ولن نخطئ إن قلنا إنها كتابة ذكورية ما دام تغيير إسم كاتبها لا يشكل فارقا أسلوبيا نوعيا. رياض القرشي، النسوية: قراءة لخطاب المرأة في الغرب،دار حضرموت، ط.1، 2008، ص.121. 2 وفاء مليح، عندما يبكي الرجال، أفريقيا الشرق، 2011، ص.78. 3 نعيمة هدي المدغري، النقد النسوي، حوار المساواة في الفكر والآداب، فكر،ص.106. 4 المرجع نفسه، ص.97. 5 نفسه، ص.201. 6 فاتحة مرشيد، مخالب المتعة، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2009، بيروتالدارالبيضاء. 7 خديجة مروازي، سيرة الرماد، أفريقيا الشرق، 2000، لبنان المغرب 8 وفاء مليح، عندما يبكي الرجال، أفريقيا الشرق، 2011. 9 نعيمة هدي المدغري، مرجع مذكور، ص.106. وفاء مليح، مرجع مذكور، ص. 27، 28 .10 11 نعيمة هدي المدغري، مرجع مذكور، ص.114.