يشكل النظام السوري الحلقة الأخيرة في «منظومة» حكمت عدداً من الدول العربية بشعارات تخاطب النزعة إلى التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية، وإن هي قصرت عن تحقيق أهدافها المعلنة، إلا في حالة مصر في الحقبة الناصرية بإنجازاتها وإخفاقاتها. ومع الفارق في ممارسات كل من هذه الأنظمة التي رفعت راية العداء للاستعمار ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، تجسيداً للإرادة الشعبية العربية، فإن النتائج البائسة التي انتهت إليها التجارب والوقائع تشهد عليها وليس لها، وتبرر الانتفاضات التي تفجرت ضدها في بعض أقطار المشرق والمغرب، والتي قدر عليها - في حالة مصر - أن تعود إلى «الميدان» مرة بعد أخرى، سعياً إلى فتح الطريق إلى المستقبل بتغيير له هويته الوطنية المؤكدة. طبيعي، إذن، الاستنتاج أن المنطقة العربية بمجملها هي اليوم اضعف مما كانت قبل عقود أربعة أو خمسة، في مواجهة الاستعمار القديم وكذلك العدو الإسرائيلي، فكيف بمواجهة الإمبريالية وعنوانها الهيمنة الاميركية؟ على أن أخطر ما تسببت فيه تلك الأنظمة هو ضرب أو تخريب الوحدة الوطنية في الأقطار التي حكمتها، بما كشف المفارقة بين الشعار والممارسة، بقدر ما كشف التزوير في الأهداف التي رفعتها وبررت بها استيلاءها على السلطة. ولأن جذور تلك الأنظمة كانت عسكرية فقد كان مفهوماً ألا تقدس شعارات الديموقراطية وألا تحترم حق الانتخاب كوسيلة لتحقيقها، وأن تنيب نفسها في النطق باسم الشعب وتجسيد إرادته عبر الاستفتاءات التي باتت مدعاة للسخرية بإجراءاتها البوليسية ونتائجها الفضائحية. في ظل هذه الأنظمة صار الرئيس هو الدولة والشعب معاً، محققاً بذلك استحالة فريدة في بابها في التاريخ الإنساني. كان طبيعياً، إذن، أن تتفجر الانتفاضات وان تسقط الأنظمة القمعية، خصوصاً أن بعض الرؤساء الذين وصلوا إلى السلطة باسم الثورة قد تحولوا إلى «ملوك» أبديين، لا يخلعهم إلا الموت! في حالات محددة قام قادة بعض هذه الأنظمة بمغامرات عسكرية خارج حدود بلادهم (القذافي في تشاد، وتونس ومصر)، وصدام حسين في حربه ضد إيران بعد الثورة التي خلعت الشاه، ثم في غزوه الكويت بذريعة أنها لم تدفع ما كانت تعهدت به أثناء «حرب القادسية»، وفي اليمن حين وجد علي عبدالله صالح من يدفعه إلى الحروب مع «الأشقاء» في جنوب اليمن الذين كانوا قد استقلوا بدولة حصنها الاتحاد السوفياتي ولم تبخل عليها المملكة السعودية بدعم غير منظور لضمان استمرار اليمن مقسمة وضعيفة. لكن ذلك من الماضي... أما في الحاضر فإن بعض الجماعات السياسية التي كانت مضطهدة من طرف الأنظمة القائمة، وأبرزها «الإخوان»، قد وجدوا في الانتفاضات الشعبية فرصة ذهبية للقفز إلى السلطة، انطلاقاً من أن تنظيماتهم كانت الأقوى والأغنى والأوسع انتشاراً في البلاد، ومن أن قياداتهم كانت مستعدة للتواطؤ مع الجيش، وطمأنة «الخارج الاميركي» إلى أنهم لن يخرجوا عن موجبات «التحالف» أو «التعاون» بشروطه. وإذا كان «إخوان» تونس قد أستفادوا من ضعف الجيش، ومن استعداد بعض القوى المعارضة للتواطؤ معهم، مع الإقرار لهم بالصوت المرجح، فإن «إخوان» مصر سرعان ما استبعدوا الجيش عن القرار بعدما اتخذوه سلماً للوصول يحصنهم في وجه القوى الأصيلة التي فجرت الانتفاضة. على أن «الميدان» استعاد حقه في القرار، وهكذا تحرك لإسقاط حكم «الإخوان» بانتفاضة شاركت فيها عشرات الملايين من أبناء مصر ثم حسم الجيش الموقف بقرار شجاع أقفل معه أبواب جهنم الحرب الأهلية في مصر. هنا توالت سلسلة من التحركات السياسية المفاجئة لتبدل في مشهد الثورة، إذ اندفعت دول النفط والغاز في تظاهرة تأييد ودعم للثورة الجديدة، مع تركيز واضح على قيادة الجيش التي تصر على التعامل