ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة انطباعية في رواية" فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي

رواية " فوضى الحواس": خرق للهدنة السردية والإبحار ....لغة إلى يم الحواس
بقلم : الروائي عبد الرحمان مسحت
"قبل هذه التجربة، لم أكن أتوقع، أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو، فيأخذ منهم عنوة كل الاعترافات والأقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة، لا يعرفها هو نفسه، ثم يلقي بهم على ورق، أبطالاً متعبين مشوهين،دون أن يتساءل، تراهم حقاً كانوا سيقولون ذلك الكلام، لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟ "
أحلام مستغانمي
رحلة في عالم الحواس
حينما فكرت في كتابة هذه القراءة/ الانطباعية/النقدية، كروائي مارس لعبة الكتابة، كواقع ومتخيل، من خلال تجربة، أظن أنها كانت كافية، على الأقل، لفهم هذه اللعبة المجنونة، والجميلة في آن واحد. وضعت في اعتباري، أن القراءة الشمولية لتجربة أحلام مستغانمي 1، في مقال قد لايتجاوز أربع صفحات، لايمكن أن يفي بالمطلوب، كما قد يغفل جوانب مهمة تتعلق بتجربة هذه الروائية الجزائرية. لذلك، ارتأيت أن أقدم هذه القراءة في رواية" فوضى الحواس"2، كنموذج على تمرد أبطالها، وانفلاتهم" الأدبي" إن صح هذا التعبير. وفي اعتقادي انه لم يستفز كاتب روائي أبطال رواياته، مثلما فعلت الروائية الجزائرية، أحلام مستغانمي، في ثلاثيتها الرائعة: " عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس"، هذه الأخيرة التي سنلامس من خلال فصولها، انفلات الأبطال وخروجهم عن النص، كتمرد صارخ على مؤلفة الرواية، بوعي منها بطبيعة الحال، ويأتي هذا "الانقلاب" الأدبي، قدرا، بواسطة لعبة الكلمات والإبحار في يم الحواس، وقلب الصور، والنظر من زوايا مختلفة، ليست بالضرورة تلك التي يفكر فيها القارئ.
رواية" فوضى الحواس"، رواية الدهشة والصدمة.. تدهشك بلغة كثيفة دالة حالمة وقوية.. ترغمك على امتطائها والتحليق في الأعالي بلا بساط " سندبادي"، فقط عليك أن تقرر هذا الامتطاء متسلحا بقربة ممتلئة باللغة والمعرفة والفلسفة..وبحواس نفاذة تتنفس من كل مسام جلدك. هنا، ومن هذا المنطلق، وحالما تقرر، فانك تصبح احد فرسان الرواية بلا منازع. فالكتابة إذن، بالنسبة لأحلام، خروج اضطراري، على تقاليد الكتابة الروائية، الكلاسيكية والحديثة، لأنها الروائية التي تفضل إشراك شخوصها في صنع الأحداث وتوجيهها والعبث بها، وهي بذلك تمارس نوعا من الاستفزاز الممنطق للسماح بهذا" الانفلات " الأدبي الجميل، والخروج عن الطاعة وإعلان الحرب على الساردة والمؤلفة على حد سواء. لذلك فان أبطال أحلام، الورقية، أحيانا، والواقعية، في أحايين كثيرة، يتمتعون بسحر خاص و يمارسون فعل الكتابة بكل حرية، مشاركين في لعبة الحكي، شاهرين فيضا من الأحاسيس ، والحب والعشق.. لذواتهم، بشكل نرجسي، يصنعون أحلامهم في مواجهة الموت الذي يتربص بهم في كل لحظة. هي بكل بساطة، أعني الرواية، رحلة في عالم الحواس، أكثر مما هي فعل في الواقع المادي، بهدف التغلغل في النفس البشرية وتشريح روح أبطالها، التي تظل ترسمها بطريقة خاصة جدا، كمحترفة وعليمة بخبايا العشق الإنساني، وباختلاجات المحبين ونواياهم الدفينة، وبقراراتهم الاستشهادية، حينما يتعلق الأمر بقضية وطنية، قضية الجزائر تحديدا، وقضايا عربية أخرى، كقضية فلسطين.
