ليس ل«الإخوان المسلمين» سمعة طيبة في المشرق العربي خصوصاً، أما في سائر الجهات العربية، فإن صورة هذا التنظيم العريق تاريخياً يسودها قدر من الغموض، يختلط فيها الارتياب بمقاصده الانقلابية، في ظل التباسات عديدة في سلوكه السياسي المرتكز أساساً على الشعار الديني مع تغييب لبرنامجه الاقتصادي الاجتماعي، فضلاً عن الارتباك في تحالفاته السياسية. لقد ثبتت لهم صورة محددة في ذهن الأكثرية العربية: أنهم يفضلون العمل السري في أنشطتهم، ويعتمدون صيغة «الجماعة» ذات الإيحاءات الدينية، على صيغة «الحزب» بدلالاته السياسية المحددة ببرنامج واضح في رؤيته لمجتمعه واحتياجاته وطموحاته وموقعه منها. كذلك فقد طاردتهم شبهة اللجوء إلى الاغتيال السياسي في مواجهة خصومهم، وبالتحديد الحكام منهم، والتكتم وتقصد الغموض في علاقاتهم بالقوى السياسية ذات التاريخ، في المشرق أساساً، ثم في سائر أنحاء الوطن العربي. كان شعارهم الإسلامي يأخذهم في سلوكهم العملي إلى موقع العداء أو الخصومة مع حركة العروبة والأحزاب ذات التوجه القومي العربي عموماً، وربما تمددت هذه الخصومة فطاولت الأحزاب والهيئات والقوى ذات التوجهات الوطنية. ثم أنهم كانوا متهمين بمهادنة الأنظمة الموالية للغرب (السعودية مثلاً) بل الغرب الاستعماري عموماً، على حساب نضال الشعوب من اجل التحرر واستعادة قرارها الوطني الحر. إضافة إلى هذا كله، كانت لهم «سمعة دموية»، وكان خصومهم يتهمونهم باعتماد سياسة التواطؤ والسرية، في مواجهة من هم «خارجهم» والتصفيات لردع من يخالفونهم من داخل التنظيم أو في محيط أصدقائه. ربما لهذا كله أصيب العرب، خارج مصر، بالصدمة بقدر ما صدم المصريون وأكثر، حين برز «الإخوان المسلمون» بعد انفجار «الميدان» في القاهرة بانتفاضته الأولى، والتي لم يشاركوا جدياً في إطلاقها، كطرف مقرر بالتواطؤ مع قيادة المجلس العسكري الأعلى (المشير طنطاوي)... ثم توالت المفاجآت عبر مزيد من التواطؤ مع المشير ورفاقه: التعديل الدستوري الأول، انتخابات المجلس النيابي ومجلس الشورى، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية. ومعروفة هي الالتباسات وأنماط التحالفات والمخاصمات التي حكمت مسار الانتخابات الرئاسية والتي وفرت فرصة قدرية لمرشح ناقص الكفاءة والخبرة معدوم الثقافة السياسية، لأن يكون أول رئيس أخواني في الدولة العربية الرائدة في الفقه الدستوري وتجربة الانتخابات والنضال الديموقراطي. لم يسقط ذلك الحدث الاستثنائي من خارج التوقع فقط، ولكنه جاء من خارج المسار الطبيعي لانتفاضة الميدان وشعاراته المعبرة عن طموحات الملايين التي احتشدت فيه على مدى شهور: لقد فاز بالرئاسة من لم يختره الميدان مرشحاً، ومن لم ينتخبه اقل من نصف الناخبين المصريين إلا اضطراراً وهرباً من المرشح الآخر الذي كان فوزه يعني اغتيال الميدان وأهدافه.. في الميدان وبأيدي أهله. وكانت تلك فرصة تاريخية استثنائية لجماعة «الإخوان المسلمين» لإثبات جدارتها بالمسؤولية الوطنية، وبالثقة الشعبية التي رفعت واحداً من قيادييها إلى سدة الرئاسة، ولو لتعذر إيصال المرشح المعبر حقيقة عن ضمير الميدان وعن تطلعات ملايين المصريين إلى الخروج من نفق الحكم الفردي المصفح بالعسكر وبالفساد الشامل الذي أنهك «الدولة» في مصر وخرب إدارتها واقتصادها، وألحق قرارها بالهيمنة الأجنبية، وإسرائيل أبرز هذه المصالح وأخطرها. لكن «الإخوان»، الذين أسكرهم هذا الفوز من خارج القدرة والتقدير، قد تصرفوا بكفاءة نادرة المثال لكي يخسروا، وبالسرعة القصوى، هذه الفرصة الاستثنائية التي لم تكن تخطر لهم ببال. لم يعرف «الإخوان» أن يربحوا، ثم ها هم يتصرفون وكأنهم لا يعرفون كيف يحجّمون خسارتهم، وهي هائلة. وهكذا فقد اندفعوا يقامرون بتاريخهم كله وبرصيدهم الشعبي الذي اجتمع لهم حين كانوا في موقع «المقهور» أو «المغلوب على أمره»، والذي تقاتله «الدولة» جميعاً ثم تهادنه في لحظات محددة لكي تستخدمه في قهر حركة الاعتراض الشعبي الواسع أو التزوير عليها بإظهار «الإخوان» نواباً، يبررون للحكم خطاياه ويسفهون معارضيه الذين طالما اتهموه بالديكتاتورية وتزوير إرادة الشعب. هل هذا حديث عن الماضي وفيه؟ أبداً، إنه حديث عن المستقبل... ذلك أن حكم «الإخوان» قد كشف مصر لكل المتربصين بها ممن يريدون التخلص من خطر دورها القيادي في أمتها، واستدرج العديد من القوى المعادية إلى التقدم لمحاولة تدجين الميدان الذي أسقط حكم «الإخوان»، وبأقصى سرعة ممكنة، وشراء انتفاضته بالذهب، للتأثير المباشر في المرحلة الانتقالية، لتنتهي مسيرتها بنتائج تطمئن الخائفين من سيادة المناخ الثوري في المنطقة العربية عموماً. فليس من غير دلالة أن يكون أول من يزور القاهرة، بعد انتفاضة «30 حزيران» وتنصيب الرئيس المؤقت، ومن قبل أن تتشكل الحكومة الانتقالية، نائب وزير الخارجية الأميركية، ثم أن تليه وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، ثم أن يكون أول مسؤول عربي هو الملك الأردني... وكل هؤلاء ليسوا من دعاة الثورة، أي ثورة، وليسوا بالتأكيد من الحريصين أو من المرحبين بعودة مصر إلى دورها القيادي في أمتها العربية. يتصل بذلك التدفق الأسطوري في حجمه، والمباغت في توقيته، للمساعدات والإعانات قروضاً وهبات وبين بين من الدول النفطية، تحت الراية السعودية، التي لم يعرف عنها إيمانها بالثورات الشعبية أو بنصرتها لإرادة التغيير الثوري، أو إيمانها بحق الأجيال الجديدة ونخبهم، ممثلة بشباب ثوري من نمط «تمرد»، في التقدم لقيادة حركة التغيير في دولة عظيمة الأهمية والقدرة على التأثير في محيطها مثل مصر. إن الزوار الضيوف الأوائل الذين توافدوا على القاهرة يشكلون ما يمكن من اعتبارهم «لجنة فاحصة» لنيات قادة حركة التغيير الذين نجحوا بالاتكاء على الجيش في إسقاط حكم «الإخوان» في الميدان وعبر الإرادة الشعبية التي احتشد لإعلانها مدوية عشرات الملايين في القاهرة وسائر المدن والقصبات والدساكر في طول مصر وعرضها. هل هي الخصومة ل«الإخوان المسلمين» أم هو الخوف من أن تكمل حركة التغيير الثوري مسيرتها بعدما استعاد الميدان وعيه وقرر استئناف مسيرته من اجل بناء نظام سياسي يعكس طموحات الشعب المصري إلى إعادة بناء دولته العريقة على أسس من الديموقراطية والعدالة، واستعادة مصر دورها القيادي في أمتها وفي محيطها العربي والأفريقي وصولاً إلى المستوى الدولي؟ هل هو هجوم استباقي من أهل النفط، الذين طالما تصرفوا كمجرد منفذين لإرادة «الخارج»، لمصادرة الثورة بالذهب بعدما فشل حملة الشعار الديني في الهيمنة على ميدانها وشطبه بوصفه القيادة ومصدر القرار في كل ما يتصل بحاضر مصر ومستقبلها ودورها في محيطها؟ إن ملك الأردن ليس أفضل داعية للثورة والثوار، بل لعله أفضل ناقل للهواجس الإسرائيلية ومعها الهواجس الخليجية، وقد تلاقت جميعاً على إظهار القلق من أن يكون «العهد الجديد» في مصر هو الداعية والمبشر والنموذج للتغيير الثوري في المنطقة العربية جميعاً... ولذا فلا بد من محاصرته ومحاولة التسلل إلى صيغة الحكم المؤقتة فيه، للتأثير في قراراتها، بحيث تمهد لاستيلاد مصر جديدة، ولكن غير تلك التي حلم بها ثوار «الميدان» واصطنعوا لها بدل الثورة ثورتين، وما زالوا على سلاحهم حتى لا تسرق الثورة مرة أخرى، ومن الخارج هذه المرة.. و«الخارج» موجود في «الداخل» وبقوة كما يعرف الجميع، وكما ستكشف الأيام المقبلة. "السفير"