معها وكأنها القيادة الفعلية للوضع الجديد في مصر. وفي حين تتوالى هجمات الدول الغربية على دور الجيش في مصر الثورة، مستخدمة الإعلام للتشهير بالدكتاتورية، مع تركيز شديد على الفريق السيسي، فإن الإدارة الاميركية تبدو مترددة، متعثرة، فهي ما أن تفتتح باباً حتى تغلق أبواباً في وجه «العهد الجديد» في مصر، وتخضعه لامتحانات متعاقبة لاكتشاف «توجهاته الحقيقية» و«عمق إيمانه بالديموقراطية»، فضلاً عن مدى التزامه المعاهدات والتعهدات التي كان يرتكز إليها عهد حسني مبارك.. وهي هي التعهدات التي سارع عهد «الإخوان»، على قصره، إلى التوكيد على الالتزام بها والاندفاع الى ما هو ابعد، لا سيما في ما خص العلاقة مع إسرائيل والالتزام بمنطوق معاهدة الصلح معها... ولقد ذهب الرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي إلى حد نفاق رئيس دولة إسرائيل في رسالة مهينة لتاريخ مصر ودماء شهدائها في الحروب التي شنها الكيان الصهيوني على مصر، ومعها سوريا، لطمس قضية فلسطين والتمكين لاحتلاله أرضها عبر زرعها بالمستوطنات التي استقدم من سيوطنهم فيها من أربع رياح الأرض، مع نسبة ملحوظة من الأفارقة، فضلاً عن «الهاربين» من دكتاتورية النظام الجديد في روسيا الذي لم يختلف في تعامله معهم عن النظام الشيوعي، مع التنويه بأن أكثرية هؤلاء المستوطنين ليست من اليهود. إن الحماسة السعودية الخليجية للعهد الجديد في مصر، الذي جاء به الميدان، وإن كان الجيش هو من أنجز الخطوة الأخيرة، أي خلع مرسي، تتبدى لافتة، بل هي نافرة.. فماذا يجمع بين هذه الأنظمة الملكية المذهبة بالثروة وأهل الثورة من فقراء مصر الذين اندفعوا إلى التغيير طلباً للتحرر وبناء الغد الأفضل؟ إن الوفود السعودية الملكية، أو تلك الآتية من الكويت، أو قطر، أو دولة الإمارات بشكل خاص، تستوقف أي مراقب، وتدفعه للتساؤل عن دوافعها الحقيقية، إذ ليس من المنطقي والمعقول أن تدعم هذه الأنظمة الملكية الثورات وعمليات التغيير الجذري في المجتمع العربي. وبديهي أن يتعجب المتابعون من هذا الكرم الخليجي مع ثورة مصر التي تسعى إلى إعادة بناء هذه الدولة العريقة وذات الحق بالقيادة، خصوصاً أن مجتمعها هو الأسبق إلى التقدم في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية... ثم أن تتزايد الأسئلة والتساؤلات حول الأهداف الفعلية لهذا التحرك الملكي (وكان لافتاً على سبيل المثال أن يستذكر الأمير سعود الفيصل في خطابه أمام الجامعة العربية انه كان زميلاً لوالد وزير الخارجية المصري نبيل فهمي، المرحوم إسماعيل فهمي... مفهوم أنها مرحلة انتقالية بين شرعية الثورة ودولة الشرعية، في مصر، ومعروف أن مصر تعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة جداً نتيجة الحقبة المباركية الطويلة، معززة بالفوضى المدمرة التي أحدثها حكم «الإخوان»، لكن هذا السخاء السعودي خصوصاً والخليجي عموماً يدفع إلى التساؤل عن أسبابه ثم وخصوصاً عن مراميه وأهدافه. هل يكفي العداء «للإخوان» تبريراً لهذا الإقبال السعودي والخليجي على الحكم الجديد في مصر؟ وهل يمكن أن تتصرف هذه الدول المذهبة فتدعم ثورة شعبية عظيمة كالتي أنجزها شعب في مصر في ميدانه المتفجر بالغضب على من فرض على مصر التخلف وأهان كرامتها، من وراء ظهر اميركا؟ فماذا عدا مما بدا حتى تبدلت المواقف إلى حد الانتقال من عداوة مطلقة إلى الدعم المطلق لثورة تحمل الوعد بالتغيير نحو الغد الأفضل، ليس في مصر وحدها بل في الوطن العربي جميعاً وفي محيطه الآسيوي والأفريقي بشكل عام؟ الجواب في ضمير من يرصد الحركة من خلال الوقائع الكاشفة لأهدافها بعيداً عن عواطف الأخوة وموجباتها... وهذا ما سوف تكشفه الأيام وهي حبلى بالتطورات المفاجئة! "السفير" اللبنانية