النمسا تدعم التصريح المشترك الصادر عن رئيسة المفوضية الأوروبية والممثل السامي للاتحاد الأوروبي وتجدد التأكيد على تشبثها "بعلاقاتها الممتازة" مع المملكة المغربية    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يكشف تفاصيل لقائه مع وزارة الصحة لتنفيذ اتفاق 23 يوليوز 2024    أستاذ جامعي يلجأ للقضاء بعد تعرض حساباته ومجلته الأكاديمية للقرصنة والاختراق الإلكتروني    رسالة جهوية تلغي مكتب الجامعة الوطنية للتعليم بالجديدة    استبعاد شخصيات ريفية من اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال يثير الجدل        سعر صرف الدرهم يستقر مقابل الأورو ويتراجع مقابل الدولار    ريال مدريد يكشف تفاصيل إصابة كارفاخال الخطيرة.. ومدة غيابه تتراوح ما بين 8 و 10 أشهر    تصفيات "كان" 2025.. نفاذ تذاكر مباراة المغرب وإفريقيا الوسطى بعد يوم من طرحها    الآلاف يخرجون في مسيرة في الرباط تضامنا مع غزة وبيروت    غوتيريش يدعو إلى وقف "سفك الدماء" في غزة ولبنان    الجزائر تكشف تورطها في ملف الصحراء بدعم قرار محكمة العدل الأوروبية ضد المغرب    انتخابات رئاسية باهتة في تونس يغيب عنها التنافس    نتانياهو يصف دعوة ماكرون للتوقف عن مد إسرائيل بالأسلحة "بالمخزية والعار    إنطلاق أكبر مسيرة وطنية في الرباط دعما لفلسطين ولبنان في الذكرى الأولى للسابع من اكتوبر (فيديو)    المغرب يحاصر هجرة ممرضيّه إلى كندا حماية لقطاعه الصحي    منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة…أسعار الغذاء تسجل أعلى زيادة شهرية        ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس بالجديدة نهائي النسخة ال7 من الجائزة الكبرى للملك محمد السادس للتبوريدة    أنفوغرافيك | بالأرقام .. كيف هو حال إقتصاد غزة في الذكرى الأولى ل "طوفان الأقصى" ؟    طقس الأحد.. زخات رعدية ببعض مناطق المملكة        افتتاح المسبح المغطى السومي أولمبي بتاوريرت    أمام "سكوت" القانون.. "طروتينيط" تغزو شوارع الحسيمة    الجامعة المغربية لحقوق المستهلك…تأكد صحة وثيقة تلوث مياه "عين أطلس"    23 قتيلا في غارات اسرائيلية على لبنان    التونسيون يصوتون في انتخابات الرئاسة وأبرز منافسي سعيد في السجن    جولة المفاجآت.. الكبار يسقطون تباعا وسطاد المغربي يتصدر الترتيب    معرض الفرس الدولي في نسخته 15.. غاب عن فعالياته رواق وعروض ال DGSN    ترامب يعود لمكان محاولة اغتياله: "لن أستسلم أبداً"    انطلاق برنامج الحملات الطبية المصغرة لفائدة الساكنة القروية بإقليم إفران    أمن طنجة يحقق مع سيدة هددت شابة بنشر فيديوهات جنسية لها    بين أعالي الجبال وقلب الصحراء .. تفاصيل رحلة مدهشة من فاس إلى العيون    التعادل يحسم مباراة الحسنية والوداد    عودة ليزلي إلى الساحة الموسيقية بعد 11 عامًا من الانقطاع    منتخب U20 يواجه فرنسا وديا استعدادا لدوري اتحاد شمال إفريقيا    رغم تراجعه عن مطالبته بوقف تسليح إسرائيل.. نتنياهو يهاجم ماكرون: سننتصر معك أو من دونك وعارك سيستمر لوقت طويل (فيديو)    "أندلسيات طنجة" يراهن على تعزيز التقارب الحضاري والثقافي بين الضفتين في أفق مونديال 2030    ENSAH.. الباحث إلياس أشوخي يناقش أطروحته للدكتوراه حول التلوث في البيئة البحرية    وفاة الفنانة المغربية نعيمة المشرقي عن 81 عاما    مصدر ل"برلمان.كوم": المغرب يواصل تنويع شراكاته ويمدد اتفاقية الصيد مع روسيا.. وقرار العدل الأوروبية عزلها دوليا    الفنانة المغربية نعيمة المشرقي تغادرنا إلى دار البقاء    في عمر ال81 سنة…الممثلة نعيمة المشرقي تغادر الحياة    وفاة الممثلة القديرة نعيمة المشرقي بعد مسار فني حافل بالعطاء    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)            دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    قافلة المقاول الذاتي تصل الى اقليم الحسيمة    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″        وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة انطباعية في رواية" فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي

رواية " فوضى الحواس": خرق للهدنة السردية والإبحار ....لغة إلى يم الحواس
بقلم : الروائي عبد الرحمان مسحت
"قبل هذه التجربة، لم أكن أتوقع، أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو، فيأخذ منهم عنوة كل الاعترافات والأقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة، لا يعرفها هو نفسه، ثم يلقي بهم على ورق، أبطالاً متعبين مشوهين،دون أن يتساءل، تراهم حقاً كانوا سيقولون ذلك الكلام، لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟ "
أحلام مستغانمي
رحلة في عالم الحواس
حينما فكرت في كتابة هذه القراءة/ الانطباعية/النقدية، كروائي مارس لعبة الكتابة، كواقع ومتخيل، من خلال تجربة، أظن أنها كانت كافية، على الأقل، لفهم هذه اللعبة المجنونة، والجميلة في آن واحد. وضعت في اعتباري، أن القراءة الشمولية لتجربة أحلام مستغانمي 1، في مقال قد لايتجاوز أربع صفحات، لايمكن أن يفي بالمطلوب، كما قد يغفل جوانب مهمة تتعلق بتجربة هذه الروائية الجزائرية. لذلك، ارتأيت أن أقدم هذه القراءة في رواية" فوضى الحواس"2، كنموذج على تمرد أبطالها، وانفلاتهم" الأدبي" إن صح هذا التعبير. وفي اعتقادي انه لم يستفز كاتب روائي أبطال رواياته، مثلما فعلت الروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي، في ثلاثيتها الرائعة: " عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس"، هذه الأخيرة التي سنلامس من خلال فصولها، انفلات الأبطال وخروجهم عن النص، كتمرد صارخ على مؤلفة الرواية، بوعي منها بطبيعة الحال، ويأتي هذا "الانقلاب" الأدبي، قدرا، بواسطة لعبة الكلمات والإبحار في يم الحواس، وقلب الصور، والنظر من زوايا مختلفة، ليست بالضرورة تلك التي يفكر فيها القارئ.
رواية" فوضى الحواس"، رواية الدهشة والصدمة.. تدهشك بلغة كثيفة دالة حالمة وقوية.. ترغمك على امتطائها والتحليق في الأعالي بلا بساط " سندبادي"، فقط عليك أن تقرر هذا الامتطاء متسلحا بقربة ممتلئة باللغة والمعرفة والفلسفة..وبحواس نفاذة تتنفس من كل مسام جلدك. هنا، ومن هذا المنطلق، وحالما تقرر، فانك تصبح احد فرسان الرواية بلا منازع. فالكتابة إذن، بالنسبة لأحلام، خروج اضطراري، على تقاليد الكتابة الروائية، الكلاسيكية والحديثة، لأنها الروائية التي تفضل إشراك شخوصها في صنع الأحداث وتوجيهها والعبث بها، وهي بذلك تمارس نوعا من الاستفزاز الممنطق للسماح بهذا" الانفلات " الأدبي الجميل، والخروج عن الطاعة وإعلان الحرب على الساردة والمؤلفة على حد سواء. لذلك فان أبطال أحلام، الورقية، أحيانا، والواقعية، في أحايين كثيرة، يتمتعون بسحر خاص و يمارسون فعل الكتابة بكل حرية، مشاركين في لعبة الحكي، شاهرين فيضا من الأحاسيس ، والحب والعشق.. لذواتهم، بشكل نرجسي، يصنعون أحلامهم في مواجهة الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة. هي بكل بساطة، أعني الرواية، رحلة في عالم الحواس، أكثر مما هي فعل في الواقع المادي، بهدف التغلغل في النفس البشرية وتشريح روح أبطالها، التي تظل ترسمها بطريقة خاصة جدا، كمحترفة وعليمة بخبايا العشق الإنساني، وباختلاجات المحبين ونواياهم الدفينة، وبقراراتهم الاستشهادية، حينما يتعلق الأمر بقضية وطنية، قضية الجزائر تحديدا، وقضايا عربية أخرى، كقضية فلسطين.