رحلة البحث عن هوية الأبطال
الرواية عبر فصولها الخمسة:" بدءا"،" دوما"،" طبعا"،" حثما"، و" قطعا"، هي بالأساس، رحلة في الذات والبحث عن هوية البطلين الرئيسيين، " هو" و" عبد الحق". " هو"، البطل الزئبقي، المتمرد الأول، الذي يظهر ويختفي على امتداد فصول الرواية، مانحا نفسا طويلا وحارا للساردة، التي تفننت في تأثيث البيت الداخلي للرواية، باللغة الأنيقة ذاتها، وبالبعد الفلسفي والرومانسي..الذي يزيد المتن الروائي عمقا فكريا، وجمالا أسلوبيا شاعريا أخاذا يمتطي النثر بساطا. "هو"، رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها ..ويمضي". وفي إحدى المحطات، تحاول البطلة/ الساردة، استدراج" هو"، البطل سهوا، للبوح الكلي والإدلاء بهويته، قالت له" أيمكنك أن تهدي إلي الحقيقة؟ من حقي أن اعرف من تكون؟ يرد ساخرا" أجلي خيبتك قليلا". لكنها تصر" هل صعب إلى هذا الحد أن تبوح لي باسمك؟..". لعبة التخفي، تطول حتى الفصل الأخير، رغم أن البطلة/الساردة، ستتعرف على جزء من حياته، كرجل جريء خبر الحياة ومارس العمل النضالي، وفقد على اثر ذلك إحدى يديه، بعد أن شلت ليعوضه بالعمل الصحفي تحت اسم مستعار" خالد بن طوبال"، ذلك" ..الرجل الحبري الذي خلقته منذ سنوات ثم نسيته داخل كتاب..هذا الكائن اعرفه عن ظهر قلب، فقد عشت معه أربع مائة صفحة".ص 284
إذن نتعرف على" هو"، الذي سيصبح اسمه" خالد بن طوبال"، الصحفي الذي اختار أن يناضل بالقلم من اجل حرية الجزائر، وضد عصابات الفساد الذين يقفون ضد أي إصلاح. وهم أيضا، من قام باغتيال الرئيس الجزائري، محمد بوضياف، الذي لم يحكم البلاد سوى 166 يوما. هو الذي قال لزوجته:" ..كل هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء.." ص244
ولكن هل أمهلوه هذا الوقت القصير، الذي اختصره الجزائريون في شساعة حلمهم الكبير؟ من دار الثقافة بعنابة، وصلت رسالة القتلة، فحينما كان بوضياف يلقي خطابه التاريخي مباشرة على شاشة التلفزيون ".. وقبل أن ينهي جملته، كان احدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية جعل ذويها الحضور ينبطحون جميعهم أرضا..تم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه. ص331
يأتي مباشرة ذكر اسم" سليمان عميرات، الذي مات مباشرة بعد مقتل بوضياف بسكتة قلبية"..من عامه السبعين وهو متورط مع الوطن، منخرط في حب الجزائر" الثورية"، حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم المطالبة بالديمقراطية.." ص328.