رحلة البحث عن هوية الأبطال
الرواية عبر فصولها الخمسة:" بدءا"،" دوما"،" طبعا"،" حثما"، و" قطعا"، هي بالأساس، رحلة في الذات والبحث عن هوية البطلين الرئيسيين، " هو" و" عبد الحق". " هو"، البطل الزئبقي، المتمرد الأول، الذي يظهر ويختفي على امتداد فصول الرواية، مانحا نفسا طويلا وحارا للساردة، التي تفننت في تأثيث البيت الداخلي للرواية، باللغة الأنيقة ذاتها، وبالبعد الفلسفي والرومانسي..الذي يزيد المتن الروائي عمقا فكريا، وجمالا أسلوبيا شاعريا أخاذا يمتطي النثر بساطا. "هو"، رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها ..ويمضي". وفي إحدى المحطات، تحاول البطلة/ الساردة، استدراج" هو"، البطل سهوا، للبوح الكلي والإدلاء بهويته، قالت له" أيمكنك أن تهدي إلي الحقيقة؟ من حقي أن اعرف من تكون؟ يرد ساخرا" أجلي خيبتك قليلا". لكنها تصر" هل صعب إلى هذا الحد أن تبوح لي باسمك؟..". لعبة التخفي، تطول حتى الفصل الأخير، رغم أن البطلة/الساردة، ستتعرف على جزء من حياته، كرجل جريء خبر الحياة ومارس العمل النضالي، وفقد على اثر ذلك إحدى يديه، بعد أن شلت ليعوضه بالعمل الصحفي تحت اسم مستعار" خالد بن طوبال"، ذلك" ..الرجل الحبري الذي خلقته منذ سنوات ثم نسيته داخل كتاب..هذا الكائن اعرفه عن ظهر قلب، فقد عشت معه أربع مائة صفحة".ص 284
إذن نتعرف على" هو"، الذي سيصبح اسمه" خالد بن طوبال"، الصحفي الذي اختار أن يناضل بالقلم من اجل حرية الجزائر، وضد عصابات الفساد الذين يقفون ضد أي إصلاح. وهم أيضا، من قام باغتيال الرئيس الجزائري، محمد بوضياف، الذي لم يحكم البلاد سوى 166 يوما. هو الذي قال لزوجته:" ..كل هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء.." ص244
ولكن هل أمهلوه هذا الوقت القصير، الذي اختصره الجزائريون في شساعة حلمهم الكبير؟ من دار الثقافة بعنابة، وصلت رسالة القتلة، فحينما كان بوضياف يلقي خطابه التاريخي مباشرة على شاشة التلفزيون ".. وقبل أن ينهي جملته، كان احدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية جعل ذويها الحضور ينبطحون جميعهم أرضا..تم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه. ص331
يأتي مباشرة ذكر اسم" سليمان عميرات، الذي مات مباشرة بعد مقتل بوضياف بسكتة قلبية"..من عامه السبعين وهو متورط مع الوطن، منخرط في حب الجزائر" الثورية"، حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم المطالبة بالديمقراطية.." ص328.
احمد، شهيد آخر سيلقى حتفه على احد الجسور، حينما كان يسوق سيارة برفقة البطلة، في جولة بضواحي قسطنطينة ".. فجأة خطفتني من أفكاري طلقات نارية انطلقت على مقربة مني.." ص 109
وهكذا تفقد البطلة، تباعا، أصدقاءها المفضلين، والمتواطئين معها، إما موتا، كشخصية " عبد الحق" و" السائق احمد"..أو رحيلا، كشخصية " ناصر"، أخ البطلة، وهو احد المناضلين الذين سيختارون المنفى خارج الجزائر تفاديا للاعتقال والموت. أواستهتارا، كشخصية الزوج، المسؤول العسكري"، الذي لايكاد يخرج من مهمة حتى يدخل في أخرى، دون أن يكلف نفسه عناء اكتشاف مواهب زوجته، ككاتبة روائية، أو حتى كزوجة عاشقة، تمتطي الحواس بساطا دائما".. زوجي مثلا، لم يوفق يوما في تمييز" الأثاث الحقيقي" عن " الأثاث المزيف"، في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة، بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لاياتي دون أن يعترف تماما بان ما يزعجه، هو الكتابة في حد ذاتها.." ص92 زوج يهمه كثيرا إشباع غرائزه، حتى بدون طقوس"..كهذا المساء، أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة، صمتا، وأنا أتفرج على زوجي، وهو يخلع بذلته العسكرية، ليرتدي جسدي للحظات تم يغرق في النوم.." ص 98
البطولة المطلقة
وهكذا يمكن تصنيف شخوص رواية " فوضى الحواس"، إلى مجموعتين: المجموعة الأولى، منفلتة على الدوام، ثائرة، متمردة.. تخرج من النصوص وتمارس تأثيرها على الساردة بشكل لافت، وتربك أوراق الروائية حتى لانكاد نميز بينهم جميعا إلا من خلال خرجات الساردة، من حين لآخر، وبشكل متقطع. ونذكر هنا بطلين رئيسين:
"هو" أو " خالد طوبال" البطل الذي يظهر ويختفي
"رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها..ويمضي". سنتعرف عليه باسم مستعار، حينما يوقع مقالاته الصحفية باسم " خالد بن طوبال"، رأته البطلة مرة واحدة في جلسة جمعته بالبطل الثاني الرئيسي في الرواية" عبد الحق". ".. ولم يعنيني قدوم رجل مميز المظهر، يرتدي قميصا اسود ونظارات شمس سوداء، في العقد الرابع من عمره، له خطى واثقة، وأناقة رجولة في غنى عن أي جهد..بدا على الرجل وكأنه يعرفني ، أو كأنه فوجئ بوجودي هناك، فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة، ثم سلاما وديا بإشارة من رأسه.. وذهب للجلوس جوار ذلك الرجل الذي توقف أخيرا عن الكتابة، وراحا يتبادلان حديثا، لم يصلني منه شيء".
عبد الحق البطل الزئبقي
شخصية عبد الحق، البطل الشبح، الذي يطارد البطلة / الساردة، مثلما ستظل هي الأخرى تطارده، باحثة عن هويته، محاولة رسم ملامحه بتفاصيل أكثر دقة مما رسمتها على الورق. لكن هذا اللقاء لن يحصل، بعد أن يختطفه الموت على حين غرة".. هذا الرجل الذي لا اعرفه، واعرف كل شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن اعرفها، والتي نشرتها كل الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها، بلغة أو أخرى..". هكذا إذن يودع عبد الحق الحياة دون أن يحين ذلك اللقاء العجيب بينه وبين البطلة، ليبقى لغزا محيرا، رغم ما وصلنا من معلومات عنه، عن طريق صديقه" هو" أو من خلال ما نشرته الجرائد عن اغتياله، بكثير من التفاصيل المملة.