احمد، شهيد آخر سيلقى حتفه على احد الجسور، حينما كان يسوق سيارة برفقة البطلة، في جولة بضواحي قسطنطينة ".. فجأة خطفتني من أفكاري طلقات نارية انطلقت على مقربة مني.." ص 109
وهكذا تفقد البطلة، تباعا، أصدقاءها المفضلين، والمتواطئين معها، إما موتا، كشخصية " عبد الحق" و" السائق احمد"..أو رحيلا، كشخصية " ناصر"، أخ البطلة، وهو احد المناضلين الذين سيختارون المنفى خارج الجزائر تفاديا للاعتقال والموت. أواستهتارا، كشخصية الزوج، المسؤول العسكري"، الذي لايكاد يخرج من مهمة حتى يدخل في أخرى، دون أن يكلف نفسه عناء اكتشاف مواهب زوجته، ككاتبة روائية، أو حتى كزوجة عاشقة، تمتطي الحواس بساطا دائما".. زوجي مثلا، لم يوفق يوما في تمييز" الأثاث الحقيقي" عن " الأثاث المزيف"، في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة، بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لاياتي دون أن يعترف تماما بان ما يزعجه، هو الكتابة في حد ذاتها.." ص92 زوج يهمه كثيرا إشباع غرائزه، حتى بدون طقوس"..كهذا المساء، أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة، صمتا، وأنا أتفرج على زوجي، وهو يخلع بذلته العسكرية، ليرتدي جسدي للحظات تم يغرق في النوم.." ص 98
البطولة المطلقة
وهكذا يمكن تصنيف شخوص رواية " فوضى الحواس"، إلى مجموعتين: المجموعة الأولى، منفلتة على الدوام، ثائرة، متمردة.. تخرج من النصوص وتمارس تأثيرها على الساردة بشكل لافت، وتربك أوراق الروائية حتى لانكاد نميز بينهم جميعا إلا من خلال خرجات الساردة، من حين لآخر، وبشكل متقطع. ونذكر هنا بطلين رئيسين:
"هو" أو " خالد طوبال" البطل الذي يظهر ويختفي
"رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء إلى دهاليز نفسها. يوقظ رغباتها المستترة. يشعل كل شيء في داخلها..ويمضي". سنتعرف عليه باسم مستعار، حينما يوقع مقالاته الصحفية باسم " خالد بن طوبال"، رأته البطلة مرة واحدة في جلسة جمعته بالبطل الثاني الرئيسي في الرواية" عبد الحق". ".. ولم يعنيني قدوم رجل مميز المظهر، يرتدي قميصا اسود ونظارات شمس سوداء، في العقد الرابع من عمره، له خطى واثقة، وأناقة رجولة في غنى عن أي جهد..بدا على الرجل وكأنه يعرفني ، أو كأنه فوجئ بوجودي هناك، فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة، ثم سلاما وديا بإشارة من رأسه.. وذهب للجلوس جوار ذلك الرجل الذي توقف أخيرا عن الكتابة، وراحا يتبادلان حديثا، لم يصلني منه شيء".
عبد الحق البطل الزئبقي
شخصية عبد الحق، البطل الشبح، الذي يطارد البطلة / الساردة، مثلما ستظل هي الأخرى تطارده، باحثة عن هويته، محاولة رسم ملامحه بتفاصيل أكثر دقة مما رسمتها على الورق. لكن هذا اللقاء لن يحصل، بعد أن يختطفه الموت على حين غرة".. هذا الرجل الذي لا اعرفه، واعرف كل شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن اعرفها، والتي نشرتها كل الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها، بلغة أو أخرى..". هكذا إذن يودع عبد الحق الحياة دون أن يحين ذلك اللقاء العجيب بينه وبين البطلة، ليبقى لغزا محيرا، رغم ما وصلنا من معلومات عنه، عن طريق صديقه" هو" أو من خلال ما نشرته الجرائد عن اغتياله، بكثير من التفاصيل المملة.
الحقيقة الضائعة
هل نعتبر ذلك إجراء روائيا للبحث عن حقيقة ضائعة في بلد ظل يبحث له عن مستقر، وعن هوية، تحميه من الخونة والعصابات التي تتاجر في كل شيء، حتى الوطن؟ هل يعني ذلك أن فرصة الإصلاح تبدو بعيدة أكثر من أي وقت مضى، في ظل الظروف الاستعمارية، وتكالب الخونة على كل فرص الإصلاح وقطع الطريق أمام الفاسدين الذين اغتنوا بطرق غير مشروعة، وظلوا يزرعون ألغام الفوضى والتسيب..أمام رجالات قدمت أرواحها فداء للوطن؟ الم يقدم " محمد الشريف"، والد الروائية أحلام مستغانمي، حياته لهذه الغاية؟ وهو الذي عاش ردحا من الزمن في تونس، منفيا، حيث مسقط رأس الكاتبة، قبل أن يعود إلى الجزائر ويلقى ربه في وطنه الأصلي؟ هل نعتبر والد أحلام، بطلا حقيقيا، مارس، بشكل أو آخر، تأثيره القوي على الكاتبة، التي شكلت من شخصيته أطيافا لأبطالها الهاربين إلى الخلف، دون هوية حقيقية، في زمن البحث عن استقرار في وطن مذبوح، من طرف أبنائه الخونة، ومن طرف المستعمر الفرنسي الذي ظل يبارك هذا العمل ويصطاد في الماء العكر؟
لقد ذهب بعض النقاد، إلى أن وراء كل بطل من أبطال أحلام،" محمد الشريف"، والدها الذي طبعها بشخصيته، "لم تكن أحلام غريبة عن ماضي الجزائر، ولا عن الحاضر الذي يعيشه الوطن. مما جعل كلّ مؤلفاتها تحمل شيئًا عن والدها، وإن لم يأتِ ذكره صراحة. فقد ترك بصماته عليها إلى الأبد. بدءًا من اختياره العربيّة لغة لها لتتأثر بها. فحال استقلال الجزائر ستكون أحلام مع أوّل فوج للبنات يتابع تعليمه في مدرسة الثعالبيّة، أولى مدرسة معرّبة للبنات في العاصمة. وتنتقل منها إلى ثانوية عائشة أم المؤمنين. لتتخرّج سنة 1971 من كليّة الآداب في الجزائر ضمن أوّل دفعة معرّبة تتخرّج بعد الاستقلال من جامعات الجزائر".*3
وما من شك، أنها تأثرت به كانسان مثقف: غرف من الأدب الفرنسي، وتأثر بفيكتور هيجو و جان جاك روسو .. كما كان ساردا بارعا لتاريخ الجزائر وذكرياته في مسقط رأسه" قسطنطينة"، وكمناضل، سجن في مظاهرات 8 ماي 1945، وأصبح مطاردا من قبل الشرطة الفرنسية، بعد أن فقد عمله بالبلدية، و اختار منفاه بتونس، حيث ستتنفس أحلام الحياة، بعيدة عن قسطنطينة، التي ستعود إليها فيما بعد وتتابع دراستها. وما من شك أيضا، أن الأحداث التي تعاقبت على أسرة أحلام، خصوصا مرض والدها ودخوله إلى المستشفى العقلي، اثر انقلاب بومدين واعتقال احمد بن بلة، وتحملها مسؤولية العائلة، جعلها تراكم تجربة حياتية عميقة ملأت بها قربتها الإبداعية، " قبل أن تبلغ أحلام الثامنة عشرة عاماً. وأثناء إعدادها لشهادة الباكلوريا, كان عليها أن تعمل لتساهم في إعالة إخوتها وعائلة تركها الوالد دون مورد. ولذا خلال ثلاث سنوات كانت أحلام تعدّ وتقدّم برنامجًا يوميًا في الإذاعة الجزائريّة يبثّ في ساعة متأخرّة من المساء تحت عنوان "همسات". وقد لاقت تلك "الوشوشات" الشعريّة نجاحًا كبيرًا تجاوز الحدود الجزائرية إلى دول المغرب العربي. وساهمت في ميلاد اسم أحلام مستغانمي الشعريّ, الذي وجد له سندًا في صوتها الإذاعي المميّز وفي مقالات وقصائد كانت تنشرها أحلام في الصحافة الجزائرية. وديوان أوّل أصدرته سنة 1971 في الجزائر تحت عنوان "على مرفأ الأيام".*4