الحقيقة الضائعة
هل نعتبر ذلك إجراء روائيا للبحث عن حقيقة ضائعة في بلد ظل يبحث له عن مستقر، وعن هوية، تحميه من الخونة والعصابات التي تتاجر في كل شيء، حتى الوطن؟ هل يعني ذلك أن فرصة الإصلاح تبدو بعيدة أكثر من أي وقت مضى، في ظل الظروف الاستعمارية، وتكالب الخونة على كل فرص الإصلاح وقطع الطريق أمام الفاسدين الذين اغتنوا بطرق غير مشروعة، وظلوا يزرعون ألغام الفوضى والتسيب..أمام رجالات قدمت أرواحها فداء للوطن؟ الم يقدم " محمد الشريف"، والد الروائية أحلام مستغانمي، حياته لهذه الغاية؟ وهو الذي عاش ردحا من الزمن في تونس، منفيا، حيث مسقط رأس الكاتبة، قبل أن يعود إلى الجزائر ويلقى ربه في وطنه الأصلي؟ هل نعتبر والد أحلام، بطلا حقيقيا، مارس، بشكل أو آخر، تأثيره القوي على الكاتبة، التي شكلت من شخصيته أطيافا لأبطالها الهاربين إلى الخلف، دون هوية حقيقية، في زمن البحث عن استقرار في وطن مذبوح، من طرف أبنائه الخونة، ومن طرف المستعمر الفرنسي الذي ظل يبارك هذا العمل ويصطاد في الماء العكر؟
لقد ذهب بعض النقاد، إلى أن وراء كل بطل من أبطال أحلام،" محمد الشريف"، والدها الذي طبعها بشخصيته، "لم تكن أحلام غريبة عن ماضي الجزائر، ولا عن الحاضر الذي يعيشه الوطن. مما جعل كلّ مؤلفاتها تحمل شيئًا عن والدها، وإن لم يأتِ ذكره صراحة. فقد ترك بصماته عليها إلى الأبد. بدءًا من اختياره العربيّة لغة لها لتتأثر بها. فحال استقلال الجزائر ستكون أحلام مع أوّل فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبيّة، أولى مدرسة معرّبة للبنات في العاصمة. وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين. لتتخرّج سنة 1971 من كليّة الآداب في الجزائر ضمن أوّل دفعة معرّبة تتخرّج بعد الاستقلال من جامعات الجزائر".*3
وما من شك، أنها تأثرت به كانسان مثقف: غرف من الأدب الفرنسي، وتأثر بفيكتور هيجو و جان جاك روسو .. كما كان ساردا بارعا لتاريخ الجزائر وذكرياته في مسقط رأسه" قسطنطينة"، وكمناضل، سجن في مظاهرات 8 ماي 1945، وأصبح مطاردا من قبل الشرطة الفرنسية، بعد أن فقد عمله بالبلدية، و اختار منفاه بتونس، حيث ستتنفس أحلام الحياة، بعيدة عن قسطنطينة، التي ستعود إليها فيما بعد وتتابع دراستها. وما من شك أيضا، أن الأحداث التي تعاقبت على أسرة أحلام، خصوصا مرض والدها ودخوله إلى المستشفى العقلي، اثر انقلاب بومدين واعتقال احمد بن بلة، وتحملها مسؤولية العائلة، جعلها تراكم تجربة حياتية عميقة ملأت بها قربتها الإبداعية، " قبل أن تبلغ أحلام الثامنة عشرة عاماً. وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا, كان عليها أن تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون مورد. ولذا خلال ثلاث سنوات كانت أحلام تعدّ وتقدّم برنامجًا يوميًا في الإذاعة الجزائريّة يبثّ في ساعة متأخرّة من المساء تحت عنوان "همسات". وقد لاقت تلك "الوشوشات" الشعريّة نجاحًا كبيرًا تجاوز الحدود الجزائرية إلى دول المغرب العربي. وساهمت في ميلاد اسم أحلام مستغانمي الشعريّ, الذي وجد له سندًا في صوتها الإذاعي المميّز وفي مقالات وقصائد كانت تنشرها أحلام في الصحافة الجزائرية. وديوان أوّل أصدرته سنة 1971 في الجزائر تحت عنوان "على مرفأ الأيام".*4