رواية الأسئلة الحارقة
مثلما حققت أحلام مستغانمي متعتها وهي تمارس فعل الكتابة، المستفزة، الجريئة، الشاعرية، بكل تأكيد، حقق أيضا القارئ متعته من هذه الكتابة، الأنيقة في أسلوبها، وفي طرح الأسئلة الحارقة، عن الحب والعشق.. في الرجل والمرأة، وهما يصنعان وجودا متميزا، بتفاصيل الجسد الجائع لرغباته الجنسية والروحية، في رحلة البحث عن حقيقة هذا الوجود، في وطن بلا هوية، معتقلا من طرف أبنائه" الخونة" بكل تأكيد، ومباركا من جهات تسعى إلى ذبحه من الوريد إلى الوريد. هل نعتبر رواية" فوضى الحواس" رواية تاريخية في قالب رومانسي؟ هل حققت أغراضها، الفنية والفكرية، دون تغييب لعناصر الفن الروائي؟ ثم، هل استطاعت أحلام أن تتخلص من قبضة أبطالها الذين مارسوا شغبهم، الجميل، على الورق، وانفلتوا من متنها الروائي، باحثين عن تخوم جديدة، في مكان ما، وفي زمن يبدو هو الآخر منفلت على الدوام ؟ هل كان ذلك الدفتر المدرسي، البسيط، الذي رأته ذات يوم في محل لبيع" القرطاسية"، حافزا للكتابة إلى هذا الحد؟ ".. ولذا توقفت أمام ذلك الدفتر مدفوعة بإحساس يتجاوزني، مأخوذة بهذا الشيء الذي لايميزه عن بقية الأشياء في تلك المكتبة، سوى اقتناعي، أو وهمي بأنه سيعيدني إلى الكتابة.." و".. ركضت إلى البيت، أخفيه، وكأنني اخفي تهمة ما، ولم أخرجه سوى البارحة، لأكتب فيه تلك القصة القصيرة، التي قد يكون عنوانها" صاحب المعطف". ص62
هل تكون تلك القصة القصيرة، التي عنونتها ب" صاحب المعطف"، بداية موفقة لرواية كبيرة من حجم" فوضى الحواس" ؟ ومن يكون صاحب المعطف الذي ظلت ترسم تفاصيل شخصيته طول فصول الرواية حتى النهاية ؟ وكيف اختارت الروائية أسلوبها الشاعري، الحار، الطويل، المستفز.. الذي لن يكون إلا على مقاس رواية كبيرة وليس قصة قصيرة؟ الأكيد، أن رواية" فوضى الحواس"، نجحت في مزج الرومانسية الدافئة بالتاريخ، ولاشك أنها رسمت، ببراعة المحترف، جغرافية بلدها الجزائر، كوطن لا خيار عنه، وقدمت لنا تفاصيل شخصية" صاحب المعطف"، الذي قد يكون والدها "محمد الشريف"، أو رجل الوقت، دوما، المناضل والعشيق.. لكنه الزئبقي المنفلت من براثن قلم روائية خبيرة بخبايا السرد، ومروضة جيدة للكلمات التي تتشكل حسب رغباتها، ووفق جغرافية المتن الذي تراه مناسبا لأي موقف أو فكرة أو حدث...
* - روائي مغربي
- عضو اتحاد كتاب المغرب
******
هوامش:
*1 - أحلام مستغانمي روائية من الجزائر، تنفست الحياة سنة 1953 .اشتهرت بثلاثيتها الرائعة:" عابر سرير"،" ذاكرة الجسد"و" فوضى الحواس". ونالت عدة جوائز عربية وعالمية، كما ترجمت اغلب أعمالها إلى لغات أخرى، وأدرج بعضها في مقررات بعدد من المؤسسات التعليمية والجامعات العربية.
* 2- "فوضى الحواس "، رواية للكاتبة أحلام مستغانمي. صدرت عن منشورات أحلام مستغانمي/ الطبعة الثانية عشر/ 2003م .
*3 –، مقال منشور بأحد المواقع الالكترونية لمراد مستغانمي
*4 - نفس المصدر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.