رواية الأسئلة الحارقة
مثلما حققت أحلام مستغانمي متعتها وهي تمارس فعل الكتابة، المستفزة، الجريئة، الشاعرية، بكل تأكيد، حقق أيضا القارئ متعته من هذه الكتابة، الأنيقة في أسلوبها، وفي طرح الأسئلة الحارقة، عن الحب والعشق.. في الرجل والمرأة، وهما يصنعان وجودا متميزا، بتفاصيل الجسد الجائع لرغباته الجنسية والروحية، في رحلة البحث عن حقيقة هذا الوجود، في وطن بلا هوية، معتقلا من طرف أبنائه" الخونة" بكل تأكيد، ومباركا من جهات تسعى إلى ذبحه من الوريد إلى الوريد. هل نعتبر رواية" فوضى الحواس" رواية تاريخية في قالب رومانسي؟ هل حققت أغراضها، الفنية والفكرية، دون تغييب لعناصر الفن الروائي؟ ثم، هل استطاعت أحلام أن تتخلص من قبضة أبطالها الذين مارسوا شغبهم، الجميل، على الورق، وانفلتوا من متنها الروائي، باحثين عن تخوم جديدة، في مكان ما، وفي زمن يبدو هو الآخر منفلت على الدوام ؟ هل كان ذلك الدفتر المدرسي، البسيط، الذي رأته ذات يوم في محل لبيع" القرطاسية"، حافزا للكتابة إلى هذا الحد؟ ".. ولذا توقفت أمام ذلك الدفتر مدفوعة بإحساس يتجاوزني، مأخوذة بهذا الشيء الذي لايميزه عن بقية الأشياء في تلك المكتبة، سوى اقتناعي، أو وهمي بأنه سيعيدني إلى الكتابة.." و".. ركضت إلى البيت، أخفيه، وكأنني اخفي تهمة ما، ولم أخرجه سوى البارحة، لأكتب فيه تلك القصة القصيرة، التي قد يكون عنوانها" صاحب المعطف". ص62
هل تكون تلك القصة القصيرة، التي عنونتها ب" صاحب المعطف"، بداية موفقة لرواية كبيرة من حجم" فوضى الحواس" ؟ ومن يكون صاحب المعطف الذي ظلت ترسم تفاصيل شخصيته طول فصول الرواية حتى النهاية ؟ وكيف اختارت الروائية أسلوبها الشاعري، الحار، الطويل، المستفز.. الذي لن يكون إلا على مقاس رواية كبيرة وليس قصة قصيرة؟ الأكيد، أن رواية" فوضى الحواس"، نجحت في مزج الرومانسية الدافئة بالتاريخ، ولاشك أنها رسمت، ببراعة المحترف، جغرافية بلدها الجزائر، كوطن لا خيار عنه، وقدمت لنا تفاصيل شخصية" صاحب المعطف"، الذي قد يكون والدها "محمد الشريف"، أو رجل الوقت، دوما، المناضل والعشيق.. لكنه الزئبقي المنفلت من براثن قلم روائية خبيرة بخبايا السرد، ومروضة جيدة للكلمات التي تتشكل حسب رغباتها، ووفق جغرافية المتن الذي تراه مناسبا لأي موقف أو فكرة أو حدث...
* - روائي مغربي
- عضو اتحاد كتاب المغرب
******
هوامش:
*1 - أحلام مستغانمي روائية من الجزائر، تنفست الحياة سنة 1953 .اشتهرت بثلاثيتها الرائعة:" عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس". ونالت عدة جوائز عربية وعالمية، كما ترجمت اغلب أعمالها إلى لغات أخرى، وأدرج بعضها في مقررات بعدد من المؤسسات التعليمية والجامعات العربية.
* 2- "فوضى الحواس "، رواية للكاتبة أحلام مستغانمي. صدرت عن منشورات أحلام مستغانمي/ الطبعة الثانية عشر/ 2003م .
*3 –، مقال منشور بأحد المواقع الالكترونية لمراد مستغانمي
*4 - نفس المصدر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.